نزع الجنسية القضائي للدومينيكيين المنحدرين من أصل هاييتي

إذا ما طُبق أحد القرارات التي صدرت مؤخراً عن المحكمة الدستورية في الجمهورية الدومينيكية على النحو الذي صيغ عليه، فسيكابد آلاف الدومينيكيين مشاكل انعدام الجنسية وستُبعث رسالة إلى الدول الأخرى مفادها أن عمليات إزالة الجنسية الجماعية التعسفية مقبولة طالما أنها أجريت بأمر قضائي.

صار التمتع بالجنسية والحقوق المترتبة عليها في الجمهورية الدومينيكية أمراً مستحيل المنال عند المنحدرين من أصل هاييتي الذين يتراوح تعدادهم بين 250000 و500000 شخص من بين كل عشرة ملايين نسمة تقريباً.[1]وقد عكست التغييرات الأخيرة التي طرأت على دستور الجمهورية الدومينيكية وما تبعها من تفسيرات خاطئة من قبل المحكمة الدستورية في سبتمبر/أيلول 2013 التهديد الذي يواجه المنحدرين من أصل هاييتي والتي تنتزع منهم جنسيتهم كلية مثلما جاء في القانون الدولي بالرغم من كونهم مواطنين بموجب دستور البلاد نفسه.

ولعل من الأسباب الرئيسية وراء تهميش الدومينيكيين المنحدرين من أصل هاييتي عزوف الدولة من قديم الأزل عن الاعتراف بجنسيتهم الدومينيكية. فمنذ 1929 وحتى يناير/كانون الثاني 2010، منح الدستور الدومينيكي الجنسية الدومينيكية لجميع الأطفال الذين ولدوا على الأراضي الوطنية واستثنى منهم أبناء الدبلوماسيين و"العابرين أراضي البلاد" في وقت ولادة الطفل. وقد أصرت الجمهورية الدومينيكية لسنوات على أن الأطفال المنحدرين من أصل هاييتي المولودين في الجمهورية الدومينيكية لا يحق لهم التمتع بحقوق الجنسية الدومينيكية لأن أباءهم كانوا مجرد عابرين للبلاد في وقت ولادتهم حتى إن كانت عائلاتهم قابعة في البلاد لأجيال عديدة.

وفي سبتمبر/أيلول 2005، كانت محكمة البلدان الأمريكية لحقوق الإنسان أول محكمة دولية تصل بما لا يدع مجالاً للشك أن الحظر على أساس التمييز العنصري يمتد إلى قضايا الجنسية. ففي حكم تاريخي في قضية بين يين وبوسيكو ضد الجمهورية الدومينيكية، حكمت المحكمة بأن التطبيق العنصري الذي تجريه الجمهورية الدومينيكية لدستورها وقوانين المواطنة وتسجيل المواليد واللوائح الخاصة بذلك لديها تتسبب في انعدام جنسية الأطفال المنحدرين من أصل هاييتي وتمنعهم من التمتع بالمساواة في حق الحماية أمام القانون. فقد أقرت المحكمة بما يلي" "بالرغم من أن تقرير من هم مواطني دولة ما مازال ضمن نطاق سياسة هذه الدولة، يجب تحديد السلطة التقديرية للدول بحقوق الإنسان الدولية القائمة لحماية الأفراد ضد الإجراءات التعسفية التي تتخذها الدول. فليس للدول ممارسة سلطتها التقديرية بصورة مطلقة في منح الجنسية نظراً لالتزاماتها بضمان المساواة في الحماية أمام القانون وللحول دون حدوث مشاكل انعدام الجنسية وتجنبها وتقليلها".[2]

ومع ذلك، فبوصفه قرار ملزم قانوني، كان لحكم المحكمة أثر معاكس للهدف المقصود منه على الصعيد الوطني. فحتى قبل قضية يين وبوسيكو، سنت الحكومة في 2004 قانوناً للهجرة توسع في تعريف "العابرين لأراضي البلاد" ليضم "غير المواطنين" جميعهم وهي فئة واسعة تشتمل على أي فرد قادر على إثبات إقامته الشرعية في البلاد. ومن هذا المنطلق، يتغير معنى منح الجنسية الوارد في الدستور دون تغيير أسلوب صياغته. وبعد قضية يين وبوسيكو، سار تطبيق هذا القانون بخطى حثيثة. وعلى الرغم من وجود نية لتطبيق ذلك مستقبلياً، بدأت هيئة التسجيل المدني الدومينيكية في تفعيله بأثر رجعي لسحب الجنسية من الدومينيكيين المنحدرين من أصل هاييتي الذين قد اعترفت السلطات مسبقاً بصحة جنسيتهم.

ففي 26 يناير/كانون الثاني 2010، صدقت الجمهورية الدومينيكية على دستور معدل على نحو كبير لا يمنح الجنسية إلا لأطفال "المواطنين" المولودين على الأرض الدومينيكية. وهكذا، لا يتمتع من ولدوا في الجمهورية الدومينيكية عقب يناير/كانون الثاني 2010 ولا يملكون وثائق ثبوتية لجنسية أبائهم الدومينيكية أو لإقامتهم الشرعية في البلاد بحق الحصول على الجنسية الدومينيكية وذلك لأن أباءهم في أعين السلطات غير مواطنين بصرف النظر عن المدة التي قضوها أو قضتها عائلاتهم على أراضي البلاد الدومينيكية والتي قد تمتد إلى أجيال عديدة.

ولعل من الأمور المزعجة أيضاً أن الوثائق الثبوتية الحكومية للإقامة الشرعية المحدد الرئيسي للحقوق التي يجب أن يتمتع بها الفرد وليست الأحداث الواقعية. وقد تجد أن لآباء فرد ما أو لأجداده جميع حقوق المواطنة التي نص عليها الدستور الدومينيكي ولكنهم في الوقت عينه لا يمتلكون ما يثبت ذلك جراء الإخفاقات البيروقراطية أو اللوجستية للدولة أو جراء ممارسات التمييز العنصري المتبعة بها. وبهذا، يُعلي الدستور الجديد من قيمة الممارسات التاريخية للدولة، حتى إن كانت خاطئة أو ناقصة في وقت تنفيذها، لتصبح العوامل المحددة لحقوق الأفراد حالياً في البلاد.

وعقب رفض هيئة التسجيل المدني منح الدومينيكيين المنحدرين من أصل هاييتي وثائق الهوية، مثل: بطاقات الهوية الوطنية وشهادات الميلاد دون امتلاكهم اعترافاً رسمياً أو أوراقاً ثبوتية تدل على جنسيتهم، عانى كثيرون من تدهور أوضاعهم المعيشية. فبالنظر إلى سمة المواطنة على أنها "المدخل للحياة"، لم يعد حق الحصول على الجنسية على المحك وحسب بل امتد ذلك أيضاً ليشمل التمتع بحقوق الشخصية الاعتبارية والمساواة أمام  القانون والحياة الأسرية والتعليم والمشاركة السياسية وحرية التنقل. فبدون الحصول على جنسيتهم قانونياً، ستستمر نظرة الحكومة للدومنيكيين المنحدرين من أصل هاييتي على أنهم دائماً سكان غير شرعيين على أراضي بلادهم.

التطورات الأخيرة

جاءت الصفعة الأخيرة على يد حكم المحكمة الدستورية الصادر في 23 سبتمبر/أيلول 2013 التي قضت بأن جوليانا ديجاس بيير، التي ولدت في الجمهورية الدومينيكية عام 1984، قد سجلت خطأً بوصفها من أصل دومينيكي عند مولدها. فقد قررت المحكمة الدستورية أن والديها، الذين لم يتمكنا من إثبات أن هجرتهم إلى الجمهورية الدومينيكية كانت "نظامية"، "أجانب عابرين لأراضي البلاد" بموجب التشريعات المحلية الدومينيكية. وبهذا، لم يكن لجوليانا حق المواطنة الذي قد مُنحته عند ولادتها وأقرت المحكمة ضرورة سلبها هذا الحق. وقد أمرت المحكمة الدستورية أيضاً هيئة التسجيل المدني بفحص جميع شهادات الميلاد جميعها الصادرة منذ عام 1929 وحذف جميع الأشخاص المسجلين خطأً والمعترف بهم بوصفهم مواطنين دومينيكيين.

وكان قراراً غير مسبوقاً من قبل المحكمة الدستورية. فبادئ ذي بدء، من حيث أعداد المتضررين، زعم بعضهم أن هذا القرار سيتمخض عن فقدان ما يناهز 200,000 شخص لجنسيته. فالاعتراف المسبق بهم بوصفهم دومينيكيين جردهم من أحقيتهم في الجنسية الهاييتية إلا إذا ما تمكنوا من اكتساب الجنسية الهاييتية التي لن تتأنى لهم إلا بالإقامة مجدداً في هاييتي. 

ثانياً، يتجاهل قرار المحكمة الدستورية على نحو صارخ حكم قضية يين وبوسيكو الملزم قانونياً وينتهك الدستور الدومينيكي الذي ينص على ضرورة عدم تطبيق أحكامه بأثر رجعي ويؤكد على أنه عند تعارض سلطتين قانونيتين يجب أن يسود المبدأ الذي يكفل الحقوق الفردية أكثر من غيره. وبعيداً عن محكمة البلدان الأمريكية والدستور الدومينيكي، ثمة ثلاث مبادئ حقوق إنسان تؤطر تشريع المواطنة، هي: حظر ممارسات التمييز العنصري، وحظر أسباب انعدام الجنسية، وحظر الحرمان التعسفي للتمتع بحق المواطنة. إلا أن قرار المحكمة ينتهك هذه المبادئ الثلاثة.

ردود الفعل تجاه هذا القرار

كان للقرار أثر صادم في جميع أرجاء البلاد والمنطقة ومجتمع حقوق الإنسان الأوسع. فما معنى أن تتخذ الهيئة المعنية بتفسير الدستور قراراً متنافياً مع معنى النص الدستوري نفسه؟ وما هو دور القانون في هذه الحالة؟

ويمكن الزعم أنه يحق للسلطة التنفيذية الدومينيكية عدم تنفيذ هذا القرار انطلاقا من احترام الدستور نفسه، ولكننا نجد في الوقت نفسه اقتناع كثير من الدومينيكيين بأهمية احترام هذا القرار لأنه صدر عن أعلى محكمة في الدولة حتى إن كانوا يشعرون في قراره أنفسهم بأخطاء هذا القرار.

وقد أعرب كل من مفوضية الأمم المتحدة السامية للاجئين واليونيسيف والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عن اهتمامهم بهذه القضية. وقد شجبت الجماعة الكاريبية بصراحة هذا القرار بأن علقت النظر في طلب الجمهورية الدومينيكية الانضمام للجماعة الكاريبية وطالبت بضرورة مناقشة الوضع مرتين في المجلس الدائم لمنظمة الدول الأمريكية. وقد انتقد الشتات الدومينيكي في الولايات المتحدة عموماً القرار وقد يعود ذلك لتخيلهم ما قد تؤول إليه حياتهم إذا ما قررت الولايات المتحدة الأمريكية إتباع المبدأ نفسه.

وها هي الأعين تتحول جميعها إلى مدينا، رئيس حكومة الجمهورية الدومينيكية، المعني بتنفيذ قرار المحكمة الدستورية. فقد سارع بتقديم اعتذار لجميع المتضررين من هذا القرار فور صدوره مؤكداً أنه لن يُسلب أي شخص جنسيته ثم ما لبث أن تراجع عن اعتذاره وبرر ذلك بضرورة احترام قرار القانون على الرغم من قلقه إزاء الآثار الإنسانية التي قد تترتب على مثل هذا القرار، وسرعان ما طالب بتحليل أوضاع المتأثرين بهذا القرار وتقييمها قبل أن يعلن نهائياً بأن الحكومة سائرة قدماً على طريق تنفيذ هذا القرار.

وعقب ثلاثة أشهر من إصدار قرار المحكمة الدستورية، أجرت لجنة البلدان الأمريكية لحقوق الإنسان زيارة للجمهورية الدومينيكية. وأثناء مهمتها، أعلن الرئيس مدينا طرح مشروع قانون للتجنيس إلى مجلس النواب لإرجاع الجنسية للمتضررين من هذا القرار الذين سبق أن اعترفت هيئة التسجيل المدني فعلياً بحقوق مواطنتهم. إلا أن "مشروع قانون اكتساب الجنسية الخاص" هذا تعطل كثيراً.

وبعد انتهاء مهمتها، قررت اللجنة ضرورة أن تشتمل إجراءات تنفيذ قرار المحكمة الدستورية على:

  • ضمان حق التمتع بالجنسية لدى الأفراد الذين يحظون فعلياً بهذا الحق بموجب النظام القانوني المحلي المفعل منذ 1929 إلى 2010.
  • عدم الاشتراط على الأشخاص الذين انتُزعَت جنسيتهم  فنياً، بموجب القرار للتسجيل بوصفهم أجانب وجعله شرطاً أساسياً للاعتراف بحقوقهم.
  • التأكد من أن ضمانات تمتع المتضررين من قرار المحكمة الدستورية بحق الجنسية عامة وتلقائية وألا تكون تقديرية أو تنفذ بطريقة تمييزية.
  • ضمان أن آليات استعادة حق المواطنة أو ضمان التمتع بهذا الحق ميسرة مالياً.
  • إشراك المجتمع المدني وممثلي المتضررين في قرار المحكمة.[3]

فإذا ما تجلت هذه المبادئ في "خطة تقنين أوضاع الأجانب غير النظاميين في الجمهورية الدومينيكية"، فقد نتمكن من تفادي جزء من عدم الإنصاف المتأصل في قرار المحكمة الدستورية.

وقد حان الوقت لأن يجد المجتمع الدولي طريقة للتعبير عن أن "سيادة القانون" لا تشير إلى أي شيء أو إلى كل شيء تقره المحكمة ولكن لهذه السيادة مضموناً مستقلاً وإجرائياً وعلى المجتمع الدولي أن يرفع التكلفة السياسية التي ستتكبدها الجمهورية الدومينيكية إذا ما شرعت في تنفيذ قرار المحكمة الدستورية على هذا النحو.

 

ليليانا غامبوا liliana.gamboa@opensocietyfoundations.org مسؤولة البرامج في مشروع المساواة والمواطنة وجوليا هارينغتون ريدي julia.harringtonreddy@opensocietyfoundations.org مسؤولة قانونية رئيسية في مشروع المساواة والمواطنة في مبادرة العدالة في المجتمع المنفتح. www.justiceinitiative.org

 



[1]انظر ودينغ ب. "تفنيد ممارسات التمييز العنصري وانعدام الجنسية في الجمهورية الدومينيكية", مجلة الهجرة القسرية، العدد 32 "انعدام الجنسية". www.fmreview.org/ar/pdf/NHQ32/23-25.pdf

(Contesting discrimination and statelessness in the Dominican Republic)

[2]ديلسيا يين وفيوليتا بوسيكو ضد الجمهورية الدومينيكية، محكمة البلدان الأمريكية لحقوق الإنسان، قضية رقم 12,189 (سبتمبر/أيلول 8، 2005).

[3] "الملاحظات الأولية لزيارة لجنة البلدان الأمريكية لحقوق الإنسان إلى الجمهورية الدومينيكية",لجنة البلدان الأمريكية لحقوق الإنسان، سانتو دومينجو، 6 ديسمبر/كانون الأول 2013. www.oas.org/en/iachr/media_center/PReleases/2013/097A.asp

(Preliminary Observations from the IACHR’s Visit to the Dominican Republic)

 

إخلاء مسؤولية

جميع الآراء الواردة في نشرة الهجرة القسرية لا تعكس بالضرورة آراء المحررين ولا آراء مركز دراسات اللاجئين أو جامعة أكسفورد.