المشكلات التي تواجه بورما في المرحلة الانتقالية

إلى أن تتمكن حكومة بورما من قبول دور الجماعات المُسلَّحة من غير الدُّول كحماة للسكان المدنيين وإضفاء صفة الشرعية عليهم ضمن الإطار القانوني، سيظلّ النزاع المستمر والنزوح الجماعي أمراً محتوماً.

عبر عقود من النزاعات الوحشية التي أتت على آلاف القرى وتسببت في نزوح الملايين ، لم يبذل النظام الحاكم في بورما أي جهد يُذكر لتقديم الدعم للمدنيين المتأثرين. ونتيجة ذلك، رأت الجماعات العرقية المُسلَّحة من غير الدُّول في بورما أن تسيطر على الأراضي التي تغطي ربع مساحة البلاد، بالإضافة إلى تمثيل دور أساسي في تفير الحماية والمساعدات الإنسانية. 

ويختلف التوجه نحو الحُكم الذي تتخذه الجماعات المُسلَّحة من غير الدُّول من جماعة لأخرى، كما الأمر بالنسبة لمستوى الدعم المرغوب المولى لهم من سكان المناطق الخاضعة لسيطرتهم. وفي هذه الثقافات التقليدية، تطوَّرت بُنى القيادة الهرمية عبر الزمن، وهي تستند في الغالب إلى ولاء من يقدمون الدعم والحماية. والآن، أصبح هناك مكانة قوية للقادة المرتبطين بالجماعات المُسلَّحة من غير الدُّول أو الذين يمثلون جزءاً منها كمسؤولين عن حوكمة ملايين الأشخاص في بورما. ويمثل هذا الموقف تهديداً للدولة التي استجابت بدورها باستخدام القوة الوحشية، فعملت بذلك على تأبيد دورة النزاع وصور النزوح المطوّلة.

ويمكن تقسيم المناطق الواقعة تحت سيطرة الجماعات المُسلَّحة من غير الدُّول في بورما إلى ما هو معروف "بالمناطق السوداء" للجماعات المُسلَّحة النشطة و"مناطق وقف إطلاق النار" الخاضعة تحت سيطرة من أبرموا اتفاقيات مع الحكومة الوطنية خلال الأعوام الخمس عشرة الماضية. وتعد هذه المناطق موئلاً جماعياً لملايين من المدنيين، الذين فر كثير منهم من مناطق النزاع أو الأحكام العرفية للبحث عن المأوى والدعم الإنساني. وفي كثير من هذه المناطق،  توفّر القطاعات المدنية في الجماعات المُسلَّحة من غير الدُّول تقديم خدمات التعليم والرعاية الصحية والدعم المتخصص للشباب والنساء، بالإضافة إلى الإغاثة الطارئة على نحوٍ أوسع من الخدمات التي تقدمها الدولة في المناطق القريبة، وذلك في أغلب الحالات. لكن هناك كثير من العوائق الماثلة أمام عمال خدمة المجتمع الداعمين لهذه المشروعات، عدا عن أنَّهم مقيدون ومعرضون للاعتقال المستمر من قِبل عناصر الجيش البورمي.

وتعدُّ الدولة النازحين الفارين إلى "المناطق السوداء" داعمين للمتمردين ويتعرضون باستمرار لتهديدات ارتكاب العنف بحقهم. ولا يتلقى من يعيش في مناطق وقف إطلاق النار أي دعم من الحكومة ويواجهون، منذ عام 2009، حوادث متفرقة من الإساءة، بصورة متزايدة، على يد الجيش البورمي. وبالنسبة لكثيرٍ من هؤلاء الأشخاص الذين ينحدر أغلبهم من الأقليات العرقية، فهم ينظرون إلى جميع أنواع الإدارة التي تقدمها الحكومة على أنها تهديد لهم لا على أنّها إدارة حكومية حقيقية.  ومثل هذه التوترات تؤدي إلى تفاقم النزاعات ونفور الجماعات العرقية من الغرباء وزيادة اعتماد الأفراد على دعم الجماعات المُسلَّحة من غير الدُّول.

تحديات ما بعد الانتخابات

في الوقت نفسه، يلاحظ أنَّ المناطق الخالية من النزاعات في بورما تمر في حالة انتقال سياسي أتاحت دخول مجموعة جديدة من الفاعلين الإنمائيين، كما قدّمت مسوّغات جديدة لدخول المانحين الدوليين أيضاً. وكانت الانتخابات التي أُقيمت في تشرين الثاني/نوفمبر من العام 2010 فاسدة، كما توقّع أغلب الأفراد، إلى جانب استمرارها في تعزيز هيمنة القوانين العسكرية. لكن، وبالتوازي مع ذلك، لاحظ أغلب المانحين والحكومات الأجنبية تخفيف الجيش لقبضتته على المجتمع المدني، ما مهّد الطريق أمام فضاءٍ غير مسبوق للدعم والتنمية الإنسانية. لكن بالتوازي مع ذلك، وُجهت الأوامر لجميع الجماعات المُسلَّحة من غير الدُّول بإشراك أعضائها في الجيش البورمي "كقوات لحراسة الحدود"، ما أثار سلسلة جديدة من التهديدات للمجتمعات المدنية وقلل من الأمل في التوصل إلى المصالحة بين الجيش والجماعات المُسلَّحة من غير الدُّول أو قطاعاتها المدنية. وقد رفضت أغلب الجماعات المُسلَّحة من غير الدُّول الانضمام للجيش البورمي وتتوقع الآن ارتكاب الجيش البورمي لالجرائم الجماعية التي من المحتمل أن تؤدي إلى نزوح مئات الآلاف من المدنيين. وفي تشرين الثاني/نوفمبر 2010، شن الجناح المنفصل عن جيش كارين البوذي الديمقراطي -الذي رفض أوامر الحكومة- هجمات على الجيش البورمي الذي رد فيما بعد بالاستخدام المفرط للمدفعية، ما أدى إلى نزوح 20000 مدني على الأقل. وقد استمر ذلك الحال حتى بدايات عام 2011، مع تحرك اللاجئين عبر الحدود وإعادتهم يومياً منذ بدء المناوشات.

وعموماً، رغم أنَّ الأجزاء الأخرى من بورما شهدت تحسينات في التنمية والنفاذ إلى الخدمات مع إعادة تنظيم الإطار الاقتصادي والسياسي للدولة ، فإنّه من المرجح أن لا يُترك سوى القليل للمجتمعات المُهمّشة في شرق البلاد، كما أنها ستعاني من مزيد من النزاعات نتيجة الحركة الانتقالية العامَّة في البلاد. فإذا كُتب النجاح لخطط الجيش، وإذا انضمت الجماعات المُسلَّحة من غير الدُّول في الجيش، ستضيع هباءً سنوات الخبرة والتدريب لموظفي القطاعات المدنية للجماعة المُسلَّحة من غير الدُّول، ناهيك عن المعلمين والأطباء والمديرين وغيرهم.

وهذا يمثل معضلة بالنسبة للفاعلين الدوليين الذين، بالإضافة إلى الجماعات المُسلَّحة من غير الدُّول في بورما، يقدمون الدعم لهؤلاء السكان، فما مدى دور الدعم للجماعات المُسلَّحة من غير الدُّول في تكريس الانقسامات الحالية واستدامة النزاعات؟ ومن اللازم على الوكالات التنموية أن تتجنب إضفاء الشرعية على أي جماعة مسلحة عن طريق السماح لهم بالمشاركة في توزيع الإمدادات الممولة دولياً. لكن عندما تكون الحكومة الوطنية هي نفسها جماعة مسلحة (وربما أكثر من عدد من الجماعات السياسية المرتبطة بالجماعات المُسلَّحة من غير الدُّول في بورما)، فإنه من اللازم اتخاذ الخيارات الصعبة التي لن تقتصر على الاعتبارات الأخلاقية، بل إنَّها تتضمن أيضاً النظر في عدم وجود جدوى عملية لدعم الجماعات التي لا تعمل، مع الأسف، على المساعدة في إحداث التغيير. وهذا ينطبق، خلال الأعوام الأخيرة، أكثر على الفاعلين التنمويين، كما يرى الباحثون أنَّ تطوير المجتمع المدني تحت رعاية الحكومة العسكرية لن يأتي بالنجاحات غير المسبوقة في التنمية فحسب ولكنه سيساعد أيضاً على إحراز التغيير السياسي عبر الزمن.

لكنّ البيئة الحالية من غير شك تفرض حقيقة هي  إنَّ سحب الدعم المقدم عن طريق الجماعات المُسلَّحة من غير الدُّول سيضر كثيراً بالأفراد الخاضعين لحكمهم على المدى القصير ولن يضمن بأي حال من الأحوال الحصول على المنافع على المدى البعيد. وإلى أن تجد حكومة بورما الحل السياسي الحقيقي الذي يشرك قادة الجماعة المُسلَّحة من غير الدُّول، فإنه من المحتمل لبيئة وكالات المساعدة الإنسانية أن تبقى محلاً للنزاع، بل يجب عليها أن تشتمل على تقديم الدعم من خلال هذه الجماعات. حينئذٍ، سيأتي التركيز العملي على ما يمكن القيام به لتشجيع مزيد من التعاون بين الجماعات الشرعية للمجتمع المدني (أي التي تسمح بها الحكومة) وجماعات المجتمع المدني التابعة للجماعات المُسلَّحة من غير الدُّول لضمان عمل الجماعات، متى كان ذلك ممكناً، ضمن إقليم الجماعات المُسلَّحة من غير الدُّول في تقديم الخدمات بصورة شرعية في المستقبل.

إن هناك شعاع من الأمل في وجود بعض جماعات المجتمع المدني التابعة للجماعات المُسلَّحة من غير الدُّول القادرة على العمل على الأراضي الحكومية مؤخراً. ويقدم فرع التعليم في واحدة على الأقل من الجماعات المسؤولة عن وقف إطلاق النار الدعم لمدارس المرحلة الأساسية في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة، وذلك من خلال  الأديرة. لكن يعتمد التساؤل حول الجدوى المستمرة لمثل هذه البرامج على نتائج التفجّرات المتوقعة للنزاعات والموقف الذي ستتخذه السلطات المحلية تجاه الجماعة التي تعدها السلطات غير مشروعة نظراً لرفضها الانضمام إلى الجيش. وما يُنذر بالسوء أنَّ مكاتب منظمة استقلال كاشين وحزب ولاية مون الجديد قد أُغلقت بالفعل في الأراضي الحكومية وأُلقيَ القبض على عدد من العمال الشباب من منظمة استقلال كاشين في أوائل عام 2010، زعماً أنَّ ذلك الاعتقال كان ضمن حملات البحث عن الإرهابيين الذين يشنّون حملات التفجيرات في البلاد.

ومن المؤكد الآن استمرار اتجاه الحكومة على مدى العقود، والتي اتخذت نهجاً عسكرياً من جانب واحد تجاه حل النزاعات، وكذلك استمرارها في تطبيق سياسة عدم التمييز بين الجنود والعمال المدنيين المرتبطين بجماعات المعارضة السياسية. ودون القيام بهذه التنازلات، ستحتفظ الجماعات المُسلَّحة من غير الدُّول بالأسلحة وستسمر في مناطق النزاعات النشطة باستهداف القوات الحكومية عن طريق نصب الكمائن وزراعة الألغام الأرضية واتباع غير ذلك من تكتيكات حرب العصابات، حتى لو أزيلت مقومات قوتهم بنجاح. وهذه الأنشطة تحمي السكان المستضعفين، لكنها أيضاً تثير الانتقام ضد المدنيين، ما يوجد حلقة مفرغة من النزاعات وموجات النزوح.

الخلاصة

يُظهر بعض المعلقين التفاؤل حول البدء بإيجاد فضاء الإغاثة والمساعدات التنموية المسموح بها رسمياً ، في المناطق الخالية من النزاعات أولاً ثم في المناطق الأخرى لاحقاً. لكن، ما لم تتسبب بعض الأحداث في التحول الجذري داخل اللجنة الحاكمة للواءات العسكرية أو إلغائها، تلك اللجنة المستمرة في السيطرة على السياسات في بورما، فعلى الأرجح لن يتحقق ذلك الفضاء المنشود قبل بضعة عقود من الزمن، ما يجعل استمرارية الدعم من خلال الجماعات المُسلَّحة من غير الدُّول أمراً أساسياً.

وفي الوقت نفسه، سيتعين على العاملين بصورة شرعية في بورما تخطي الحدود للنفاذ إلى السكان المستضعفين، بغض النظر عمّن يسيطر على أراضيهم. لكن هذا الأمر لن يكون سهلاً، فوفقاً لأحد قادة المنظمات غير الحكومية المحلية العرقية في ياغون: "لدينا الرغبة في رفع مستوى تعاوننا والعمل مع الجماعات المجتمعية في المناطق الحدودية، لكنّ الحكومة إن نظرت إلينا على أننا نجري الاتصالات، فسوف تعتقد أننا ندعم المتمردين." إضافة إلى ذلك، وحسب تعليق أحد المستشارين الأجانب لعدد من المنظمات الدولية غير الحكومية في ياغون: "إنه من الصعب أن تُبرم مذكرة تفاهم للتنمية في معظم المناطق الآمنة في البلاد. فالجماعات المُسلَّحة من غير الدُّول ستزن الأمور بين المناطق الفقيرة الآمنة ومناطق النزاع ثم تختار أرض معاركها... [و] ربما تكون المنظمات الدولية غير الحكومية عازفة عن إرسال موظفيها للمناطق الخطرة على أي حال من الأحوال."

وستبقى الجماعات المُسلَّحة من غير الدُّول عنصراً حاسماً في تقديم الدعم لعدد غير هيّن من النازحين في بورما ما لم تغير الحكومة موقفها نحو الحوكمة في تلك المناطق. وسيستمر أغلب النازحين وغيرهم من المدنيين في اختيار العيش تحت إمرة الجماعات المُسلَّحة من غير الدُّول، وستبقى معتمدة على الدعم الدولي. ويجب أن تصير خطوات تشجيع التقارب بين الأفكار والموارد بين المجتمع المدني الشرعي والجماعات المرتبطة بالجماعات المُسلَّحة من غير الدُّول أساسية لتحقيق السلام والتنمية في المستقبل في هذه المناطق، إلا أنها تقدم قليلاً من الحلول لأزمة النزوح. ومن اللازم أن يراعي المانحون الدوليون الدعم المتزايد، والذي يُدار من تايلاند، لأغلب السكان المستضعفين، مع العمل نحو تحقيق هدف التقارب بعيد المدى.

عمل كيم جوليف (SPCM88@gmail.com) على بحث النزاعات وتدريب الجماعات المجتمعية في بورما خلال العامين الماضيين.

إخلاء مسؤولية

جميع الآراء الواردة في نشرة الهجرة القسرية لا تعكس بالضرورة آراء المحررين ولا آراء مركز دراسات اللاجئين أو جامعة أكسفورد.