تاريخ حق عدم التَّهجير ووضعه القانوني

تتشارك الشذرات الموجودة في القوانين الحالية المتعلقة بالتهجير العشوائي بخيط واحد يكشف لنا حق الإنسان في ألاا يُهجَّر. ومع أنَّ وجود هذا الحق قد يبدو بديهياً واضحاً للعيان فهو لم يُقرُّ بعد في أي من الصكوك القانونية.

في عام 1993 وفي سياق أزمة التهجير الكبيرة التي عاشتها يوغوسلافيا السابقة، تحدثت ساداكو أوغاتا، المفوض السامي للأمم المتحدة للاجئين للمرة الأولى عن "حق البقاء". وكانت ساداكو وقتها تخاطب مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان وتحدثت بكل صراحة وجرأة عن حق الناس في البقاء في بيوتهم ومواطنهم بسلام ما يعكس نقلة في طريقة تفكير مفوضية الأمم المتحدة السامية للاجئين حول قضايا حقوق الإنسان وانتهاكات حقوق الإنسان التي تقود إلى إطلاق تحركات اللاجئين.

ومنذ السبعينيات إلى الآن، لم يلاحَظ أي تركيز في القانون الدولي حول الجوانب المختلفة للتهجير العشوائي كعمليات الطرد الجماعية أو التحولات السكانية كما لم يلاحظ أي نداء ودعوة لمنعها. ثم تطور هذا العمل ضمن دراسات شاملة للأمم المتحدة في التسعينيات حول التحولات السكانية كما نشأ فرع جديد للدراسات في الأمم المتحدة حول عمليات الإخلاء القسري، وفي الوقت نفسه كانت منظمة العمل الدولية تعمل على صعيد آخر على استكشاف التهجير وحقوق الشعوب الأصلية، كما كان البنك الدولي وغيره من المنظمات يتناظرون حول التهجير المدفوع بالإنماء.

وجاء أول اقتراح أكاديمي بالصياغة التالية لحق الإنسان في عدم التهجير:

"لا يُجبر أي شخص كان على مغادرة بيته ولا يُجبر أي شخص كان على الانتقال أو الطرد من البلد الذي يحمل جنسيته أو منطقة إقامته الاعتيادية ما لم تكن تلك الظروف منصوص عليها في القانون حصراً لأسباب قاهرة تخص الأمن الوطني أو لحاجات واضحة تمس رفاه هؤلاء الأشخاص أو في حالات الطوارئ كما في الكوارث الطبيعية أو التي يتسبب بها الإنسان. وفي مثل هذه الأحوال، تُتَّخذ جميع التدابير الممكنة لضمان سلامة مغادرة الناس وإعادة استيطانهم في مكان آخر...." [i]

لكن ليس الجميع أعجبهم الترويج لحق عدم التهجير أو حق البقاء فهناك معارضون ممن أغضبهم على ما يبدو كلام أوغاتا حول "حق البقاء" الذي نظروا إليه على أنه شكل ازدواجاً لقانون حقوق الإنسان الحالي وأنه علاوة على ذلك يشكل خطراً أمام حق اللجوء. أما المؤيدون فقد ذكروا أنَّ الوضوح والشمولية في قانون النزوح ليسا فحسب صفتين مرغوب بهما بل إنَّ هناك حاجة ماسة لهما. بل هناك من ذهب إلى أبعد من ذلك فقالوا إنَّ دمج "قانون النازحين" الوليد بقانون اللاجئين التقليدي القائم على المعالجة الشاملة لحقوق الإنسان للهجرة القسرية ضمن عالم التهجير إنما يشكل انتهاكاً واضحاً أيضاً.

ما كان عمل حماية اللاجئين التقليدي قوياً في معالجة القضايا الخاصة بالتهجير مع أنه يمكن القول أيضاً إنَّ هذا الخلل الواضح مصدر قوة بحد ذاته لأنه يحيط بالشخصية الإنسانية (غير السياسية) للجوء. وإلى الدرجة التي كان فيها بمقدور كوادر مفوضية الأمم المتحدة السامية للاجئين في التسعينيات فهم عملهم الحمائي من منظور حقوق الإنسان فقد كانوا يميلون بالمنطق إلى التركيز على تأكيد حرية الناس في الحركة بدلاً من الحق المراوغ للبقاء وتلقي الحماية في مكانهم. وفي حين أنَّ الوكالة الدولية وجدت نفسها تنخرط أكثر من ذي قبل في النزاعات المسلحة وأصبحت أقرب مادياً من ذي قبل من الانتهاكات الجسيمة جداً لحقوق الإنسان التي تقود إلى التهجير فقد كان الاعتقاد السائد أنَّ النزوح الداخلي هو القضية التي كانت بحاجة إلى تعبئة الفراغ القانوني بشأنها في حين بقي اللجوء على أنه الملاذ الأخير الذي لا يكمن الاستغناء عنه.

اكتساب الزخم

في عام 1992 تولى الممثل الأول للأمين العام للأمم المتحدة حول النازحين داخلياً السيد فرانسيس م. دنغ مهامه، وعلى الفور أوضح أنه يعتبر التعامل مع أسباب النزوح جزءاً لا يتجزأ من أي جهد يُبذل للترويج لحقوق النازحين داخلياً. ومع ذلك، فقد استغرق الأمر منه وقتاً ليقنع فريقه من الخبراء القانونيين بذلك. وتحت عنوان "المبادئ المتعلقة بالحماية من التهجير" (الذي لا ينحصر بالتأكيد على النزوح الداخلي وحده) تنص المبادئ من 5 إلى 9 من المبادئ الإرشادية للنزوح الداخلي على "[حق كل إنسان] في تلقيه الحماية من تعرضه إلى التهجير العشوائي من بيته أو من مكان إقامته الاعتيادي" كما أنها تنص على الظروف والمعايير والطرائق (الجوهرية منها والإجرائية) التي يُسمح على ضوئها بالتهجير. ويقع على عاتق الدول واجب احترام حق عدم إجبار الناس على التهجير العشوائي وكذلك واجب حماية هذا الحق من تهديدات الفاعلين من غير الدول كالميليشيات المسلحة أو في بعض الظروف الخاصة كالكوارث الطبيعية أو الكوارث التي يتسبب فيها الإنسان.

وكان لدى فريق صياغة المبادئ الإرشادية حس مميز بأن المبادئ من 5 إلى 9 كانت تفتح آفاقاً جديدة في القانون الدولي مع أنَّ المبادئ الإرشادية ككل لم تكن وليست سوى "قانوناً تجريبياً". كما أنَّ المبادئ الإرشادية تعالج قضية تثير شواغل البعض وهي أنَّ حق عدم التهجير قد يُعرِّض للخطر حق اللجوء بل قد يستبدله وذلك بتحديد المبادئ على أنها "تسري دون المساس بحق اللجوء والتمتع به في الدول الأخرى"[ii] وبالفعل يمكن اعتبار هذين الحقين الإنسانيين على أنَّ كل منهما يكمل الآخر وأنهما يمنحان خياراً (من الناحية النظرية على الأقل) لضحايا التهجير المحتملين: إما البقاء أو الانتقال إلى مكان آخر.

ومنذ صياغة المبادئ الإرشادية حول النزوح الداخلي، اعتُرف بحق عدم التهجير صراحةً في عدد من الصكوك الدولية والإقليمية ودون الإقليمية. ففي عام 2000، كرَّست جمعية القانون الدولي وهي منظمة غير حكومية جهودها لدراسة وتطوير القانون الدولي وتبنت إعلان لندن لمبادئ القانون الدولي حول النازحين الداخليين وتضمن ذلك الإعلان إشارة واضحة وصريحة لحق عدم التهجير. [iii]وبعد مرور خمسة أعوام، جاء المُقرِّر الخاص للإسكان وإعادة الممتلكات باولو سيرجيو بينيرو ليحدد مبادئ الأمم المتحدة المتعلقة بالإسكان وإعادة الممتلكات للاجئين والنازحين الداخليين (فيما يعرف بمبادئ بينيرو). ويقر المبدأ 5(1) منه صراحةً بحق عدم التهجير العشوائي إلى درجة تكاد تكون متطابقة مع النص الوارد في المبادئ الإرشادية. ومع أنَّ هذه الصكوك ليست ملزمة قانوناً فإنها دليل على انتشار القبول بشأن المبادئ من 5 إلى 9.

وفي عام 2006، تبنت إحدى عشرة دولة أفريقية من منطقة البحيرات العظمى البروتوكول الخاص بحماية النازحين داخلياً وحمايتهم. وكان هذا البروتوكول أول صك ملزم قانوناً يجبر الدول على تنفيذ المبادئ الإرشادية للنزوح الداخلي (ومن هنا حق عدم التهجير). وختاماً، كان التطور المهم تبني الاتحاد الأفريقي عام 2009 لاتفاقية ملزمة قانوناً هي اتفاقية حماية النازحين داخلياً في أفريقيا ومساعدتهم (اتفاقية كامبالا) التي تنص في الفقرة الرابعة من مادتها الرابعة صراحةً على حق الإنسان في عدم تهجيره.

وعلى الصعيد العالمي، بلغ عدد الدول حتى الآن اثنتي عشرة دولة ممن أدخلت المبادئ الإرشادية في تشريعاتها وسياساتها الوطنية و/أو استلهمت أحكاماً أخرى منها لتعبر على الأقل عن قبول ضمني لحق عدم التهجير. وبعبارة أخرى، فإنَّ حق عدم التهجير قد حظي في مناسبات عدة باعتراف بأنه حق إنساني عالمي قابل للتطبيق وبذلك يمكن اعتباره على أنه حق ناشئ في القانون الدولي. ولا مجال للشك في أن ذلك الحق جزء أساسي أو ضمني من حقوق الإنسان الراسخة الأخرى وخاصة حق حرية الحركة والإقامة وحق الحفاظ على الحياة الخاصة وحق الحصول على الإسكان الكاف.

ومع ذلك، فإنَّ "تأثير التسمية" -أي إعادة صياغة وتوضيح معيار قانوني بطريقة ملزمة قانوناً أو بصك سلطوي وصولاً إلى تعريف صريح لما هو ضمني في القانون الدولي- ستنعكس على الأرجح انعكاساً ملحوظاً على تعزيز منظومة الحماية القائمة.

 

فالاعتراف الصريح بحق عدم التهجير له قيمة رمزية لا يستهان بها، فهي تقدم إشارة واضحة للفاعلين من الدول ومن غير الدول المتسببين بتهجير الناس وذلك عن طريق التأكيد على السمة غير المتسامح بها لتلك الممارسات. وبالإضافة إلى ذلك، فإن هذا الاعتراف يساعد على تقديم إطار عمل قانوني متين يسترشد به الفاعلون المسؤولون في مختلف واجباتهم بما يتصل بمنع التهجير العشوائي. وبالنسبة للضحايا المحتملين للتهجير العشوائي، فسوف يخفف ذلك من صراعهم مع السلوك الذي تنتهجه الدولة أو قرارات سياساتها قبل أن تقود تلك العوامل إلى التهجير غير المشروع.

وعلاوة على ذلك، فإنَّ حق عدم التهجير يوفر لضحايا التهجير العشوائي الراغبين في مساءلة دولهم بأساس قانوني أقوى في رفع قضاياهم وفي نجاح دعواهم المطالبة بالانتصاف والتعويض لدى الهيئات القضائية وشبه القضائية، بعد أن أصبحوا في غنى عن الاستعانة بحقوق الإنسان الأخرى لتحقيق مطالبهم.

الخطوات المستقبلية

تضع معظم الصكوك صراحة أسساً لحق عدم التهجير على صورة "قانون تجريبي". ولكي نتمكن من تعزيز الحماية القانونية من التهجير لا بد من اتباع ثلاثة أمور. أولاً، لابد لحق عدم التهجير أن يحظى باعتراف ثابت من قبل الجهة المعنية والمختصة (كالجمعية العمومية للأمم المتحدة أو مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان) وذلك ضمن صك دولي سلطوي (كأن يكون اتفاقية جديدة أو بروتوكولاً ملحقاً باتفاقيات حقوق الإنسان الحالية أو قراراً). وربما يُستحسن تشكيل مجموعة للعمل تحصل على تفويض عملها من مجلس حقوق الإنسان بهدف دراسة أو إعادة دراسة حق عدم التهجير وصياغة صك قانوني مناسب. [iv]

ثانياً، لابد من بذل الجهود في المضي قدماً في توضيح وترسيخ محتويات حق عدم التهجير، ويجب أن تتضمن هذه الجهود تأسيس نطاق التطبيق الشخصي والجوهري والإقليمي والزماني وتوضيح الحقوق المعزوة إلى الأفراد والتزامات الدول بأكبر دقة ممكنة وكذلك تفصيل الظروف التي يمكن تقييد الحق بموجبها تقييداً قانونياً. ولابد لمحاكم حقوق الإنسان والمفوضيات واللجان المعنية بالإضافة إلى جموع الباحثين أن يشاركوا جميعاً في توضيح حق عدم التهجير وتوضيحه.

ثالثاً، يجب أن يكون حق عدم التهجير أكثر من مجرد إعلان رفيع المستوى للنوايا. فيجب على المستويين الدولي والمحلي إدخال التدابير والمبادرات اللازمة لغايات تطبيق هذا الحق وإنفاذه قانوناً  وتحقيقه على أرض الواقع. وتدابير التطبيق والإنفاذ تلك يجب أن تهدف إلى منع التهجير العشوائي، وإيقاف الانتهاكات المستمرة لحق عدم التهجير، ومعاقبة المنتهكين معاقبة فعالة، وتوفير الانتصاف والتعويضات لضحايا التهجير العشوائي بما في ذلك النفاذ إلى العدالة وإعادة الممتلكات و/أو التعويض وإعادة التأهيل. أما على المستوى الدولي، فعلينا أن نقترح إنشاء لجنة جديدة للحماية من التهجير العشوائي لرصد حق عدم التهجير وإنفاذه.

وينبغي ألا يبقى الاعتراف بحق عدم التهجير ولا إنفاذه سعياً للكمال فالتعامل مع التهجير من جذوره باتباع منهج مبني على الحقوق هو الطريق الذي لا شك بأننا سنتبعه للسير قدماً إلى الأمام.

 

ميشيل موريل michele.morel@gmail.com باحثة على وشك إنهاء رسالتها في حق عدم التهجير استكمالاً لمتطلبات الحصول على درجة الدكتوراه ، جامعة غينت، بلجيكا www.ugent.be/re/internationaal-publiekrecht/en

ماريا شتافروبولو maria.stavropoulou@gmail.com مديرة حالية لدائرة اللجوء اليونانية. كانت عضواً في فريق صياغة المبادئ الإرشادية حول النزوح الداخلي.

جان-فرانسوا دوريو alibabadurieux@gmail.com   باحث مشارك ومحاضر سابق في قسم حقوق الإنسان الدولية وقانون اللجوء في مركز دراسات اللاجئين في جامعة أكسفورد. ومثَّل مفوضية الأمم المتحدة السامية للاجئين ضمن فريق من الخبراء المعنيين بتقديم المشورة لفرانسيس دينغ أثناء صياغة المبادئ الإرشادية.

 



[i] ستافروبولو، م (1994) "حق عدم التهجير The right not to be displaced"، الجامعة الأمريكية، مجلة القانون الدولية 9(3)، 689-749

[ii]  المبدأ 2(2)

[iii]   المادة 4(1)

[iv]  بهذا الخصوص، يمكن الاستفادة من المستجدات القانونية المتعلقة بحظر الاختفاء القسري. أنظر: www.icrc.org/customary-ihl/eng/docs/v1_cha_chapter32_rule98

 

إخلاء مسؤولية

جميع الآراء الواردة في نشرة الهجرة القسرية لا تعكس بالضرورة آراء المحررين ولا آراء مركز دراسات اللاجئين أو جامعة أكسفورد.