التمييز والأمن البشري لمعدومي الجنسية

يقدم لنا استكشاف الروابط المشتركة بين انعدام الجنسية والتمييز أفكاراً نيّرة مفيدة حول أوجه الاستضعاف المتعددة المرتبطة بانعدام الجنسية وإطاراً عاماً يمكِّننا من معالجة أوجه الاستضعاف تلك.

لانعدام الجنسية أثر لا يمكن تجاهله على الأمن البشري والوصول إلى النماء والتمتع بحقوق الإنسان. وهي قضية تتناولها منظمة الحقوق المتكافئة (Equal Rights Trust) من منظور المساواة ونبذ التمييز. فحق جميع البشر، بمن فيهم معدومو الجنسية، في عدم التعرض للتمييز في جميع جوانب الحياة محمي في جميع المعاهدات الرئيسية الدولية والإقليمية لحقوق الإنسان. ولا ينطوي حق نبذ التمييز على امتناع الدول عن ممارسة التمييز ضد الأفراد فحسب، بل يلقي واجبات إيجابية معينة أيضاً على الدول ويفرض عليها اتخاذ الإجراءات اللازمة لحماية ذلك الحق. وتتضمن تلك الواجبات تحديد التمييز الذي يمارسه الأفراد ضد معدومي الجنسية والتعامل مع ذلك التمييز باتباع الإجراءات القانونية والسياساتية المناسبة لمنع مثل تلك التصرفات ومعاقبة مرتكبيها.

وبالإضافة إلى ذلك، لا بد من توفير المساواة الكاملة لمعدومي الجنسية، وعليه يجب على الدول أن تتخذ الإجراءات الإيجابية في التحقق من التهميش الذي تتعرض إليه تلك الفئة من الأشخاص، بمعنى أنَّه ينبغي للدول النظر إلى بعض الحاجات الخاصة لمعدومي الجنسية واتخاذ الإجراءات اللازمة لتلبيتها مع ضمان كامل الحرية والأمن والتعليم والرعاية الصحية والوصول إلى العمل عند الضرورة. لكنَّ الطريق ما زال طويلاً قبل أن يصبح لدينا دولة يُحتذى بها من ناحية الوفاء بتلك الالتزامات.

والعلاقة بين انعدام الجنسية والتمييز واضحة. فبدايةً، يمكن أن تطرأ ظاهرة انعدام الجنسية نتيجة التمييز المباشر أي معاملة شخص ما معاملةً أقل رعايةً بسبب بعض أو كل "الخصائص المحمية" كالعرق والأصل الإثني أو الجندر. وهكذا، ما إن يصبح الشخص معدوماً للجنسية، حتى يصبح معرضاً على وجه الخصوص إلى التمييز المباشر وغير المباشر، أي أنه يصبح مهمشاً بسبب توجيه معين أو معيار أو ممارسة لا يمكن تسويغ أي منها تسويغاً موضوعياً.

هناك كثير من الأمثلة التي توضح كيفية تسبب التمييز بانعدام الجنسية أولها القوانين التمييزية التي تحرم المرأة من منح جنسيتها لأطفالها. وقد ينتج انعدام الجنسية عن خلافة الدول، وفي حين كانت تلك الظاهرةً عبر التاريخ سبباً "فنياً" في انعدام الجنسية، تشير التحليلات الأدق إلى أنَّ التمييز يمثّل دوراً مهماً في ذلك، وأنَّ غالبية الأشخاص المعدومين للجنسية نتيجة خلافة الدول ينتمون إلى أقليات عرقية كما حدث مع الأشخاص من ذوي الأصول الروسية العرقية في لاتفيا أو الأريتيريين في إثيوبيا. [1]

دراسة حالة: الروهينجا

يعد التمييز العرقي والإثني المباشر سبباً رئيسياً لانعدام الجنسية، كما في حالة الروهينجا الذين تعدهم بلدهم ميانمار مهاجرين غير شرعيين من بنغلاديش مع أنهم يعيشون في ميانمار منذ أجيال، وهم معدومو الجنسية مذ نزعت ميانمار الجنسية عنهم عام 1982 على أساس أصولهم الإثنية، وأصبحوا معرضين للمعاملة التمييزية والاضطهاد في جميع نواحي حياتهم بدءاً من حرية التنقل والزواج وكسب العيش إلى فرض الضرائب التعسفية والاحتجاز التعسفي والتعذيب.

ونتيجة ذلك، هرب مئات الآلاف من الروهينجا من ميانمار بحثاً عن الأمن، لكنهم ما لبثوا أن واجهوا الواقع الذي يواجهه معظم معدومي الجنسية الذين يعيشون في بيئة الهجرة، المتمثل تحديداً بزيادة في التمييز ضدهم. فمعدوم الجنسية، بصفته عضو في أقلية و"طرف خارجي غريب" في البلد المضيف يواجه التمييز والاضطهاد من الآخرين وتُطبيق عليه القوانين والسياسات والممارسات التمييزية. ومن الممارسات الثابتة بين الدول الحد من وصول هؤلاء إلى نطاق واسع من الحقوق كالتعليم والعمل والرعاية الصحية، وهناك أيضاً مسلَّمات مغلوطة بأنَّ هناك قدراً مسموحاً به من التمييز يحق للدولة أن تمارسه كما تشاء، لكنَّ الحقيقة أنَّ أي تمييز تمارسه الدولة يجب أن يكون موضوعياً ومسوغاً له امتثالاً لقانون حقوق الإنسان. وبالإضافة إلى ذلك، حتى لو كان حق الوصول إلى تلك الحقوق متاحاً من حيث المبدأ لمعدومي الجنسية، فقد تمنع الممارسة على أرض الواقع ذلك الوصول بهدف ممارسة التمييز غير المباشر على معدومي الجنسية. ومثال ذلك أنَّ طلب إظهار الوثائق الشخصية الثبوتية كشرط لمراجعة الطبيب يمثل ناحية استضعاف خاصة لمعدوم الجنسية الذي لا يرجح حيازته لمثل هذه الوثائق.

"ليس لدينا أي وثيقة قانونية. ليس لدينا أي بلد."

طارق من الروهينجا معدومي الجنسية. هرب من ميانمار عام 1989 وهُرِّب إلى ماليزيا عام 1991. [2] ثم وقع ضحية الاسترقاق بالدين في تايلاندة مدة ثلاثة أشهر إلى أن تمكن من سداد ديونه. واستمرت معاناته من التمييز في ماليزيا ما أثر على تمتعه بحقوقه الرئيسية بما في ذلك الحرية والأمن الشخصي وغيرها من الحقوق الاجتماعية والاقتصادية. فالقانون الماليزي كان يعامله على أنه "لاجئ غير شرعي" وبذلك لم يتمكن من العمل، ثم اعتُقل على خلفية عمله بصورة غير قانونية ثم احتُجز و"رُحِّل" ليقع مجدداً ضحية بيد المتجرين بالبشر في ثلاث حالات منفصلة.

"بمقدور الشرطة اعتقالنا متى رغبت بذلك"، على حد قوله. ويضيف طارق قائلاً إنَّها مسألة أمن وانتماء وهوية. "نحن الروهينجا لا نتمتع بأمنٍ في هذا البلد. نحن لا وطن لنا. كل شخص يضطهدنا هنا. الحياة صعبة جداً علينا في ماليزيا وفي بورما....المكان الذي وُلدت فيه أصبح أجنبياً بالنسبة لي. لا نستطيع أن ندعي أن مكان ولادتنا هو وطننا....إنني قلق إزاء مستقبل أطفالي. ليسوا ماليزيين ولا بورميين. لا أعرف ماذا سيحدث لهم."

وهكذا، انتقل استضعاف طارق بصفته معدوماً للجنسية غير حامل لأي وثيقة ثبوتية إلى عائلته، وانتقل أثر صفته تلك إلى أطفاله الذين حُرموا من التعليم، فبعد التحاقهم بالمدارس الماليزية سنتين طُردوا لأنهم لم يمتلكوا وثائق ثبوتية. ونتيجة ذلك، بدأ طارق وبعض جيرانه من الروهينجا بإنشاء مدرسة غير رسمية (دينية) لتعليم أطفالهم.  

لقد أصبح طارق معدوماً للجنسية في ميانمار. وانتقلت تلك الصفة إلى أطفاله في ماليزيا. وما لم يُعثر على حل مستدام قائم على الحقوق، هناك احتمال قوي أنَّ أحفاده سيكونون معدومين للجنسية أيضاً. طارق متعلم لكنَّ أطفاله غير قادرين على الحصول على التعليم الرسمي، ولولا جهوده الاستثنائية لما حصلوا على أي قدر من التعليم. وقد لا يتمكن أطفال طارق أيضاً من التعويض عن التعليم المدرسي الرسمي إذا ما لقي أطفالهم أيضاً الإقصاء ذاته من حق التعليم. وبالمثل، كان طارق قد تمتع بدرجة أساسية من الأمن الاجتماعي والاقتصادي عندما كان صغيراً، أما أطفاله فهم يعيشون في الفقر ومن المتوقع أن يواجه أطفالهم في المستقبل قدراً أكبر من الفقر وأن لا يحظون بالأدوات المناسبة لتجاوز تلك المرحلة. وبهذا، يُورَّث انعدام الجنسية جيلاً بعد جيل.

الخلاصة

من منظور حقوق الإنسان، من السهل بناء قائمة من الحقوق التي حُرم منها طارق وأسرته، منها الحقوق المدنية والسياسية كحرية الحركة وحق الحرية والأمن الشخصي والحقوق الاجتماعية والاقتصادية كحق التعليم وحق كسب الرزق. ومن الناحية الإنمائية، يمثل تحقيق المساواة محوراً رئيسياً في الأجندة الإنمائية لما بعد عام 2015. ومن ناحية الأمن البشري، يستحوذ الدول موضوع الأمن الوطني فلا تنظر إلى هجرة المستضعفين المضطهدين في الغالب من باب من يحتاج إلى الحماية بقدر ما تنظر إليهم من منظور السيطرة على الحدود، وهذا ما يزيد الأمور سوءاً ويضاعف استضعاف معدومي الجنسية من أمثال طارق.

ورغم بعض الجهود المبذولة في مجال حقوق الإنسان، ما زالت الضرورة قائمة لاستكشاف موضوع انعدام الجنسية استكشافاً كاملاً من جانب المهتمين بالقضية من منظور الأمن البشري. والأمر نفسه ينطبق على أعضاء المجتمع الإنمائي، وبالفعل تشارك منظمة الحقوق المتكافئة Equal Rights Trsut في السعي بأن يتصدر تحقيق المساواة الأجندة الإنمائي لما بعد عام 2015. لكن، بغض النظر عن العدسات التي ينظر من خلالها المرء في التعامل مع التهميش الذي يواجه معدومي الجنسية سواء أكان ذلك في الأمن البشري أم في الإنماء أو حقوق الإنسان، فمن الأمور المحورية معالجة العلاقة المركزية للتمييز في هذا السياق وصولاً إلى القضاء على دورة التهميش المتوارثة.

 

أمل دي تشيكيرا amal.dechickera@equalrightstrust.org  رئيس مشروعات الجنسية وانعدام الجنسية، وجوانا وايتمان joanna.whiteman@equalrightstrust.org مسؤولة قانونية في منظمة الحقوق المتكافئة Equal Rights Trust، www.equalrightstrust.org



[1]  راجع ساوثويك ك (2009) "إثيوبيا-أريتيريا: انعدام الجنسية وخلافة الدول"، العدد 32 من نشرة الهجرة القسرية

www.fmreview.org/ar/pdf/NHQ32/15-17.pdf

[2]  اسم مستعار. خضع لمقابلة مع منظمة الحقوق المتكافئة Equal Rights Trust في أكتوبر/تشرين الأول 2012.

 

إخلاء مسؤولية

جميع الآراء الواردة في نشرة الهجرة القسرية لا تعكس بالضرورة آراء المحررين ولا آراء مركز دراسات اللاجئين أو جامعة أكسفورد.