عدم إغفال إشارات التحذير: توقّع التَّهجير مجدداً في أفغانستان

هناك حالياً كثير من الأدلة التي تشير إلى احتمال انطلاق موجة جديدة من التهجير في أفغانستان. وإهمال تلك الإشارات التحذيرية المبكرة، والإخفاق في التصرف إزاءها قد يعنيان دفع تكاليف أكبر في المستقبل من الناحيتين المالية والبشرية .

عبر عقد من الزمن بعد سقوط طالبان، وما تلى ذلك من الإنماء الدولي والتدخل العسكري الكثيفين في أفغانستان، تشير جميع الأدلة إلى أننا سنشاهد على الأرجح أزمة تهجير رئيسية أخرى، لكن الفروقات الأساسية هذه المرة ستكون بأنَّ النزوح الداخلي سوف يفوق حجماً التهجير الخارجي، وأنَّ خيار اللجوء الرئيسي سيكون في العاصمة كابول يليها المدن الإقليمية الكبرى. وهناك عدد من العوامل التي يجب أن ننظر فيها عند تقييم احتمالية وقوع التهجير المستقبلي.

التنقل  كآلية مهمة للتكيف للأفغان: لقد عانى ثلاثة من كل أربعة أفغانيين من التهجير في مرحلة ما من مراحل حياتهم، وعانى كثير منهم من التهجير في مراحل متعددة (نزوحاً إلى الداخل أو تهجيراً إلى الخارج) وهكذا فَقَدَ كثير من الأفغان صلتهم القوية مع بلدهم ناهيك عن الأرض وسبل كسب الرزق التي فقدوها أيضاً ودونها لن يتمكنوا من البقاء. وبما أنهم عاشوا تجربة مغادرة بلادهم من قبل، فمن المرجح أنهم سيتبعون الإجراء ذاته عندما تصعب عليهم الحياة.  فمقاومتهم لإغراء  التنقل منخفضة، ولديهم الخبرة فيما يمكن فعله وإلى أين يذهبون، أو على الأقل لديهم القدرة  على الموازنة بين الخيارات المطروحة.

تنقل الناس من جديد: لدى معظم الأفغان الآن استراتيجية للخروج، أو ربما فكروا بواحدة منها على الأقل ليتبعوها عندما تقتضي ظروفهم التنقل. وبالنسبة لمن يمتلك الموارد، فقد بدأ بنقل عائلته إلى دبي، وهناك آخرون يبحثون عن فرص الدراسة والعمل في الخارج في حين يسعى غيرهم إلى لمِّ شمل أسرهم في الدول الغربية، وهناك منهم من ينفق جميع مدخرات الأسرة ويدفعها للمهربين وذلك ليتمكن من إرسال أحد أفراد العائلة الشباب إلى الخارج على أمل أن يفتح ذلك فرصاً جديدة لتلك العائلة. وفي الوقت نفسه، كان النزوح الداخلي يزداد باضطراد عبر السنوات الماضية فوصل عدد الأفراد الذين نزحوا عن بيوتهم 630,000  منهم 110,000 في عام 2013 وحده، وتكرر العدد ذاته تقريبا في السنة التي سبقتها .

الشتات الأفغاني في أماكن عدة: نتج عن تجربة التهجير التي مر بها الأفغان جاليات كبيرة نسبياً في الشتات، ليس في دول الجوار فحسب كباكستان وإيران بل في أوروبا أيضاً وأمريكا الشمالية وروسيا وآسيا الوسطى وأستراليا أيضاً. وذلك ما زاد من خيارات دول المقصد. وحصل كثير من الأفغان في الدول سالفة الذكر على جنسيتها وعلى امتيازاتها وإمكانيات إدخال أفراد عائلتهم اليها. واتسمت السنوات الماضية بإعادة لمِّ الشمل الأسري أو الزواج بين الأفغان في الشتات والأفغان داخل البلاد، ويرجح أن تزداد هذه الظاهرة لأنها تقدم فرصة تنقذ أصحابها من البلاد وتمكنهم من تجاوز الإجراءات المطولة في طلب اللجوء واحتمالية رفض طلباتهم وبالإضافة إلى ذلك أظهرت البحوث حول الهجرة أن وجود جاليات الشتات دائما ما تخفض من عتبة الهجرة الخارجية، ذلك نظراً إلى تأسيس المسار المؤدي إلى هناك ووجود شبكات الدعم.

العودة ليست ناجحة ولا مستدامة على النحو المأمول: مع أنه من غير الواضح تحديداً كيفية عودة كثير من الأفغان إلى ديارهم (بعضهم لأكثر من مرة) منذ عام 2001، إلا أنَّه يمكن الأخذ برقم 5.7 مليون على أنه من أحدث التقديرات. [i] ويضاف إلى ذلك العدد 2.7 مليون ممن ما زالوا في باكستان و إيران ومن الأشخاص الذين لا ترجح عودتهم إلى بيوتهم ما لم يكن هناك حافز قسري قوي من البلدان المستضيفة وهي بالتحديد التسفير والترحيل. لكن العودة لم تكن مستدامة لكثير من الأشخاص إن لم نقل الأغلبية بسبب الصراع الدائر حول الحصول على مكان للعيش فيه وكسب سبل العيش، ناهيك عن الوصول إلى الخدمات الرئيسية والتمتع بالأمن والحماية، وكثير من العائدين يعيشون فعلياً الآن في حالة من التهجير الثانوي.

الضغوطات السكانية المضافة : مع ارتفاع معدل الولادات الاستثنائي في أفغانستان الذي يبلغ 2.4%، يتوقع أن يزيد عدد السكان الأفغان ليصبح 40 مليون بحلول عام 2030، وازدياد التنافس حول الموارد كالأرض والخدمات والوظائف في بلد يعاني فعلياً من  القدرة على توفير الخدمات لسكان يبلغ عددهم 23 مليون. ومن المرجح أن تتسبب زيادة الضغوطات وحالات الاستضعاف في التهجير بإنتاج أعداد سكانية أكبر، وسيعني التهجير المستقبلي أيا كان ارتفاع عدد اللاجئين والنازحين داخليا .

الانفلات الأمني على أنه محفز أساسي للتهجير: ليس من شأن ازدياد العنف الحاد في أفغانستان مؤخراً أن يزرع الثقة بأن عوامل الدفع سوف تُحلُّ يوماً ما قريباً. فالأحداث الأمنية ومقتل المدنيين ازدادا ارتفاعاً خلال السنوات القليلة الماضية، وما يزال ذلك النهج مستمراً في 2014، لكن الضحايا المدنيين لا يخبروننا إلا جزءاً من القصة، ويجب أن تؤخذ قصصهم في الاعتبار، جنبا إلى جنب مع ارتفاع التهديدات والعمليات الانتقامية وانتهاكات حقوق الانسان وارتفاع حالات إفلات المجرمين من العقاب وغياب الحماية التي توفرها الحكومة الأفغانية وقواتها الأمنية. والخيارات ضعيفة للغاية، فإما التعرف على شخص  في السلطة أو مغادرة البلاد أو تعريض الأنفس لخطر الإصابة أو الوفاة. وهذا ما يجعل التهجير آلية التكيف الأكثر تفضيلاً ما دام منتهجها قادرٌ على تحمل تكاليفها.

انعدام النمو الاقتصادي وفرص كسب العيش المرتبطة به: من الصعب جداً إنكار أنه بعد 12 عاماً من المساعدات الإنمائية الدولية، ما تزال أفغانستان بلداً متخلفاً ويعاني على مستويات متعددة. فأفغانستان تحتل الرتبة 175 من أصل 187 في المؤشر الإنمائي البشري، والرتبة 147 من أصل 148 في مؤشر عدم المساواة بين الجنسين. وكذلك الأمر بالنسبة لمؤشري نسبة الوفيات بين الأطفال دون سن الخامسة ووفيات الأمهات عند الولادة، فتلك المعدلات هي الأعلى في العالم. ومع أنَّ جزءاً كبيراً من الهجرة غير مدفوع مباشرة بالانفلات الأمني وانتهاك حقوق الانسان، فلن يكون صحيحاً أبداً أن نصف تلك الهجرة على أنها هجرة "طوعية" .

بطء استجابة السياسات وعدم كفايتها: لقد كانت الحكومة الأفغانية بطيئة في الاعتراف بضرورة معالجة التهجير والاستجابة لتلك الضرورة، لأنها توقعت أنَّ الناس سوف يعودون، بكل بساطة، إلى الأماكن التي هُجِّروا منها في أفغانستان. وقد وقّعت الحكومة مؤخراً الأجندة الأفغانية للأمن الغذائي والتغذية، وكذلك السياسة الوطنية للنزوح الداخلي. ومع ذلك، ما زالت تلك الوثيقتان حبراً على ورق ولم تدخلا حيز التنفيذ، وهذا يتطلب تقديم توصيات حقيقية وإطار عمل لازم لترجمة السياسة واقعاً ملموساً. وهناك كثير من المساعدات المستقبلية لأفغانستان على أولويات إطار عام المساءلة المشتركة في طوكيو، لكن المانحين يزداد خوفهم بشأن توجيه مزيد من التمويلات إلى الحكومة الأفغانية التي تتسم بانعدام الكفاءة والفساد، ويضاف إلى ذلك تقلص فرص وصول الفاعلين الإنسانيين والإنمائيين وهذا الأمر سيؤدي إلى استمرار  الضغط على المجتمعات المستضعفة حالياً،  وسيقود بالنتيجة إلى مزيد من التهجير. فإذا لم تصل الخدمات والمساعدات إلى من هم بحاجتها، فسوف يضطر الناس إلى الذهاب إلى مكان يستطيعون فيه الحصول على تلك المساعدات.

إلى أين سيذهب الناس؟

إذا ما تمكنا من التنبؤ بالأماكن التي يرجح أن يتوجه اليها الناس، أو على الأقل تلك التي سيتوجهون إليها بأعداد كبيرة، فسوف نتمكن من تركيز المساعدات ومنع أي تهجير لاحق. وبما أن الصعوبة أصبحت تسم الخيارات التقليدية للخروج (باكستان لم تعد آمنة صبورة على الأفغان، وإيران لم تعد صبورة ايضاً) والخيارات الجديدة التي تتطلب بالضرورة الوصول إلى موارد لا بأس بها (مالية أو تعليمية)، فقد أصبح الخروج إلى الدول الأخرى من الأمور الصعبة، وتزداد صعوبتها يوماً بعد يوم. ومن هنا، يمكن القول إنَّ التهجير سوف يتركز على النزوح الداخلي.

لقد عانت أفغانستان عموماً، وعاصمتها كابول خصوصاً، من النمو الحضري السريع خلال العقد السابق، وبلغ عدد الساكنين الحضريين فيها ما يقدر بـ 7.2 مليون في عام 2011 (ويعني ذلك 25% من إجمالي عدد السكان[ii]) وهو ما يفوق المعدل الإقليمي لقارة آسيا. وتعد كابول واحدة من المدن الأسرع نمواً في المنطقة، وفي يوليو/ تموز 2013 كان هناك في كابول ما لا يقل عن 53 مستوطنة غير رسمية وفقاً للدراسات، مع أنَّ العدد أكبر بكثير على أرض الواقع. وهناك مدن أخرى تشهد نسبة نمو شبيهة بذلك فيما يتعلق بالعشوائيات الحضرية التي يعيش فيها النازحون، جنبا إلى جنب مع العائدين، وهناك أيضاً الفئات الفقيرة والبدوية الحضرية التي تعيش في مناطق وأراضٍ مشرذمة تملكها الحكومة أو يملكها المواطنون. ومع أن هذه المناطق تعاني من ضغوطات كبيرة من ناحية إيصال الخدمات وإيجاد سبل العيش، ما يزال هناك كثير من الناس يشعرون أنها ستبقى أفضل (أو على الأقل أكثر أماناً) للبقاء فيها. وهناك تجارب أخرى مشابهة في بلاد أخرى تشير إلى أن تركيز الناس هذا لا يتسبب إلا بإضافة ضغوط سكانية كبيرة قد تؤدي إلى مزيد من التهجير في المستقبل.

ما الذي يمنعنا من رؤية الكتابة على الحائط ؟

تمر أفغانستان بمرحلة انتقالية مهمة على الصعيدين السياسي والأمني، وكلاهما يرتبطان بمرحلة انتقالية اقتصادية. وينشأ عن ذلك كله بيئة داخلية ودولية من النوع الذي يعتمد مبدأ "لننتظر ونرى". وقد يُحجم الاشخاص الذين يرون الكتابة على الحائط أو قد يكونوا غير قادرين على  فعل أي شيء حيالها لا من الناحية الاستراتيجية أو العملية.

وهناك عنصر آخر يتمثل في عدم الرغبة بالاعتراف بالفشل. فالاعتراف بوقوع أزمة تهجير جديدة يعني الاعتراف بالإخفاق، أو على الأقل بضعف ومحدودية النجاح لمشروع بناء الدولة الذي يقوده المجتمع الدولي على مدى أكثر من عقد من الزمن. وإذا ما ادعى الغرب الآن بعدم وجود أزمة للتهجير، فعندها سيتمكن من التملص من مشاركته أو مسؤوليته، ثم سينتهز الفرصة لاحقاً لتوجيه اللوم إلى الحكومة الأفغانية. وبالإضافة إلى ذلك، ربما يتضمن الاعتراف بالمشاركة في أزمة تهجير جديدة أو عدم منع تلك الأزمة، في أقل تقدير، قبول المسؤولية لتوفير اللجوء لسكانها.

وأخيرا سواء أقبلنا أم لا، أصبحت سوريا الآن في المنطقة الساخنة الجديدة، وأسدلت بذلك الستار على أفغانستان وأبعدتها عن المشهد. فسوريا أقرب إلى أوروبا، وتعاني من أزمة تهجير تشبه حجمها حجم السنوات الأولى  للاجئين الأفغان. وهكذا حلت سوريا محل أفغانستان ضمن الاهتمام الدولي، وشتت الانتباه عن أفغانستان وما يحدث فيها.

ومع كل هذه التشتيتات والأسباب التي يمكن أن يتذرع بها الغرب لعدم المشاركة، ينبغي أن نكرر طرح السؤال على أنفسنا: ما التبعات التي ستحدث إذا تجاهلنا هذه الإشارات التحذيرية المبكرة؟ ولو أنّنا لم نتصرف اليوم ولم نكن مستعدين لتوفير المساعدة، فهل من الممكن أن ندفع تكلفة أكبر بكثير في المستقبل على الصعيد المالي بل الأهم من ذلك على الصعيد البشري؟ لقد أنكر الغرب وتجاهل أفغانستان لفترة من الزمن ثم سرعان ما استيقظ على تهديد الإرهاب من أفغانستان ذاتها. فما الذي يدعونا للتفكير بأن تضافر أزمة نزوح داخلي غير محلولة وارتفاع نمو العشوائيات الحضرية وارتفاع عدد السكان الشباب غير القادرين على الحصول على التعليم والتوظيف سوف يتحسن يوماً ما؟

سوزان شمايدل susanne.schmeidl@tlo-afghanistan.org مؤسِّسة مشاركة ومستشارة رئيسية في مكتب الارتباط في افغانستان www.tloafghanistan.org وهي أيضا زميلة زائرة في كلية آسيا الباسيفيك للدبلوماسية في جامعة أستراليا الوطنية www.anu.edu.au.



[i]   مفوضية الأمم المتحدة السامية للاجئين (2002)، "العودة الطوعية وبرامج إعادة الاندماج)

UNHCR (2012) The Voluntary Return and Reintegration Programme www.unhcr.org/4fedc64b9.html

[ii] يتراوح عدد سكان أفغانستان عموماً حسب المصادر المختلفة بين 25 و30 مليون نسمة، مع أنَّ صندوق الأمم المتحدة للسكان يقدر العدد بأنه يزيد على 30 مليوناً. وكذلك تختلف تقديرات أرقام عدد السكان في المناطق الحضرية وعادة ما تُقدَّر بـ 25 أو 30%.

 

 

إخلاء مسؤولية

جميع الآراء الواردة في نشرة الهجرة القسرية لا تعكس بالضرورة آراء المحررين ولا آراء مركز دراسات اللاجئين أو جامعة أكسفورد.