النُّزوحُ الداخليُّ في الحَضَر: معطياتٌ وأدلّة

جَمْعُ المعطيات الصحيحة المفيدة عن التَّهجير الحضريّ أمرٌ صعبٌ ولكنّهُ ضرورة.

ما يزال يظهر خللٌ في إتاحة التقديرات الصحيحة لقَدْرِ التَّهجير الحضريّ. والمعلومات، وإن تهيّأت محليّاً، فهي غير كافية عموماً لإفادة المَنْعِ والاستجابة والحلول المستدامة. فإن أُريدَ بناء قاعدةِ أدلّةٍ متينةٍ، يُنطلَقُ منها إلى اتخاذ القرارات عن عِلْمٍ لمعالجة التَّهجير الحضريّ، فلا بدّ من جمع ضروب أخرى من المعطيات في الخصائص (ومنها الجنس، والسّنُّ، والتعوُّق العقليّ أو الجسديّ إن وُجِدَ)، والأحوال المعيشية (ومنها الدّخْلُ والوصول إلى الخدمات)، والقدرات.

الحصول على المعطيات

كثيرةٌ هي التحدّيات التي تكتنف جَمْعَ معطيات التَّهجير الحضري. وأوّل هذه التحدّيات عدم وجود إجماعٍ عامّ على ماهيّةِ المنطقة الحضرية. فترى الحدودَ والمعاييرَ تختلف باختلاف البلاد، فينشأ من هذا معوِّقٌ شديدٌ بمنهج البحث في إيجاد تَصوُّرٍ عالميّ لطبيعة التَّهجير الحضريّ أو الريفيّ. ولقد يقتضي هذا التحدّي إنفاق وقتٍ طويل لمعالجتهِ، ولكنّ اعتماد البلد معاييرَ لنفسها يُسَاعِدُ في الأقلِّ على جَعْلِ جَمْعِ المعطيات على غرارٍ واحد في البلد كُلِّه.

وثاني التحدّيات الحُصولُ على معطياتٍ محدّدةٍ جغرافيّاً للنّازحينَ داخلياً في الحَضَر. فالمدُنُ أماكن معقّدة، والتَّهجير منها وإليها وفيها شديد الديناميّة، وهذا يُصعِّبُ معرفةَ مواضعَ المهجَّرين الصحيحَةِ في كلِّ وقت. إذ يَكْثُرُ في المدُنِ أن يتشتّتَ النّازحون داخلياً، وكثيرٌ منهم يطلبونَ إخفاء هُويّتهم خِشيَةَ كلِّ ما يحتمل أن يهدِّدَ أمْنَهم. وهذا تحدٍّ واقعٌ خصوصاً على المُنْجِدينَ الإنسانيّينَ الأوائل الذين يحاولون إتاحةَ ما يسدّ الحاجة من الحمايَةِ والعَوْن.

على أنّ في جَمْعِ معطيات التَّهجير المحددة جغرافيّاً أمثلةٌ حسنة. ففي العراق، يندرج في مصفوفَةِ تتبُّعِ التَّهجير التي عند المنظمة الدولية للهجرة[1] إحداثيّاتُ مواقع النَّازحين داخلياً في البلد كلّه. وقد أظهر تحليلٌ أجرَاهُ مركز رصد النُّزوح الداخليّ باستعمال هذه المعطيات[2] أنّ في سنة 2018 كان قريبٌ من 70% من الناس الذين نَزَحُوا داخليّاً بسبب النِّزاع والعنف في العراق يُقِيمُونَ في المناطق الحضريّة، ولكنّ 96% من مواضع النَّازحين داخلياً المُسجّلِ أنها في مناطق حضريّة بالبلد كانت في الواقع قائمةً على مسافَةِ 10 كيلومتراتٍ في منطقةٍ واحدة من المناطق الحضريّة. وتُقدّم هذه المعطيات (التي جُرِّدَتْ من كلِّ ما قد تُعرَفُ بهِ هُويّة الأفراد لحمايتهم) بين أيدينا تصوُّراً مفيداً لعلاقة النُّزوح الداخليّ بالمدُنِ والتوسُّع الحضريّ. وعلى الرغم من أنّ الحصول على معطياتٍ كهذه شاملةٍ موصولةٍ بمواضع الناس أمرٌ نادر، يُبيِّنُ المثَالُ المُتقدّم الذكر، أنّ تقديرَ قَدْرِ التَّهجير في المدُنِ أمرٌ لا شكّ ممكن.

وثالث التحدّيات قِلّةُ المعطيات الطُّوليَّة. فكثيراً ما ينخفِضُ الاستثمَارُ في جَمْعِ المعطيات، بعد مرحلة الطوارئ في الأزمة. وهذا مُعوِّقٌ عريضٌ في طريق تقدير الأحوال المعيشيّة التي عليها النّازحون داخلياً مع امتداد الزمان، يَمنَعُ تمامَ فَهْمِ أسباب وخصائص التَّهجير الذي تطول مدّته في المدن. فهذه المعلومات قيّمةٌ عند الجهات الفاعلة في ميدان العمل الإنمائيّ، إذ بها يمكنها تعديل تدخُّلاتها في التنمية الحضريّة والتخطيط الحضريّ، فتراعي فيها النَّازحين داخلياً في الحَضَر والمجتمعات المحليّة والمُضيّفة.

معالجَةُ التحدّياتِ الواقعة على جَمْعِ المعطيات

يمكن أن تساعِدَ مصادِرُ المعطياتِ البديلة والتِّقانات على غَلْبِ هذه التحدّيات، ومن هذه المصادر والتِّقانات معطيات الهواتف الجوّالة، وتحليل الصُّور الملتقطة بالسَّواتل، والخرائط المجتمعيّة. فعلى سبيل المثال، تعاونت الأمم المتحدة، في بابوا غينيا الجديدة، مع شركاتٍ هاتفيّةٍ خاصّة لاستعمال معطيات الهواتف الجوّالة (جُرِّدَتْ من كلِّ ما قد تُعرَفُ بهِ هُويّة أصحابها) كي يُقَاسَ نسق التَّهجير وُمدّتهُ، وذلك بعد الزلزال الذي وقع في فبراير/شباط 2018. فمكّن هذا المتعاونينَ من الحصول على معلومات مُفصّلة في ما يلي: متى انتقل النّاس؟ ومن أين؟ وإلى أين؟ وكم ظلُّوا نازحين؟[3] فإن استُكْمِلَت هذه التقديرات بمعلوماتٍ كيفيّة من المجتمعات المحليّة المتضرّرة، فستُسَاعِدُ على إبرازِ ما كَمَنَ من أسباب انتقال النّاس واتّخاذهم قرار العودة.

وصحيحٌ أن القدرةَ على أنْ يُقاسَ قَدْرُ نَسَقِ النُّزوح الحضريّ، ومكانه، ومدّته، أمرٌ مفيد، ولكنّه غير كافٍ للإحاطةِ بالظاهرة. ثم يتلو ذلك خللٌ في الفهم، يمكنه أن يُقيِّدَ القدرة على إنشاء الحلول التي تناسب كلَّ سياق. ومن هنا، أنّ إجراءَ التشخيص يمكن أن يساعد على إظهار الآثارِ التي قد يتركها النّزوح في النَّازحين داخلياً بالحَضَر وفي المجتمعات المحليّة التي تُضيّفُهم، وإظهارِ قدرةِ السلطات المحليّة وغيرها من أصحاب المصلحة المعنيّين على معالجة حاجات المجتمعات المحليّة المتضرّرة بالنُّزوح، وعلى دَعْمِ الاعتماد على النفس.[4]

ومن أهمِّ أُسُسِ بناءِ قاعدة لأدلّة التَّهجير الحضريّ، أن يُفهَمَ كيفَ تقدر المدن على استيعاب أعداد كثيرة من السكّان؟ وكيف يؤثّر التهجير في السوق والإسكان وإيصال الخدمات، سواء كان التأثير حسناً أو سيئاً؟ هذا، ويمكن أن تكونَ إدامة جَمْعِ المعطيات وبَذْلِ الجهد في التحليل، مع امتداد الزمان، أمراً صعباً. ولذلك لا بدَّ من أن تُبْنَى قُدرَاتُ السلطات المحليّة، وأن يُشارِكَ النَّازحون داخلياً في بالحَضَر والمجتمعات المحليّة التي تضيّفهم في جَمْعِ المعطيات الدائرة حولَ مواطن ضعفهم وحاجاتهم.

 وقد أُجْرِيَ تحليلٌ بمقديشو في سنة 2014 وسنة 2015 (بالتعاون مع السلطات المحليّة) عدَّ وحدّدَ المستوطنات غير الرسميّة، فأعان ذلك على تعيين النَّازحين داخلياً وتمييزهم من مُضِيفيهم.[5] وألقى التحليل الضوءَ على التحدّيات الواقعة على النَّازحين داخلياً في مناطق مختلفة من المدينة، لم يكن -أو يكاد لا يكون- فيها قبلَ إجراءِ التحليل من معلوماتِ أحوالِهم شيء. ولم يَشْمل التحلِيلُ إلا السكّانَ النازحينَ في مستوطناتٍ مُعيّنة، لا في المدينة كلّها، ولكنّ نتائجه أفادت وما تزال تفيد السلطات المحليّة في مقديشو في دَعْمِ الحلول الدائمة. والغالب أنّ أعمال جَمْعِ المعطيات هذه نادرة الحصول، مع أنّها أساسٌ لتقدير وفَهْمِ قَدْرِ النّزوح والتَّهجير وخصائصهما وأحوالهما.

وللخروج بنتائج أفضل، وتقليلِ إمكانِ أنْ تطول مدة النُّزوح والتّهجير، ينبغي أن يُحَاطَ بما هو موجودٌ من موارد ومهارات وخدمات مجتمعيّة. ولتحقيق ذلك، ينبغي توسِيعُ إشراك النَّازحين داخلياً بالحَضَرِ والمجتمعات المحليّة المضيّفة في التخطيط الحضريّ والتنمويّ، فذلك يعين على تعيين الأولويّات أي إيصال الخدمات، والبنى التحتيّة، والإسكان التي تُسهِمُ أكثرَ إسهامٍ في الوصول إلى حلول دائمة للنُّزوح والتهجير الحضريّ.

 

فِسِنت أنشِلينِي vicente.anzellini@idmc.ch

منسِّقٌ، من منسِّقي التقرير العالمي في النُّزوح الداخلي

 

كلِيمُنس لُدُوك clemence.leduc@idmc.ch

زميلةٌ في البحث والرّصد

 

مركز رصد النُّزوح الداخلي www.internal-displacement.org 

 

[1] www.globaldtm.info

[2] باستعمال الإطار الذي أطّره الاتحاد الأوروبي واسمه (طبقة المستوطنات البشريّة العالميّة):

https://ec.europa.eu/jrc/en/global-human-settlement-layer

[3] Prahara P et al (2019) Comparing population displacement estimates from mobile network data and other sources. Working paper: evidence from the Highlands earthquake in Papua New Guinea

(الموازنة بين تقديرات تهجير السكّان من خلال معطيات شبكة الجوّالات وغيرها من المصادر. ورقة عمل: أدلّة من زلزال هايلاندز في بابوا غينيا الجديدة)

http://www.internal-displacement.org/global-report/grid2019/downloads/background_papers/Hodge_FinalPaper.pdf

[4] Joint IDP Profiling Service (2019) Displacement profiling in urban areas: Methodological approaches for collecting and analysing data on internal displacement in cities

(تشخيص النّزوح في المناطق الحضريّة: مقاربات منهجيّة لجمع وتحليل المعطيات في النّزوح الداخليّ بالمدن)

https://www.jips.org/uploads/2019/05/JIPS-IDMC-GRID2019-UrbanProfiling.pdf

[5] See pp90–1 of IDMC (2019) Global Report on Internal Displacement 2019

(انظر ص١-٩٠ من التقرير العالميّ في النّزوح الداخليّ لسنة ٢٠١٩)

www.internal-displacement.org/global-report/grid2019/

مُتَاحٌ باللغة العربيّة في:

https://www.internal-displacement.org/sites/default/files/inline-files/2019-IDMC-GRID-ar.pdf

إخلاء مسؤولية

جميع الآراء الواردة في نشرة الهجرة القسرية لا تعكس بالضرورة آراء المحررين ولا آراء مركز دراسات اللاجئين أو جامعة أكسفورد.