اللَّاجئاتُ وأماكنُ قضاءِ وقت الفراغ والمدينةُ

يُظهِرُ بحثٌ أُجْريَ على لاجئاتٍ في عمّان وبيروت عِظَمَ شأنِ الوصول إلى أماكنَ يُقضَى فيها وقت الفراغ آمنةٍ لُحسْنِ الحال والاندماج.

يمكن أن تكون الأماكِنُ الخَضِرَةُ، اليسيرة المأتى، عند اللاجئين المُتوطّنينَ من تلقاء أنفسهم، المفتقرون إلى الموارد، وأكثرهم يعاني آثار الضرر النفساني، أن تكونَ واسطةً لحُسْنِ حالهم. فاستعمال هذه الأماكن للاسترخاءِ والتفكير، أو لرياضة الجسم ومعاشرة الناس واللعب، ممكنٌ أن يعين اللاجئينَ على مدّ حبال أمتنَ بينهم وبين المجتمع المضيّف، وأن يفضي بهم إلى فَهْمِ المدن التي يعيشون فيها فهماً مكانيّاً.

ولكنْ تعاني الأحياء التي تتميّز باستقبالها اللاجئينَ وتقع في مُدُنِ البلاد التي يسكنها أكثرُ ناسِ الأرض، تعاني هذه الأحياء التنميةَ والتخطيطَ غير الرسميَّين، وقِلّةَ المساكن الشاغرة، وكثافةً سكّانيّة شديدة. ولذلك، تكون الأماكن العامّة فيها، اليسيرة المأتى، التي يقضي المرء فيها وقت الفراغ، قليلةً ومُهملةً في الأكثر. ولقد تُخصَّصُّ بعض الجماعاتٍ والأفراد بهذه الأماكن، فيعزل ذلك الناسَ الآخرين أو يُخِيفُهم، أو قد تراقِبُ الدول هذه الأماكن من كَثَب

وأمّا بحثي الذي أجريتهُ بين سنة 2016 وسنة 2017، فقد رَكَزْتُ همّه في تجربة اللّاجئات السوريّات الجَّنْدَريّة في التنقُّل، والأمن، والأماكن العامّة في أحياءٍ من مدينة عمّان ومدينة بيروت.[i] وقد اختارَ اللاجئون هذه الأحياءَ، بسبب قدرتهم على دفع كلفة العيش فيها، وقُربها من فرص العامل (غير النظاميّ)، وأواصر القرابة، وهذا الأخير كثير. ولكنْ لم يكن للنساء المقيمات في هذه المناطق سبيلٌ مفتوح يَصِلْنَ به إلى الأماكن الخَضِرَة العامّة. ولم يقتصر سبب ذلك على افتقار هذه المدن إلى أماكن كهذه، بل شمل أيضاً عدداً من مسائلَ بنيويةٍ وذاتيّةٍ متشابكة، فاجتمع السببان فأنْشَأا معوّقات كثيرةً أمامَ النساء في سبيلهنّ إلى الأماكن العامّة وإلى التفكُّهِ بفرص تَفْرَغُ فيها أوقاتهنّ.

مُعوّقات الوصول إلى ما تقدّم ذِكْرُه من أماكن

ألقت النساء الضوءَ على معايير مجتمعيّة وثقافيّة تحكم حضورهنّ وتنقلهنّ في الأماكن العامّة. وممّا كوّن تجاربهنّ سهولةُ تعرضهنّ للمضايقة اللفظيّة والإساءة الجسديّة والتحرّش الجنسيّ، بسبب جِنْسهنَّ وحالة لجوئهنّ. وأبرزنَ أيضاً أن لا استقرار في أحوالهنّ العمليّة وأنهنّ مفتقرات إلى المال، وذكرن أثرَ ذلك في تنقُّلهنَّ. فأماكِنُ قضاءِ وقت الفراغ كالكُرْنيش في بيروت أو مدينة الحسين الرياضيّة للشباب في عمّان، كانت بعيدة جدّاً عنهنَّ، مسافةً وكُلفةً.

وأمّا النساء اللواتي أساسُهنّ الاجتماعيّ الاقتصاديّ منخفض، فيكثر أن تكون معرفتهنّ قليلة بالمدينة التي تُضيّفهنّ، بكلِّ ما بَعْدَ الأحياءِ التي هنّ فيها، وفي ذلك إشارةٌ إلى الخوف والتشويش. ولا سيّما اللواتي لا يعرفن القراءةَ والكتابة، فقد شعرْنَ أنْ لا قدرة لهنّ على الخروج من حدود أحيائهنّ، وكأنّهنّ عَمْياوات، فلا يستطعنَ قراءةَ اللوافتِ وأسماء الطرق، ويُكْثُرُ أن يَخْشَيْنَ سؤالَ الآخرين أن يساعدوهنّ.

ولقد رأتِ اللاجئات أنّ أماكن قضاء وقت الفراغ في الأحياء التي يَعِشْنَ فيها مهملةٌ غير آمنة. فعلى سبيل المثال، ذكرت لاجئات في شرقيّ عمّان اجتنابَهنّ الذهابَ إلى منتزهٍ قريبٍ منهنّ واصفاتٍ إيّاه أنّه بشع، وله سمعة سيئة من حيث السلامة الشخصيّة، ويكثر أن يتردد إليهِ ثُلَلٌ من الرجال المتسكّعين‘. ومثلُ ذلك، أنْ ذكرت نساءٌ في بيروت أنّهن يَرَيْنَ في بعض الأماكن المحليّة، ومنها ملعبٌ للأطفال ومنتزه، أنّها مَنابِتُ نزاعٍ وتوتُّرٍ بين اللاجئين والمجتمع المحليّ. فكثير من التوتُّر الذي ذَكَرْنَهُ وقع في ملاعب الأطفال فاشتدّ فصار مُشادّة كلاميّة وتهديداً بين أهالي الأطفال.

وقالت نساءٌ إنّ حياتهنّ الاجتماعيّة في سورية كانت متنوّعةً، إذ كنّ هناكَ يتمتعنَ بالمؤانسة في الشوارع في أوقات مختلفة من اليوم، وذكرت أكثرهنّ أنهنّ في المدن المضيّفة مضطرّاتٌ إلى البقاء في البيت بعد غروب الشمس، وعبّرَ كثيرٌ منهنّ عن إحباطهنّ بسبب منعهنّ من المؤانسة في أحيائهنّ مساءً، لأنّ قلقَ أسرهنّ عليهنّ أفضى بهم إلى تقييد حركتهنّ. وأعربت اللاجئات المقيمات في بيروت عن قلقٍ من الخروج من البيت ليلاً أعظم من الذي أعربت عنه اللاجئات في عمّان. وهذا كان موصولاً وصلاً مباشراً بافتقارهنّ إلى إطلاقِ صفة اللاجئ عليهنّ وإلى شرعيّة كونهنّ في لبنان، وبالإطار الأمنيّ المعقّد المعمول بهِ في بيروت. فقد خافت هذه النساء من أن يُنظَرَ إلى أوراقهنّ الرسميّة (فأكثرهنّ كُنّ يُقِمْنَ في بيروت وتصريحهنّ القانونيّ منتهي الصلاحيّة أو أنّهنّ قَدِمْنَ لبنان تهريباً) وطلبْنَ البقاء غير ملحوظاتٍ. ويُقابِلُ ذلك، أنّ النساء السوريّات المقيمات في عمّان أعرَبْنَ عن بعض انزعاجٍ وخوفٍ يُصِيبُهنّ وهنّ في الأماكن العامّة، ومع ذلك، فشعورهنّ بشرعيّة وجودهنّ في الأردن وبالحماية فيها، الذي هو أكثر ممّا تشعر به اللاجئات في لبنان، أفضى بهنّ إلى أن يَجِدْنَ قيوداً أقلّ على حركتهنّ الشخصيّة في المدينة التي تُضيّفهم.

التأثير في حُسْنِ أحوال النساء

ومما نتج عن هذه التحدّيات، أنّ كثيراً من النساء قضَيْنَ أوقات فراغهنّ في عزلة. وإن كان للنساء أقارب في الأحياء التي يُقِمْنَ فيها، أو أنّهن مَدَدْنَ أحبالَ اتّصالٍ بينهنّ وبين الجيران، مِلْنَ إلى قضاء أوقات فراغهنّ بالزيارات الاجتماعيّة. فكانت هذه العلاقات ضروريّة في حُسْنِ أحوالهنّ. وأمّا النساء اللاتي لم يكن عندهن علاقات اجتماعيّة، فذكرْنَ أنّهن يعِشْنَ كثيراً من انعدام التنقُّلِ ومن الانقطاع عن الناس، والعزلة، وعبّرن أيضاً عن أنّهنّ يجدن أنفسهنّ غريباتٍفي المدينة التي تُضيّفهم، وهذا جعلَ خوفَهُنَّ حين يكنّ في الأماكن العامة مستفحلاً.

هذا، وقد أتاحت صفوفٌ دراسيّةٌ هيّأتها مؤسّسات دينية ومنظمات غير حكومية للنساءِ فرصاً للاجتماع بغيرهنّ، وللاسترخاء، واكتسابِ مهاراتٍ جديدة، والأخذِ بأعمالٍ كالخياطة والطهي، فكانت لهنّ مخرجاً من حدود البيت. ومع ذلك، من الممكن أن تتحكّم جماعاتٌ من النساء معيّنةٌ بصفوفِ بناء المهارة التي تُدِيرُها المنظمات غير الحكومية، ولا سيّما مَن أساسهنّ من الطبقة المتوسّطة. وفسّر ذلك ممثلون من المنظمات غير الحكومية، بأنّ كثيراً من النساء المتعلِّمات أصلاً اللواتي أصابهنّ الملل، يغلبن على غيرهنّ في صفوف الطهي والخياطة، وبأنّهن يستطعن أنْ يدخلن ثانيةً، مرةً بعد مرةٍ، في الصفوف لأنّهن فَهِمْنَ نظامَ قبول الدخول كيف يعمل. وهكذا، كانت شُعَبُ المنظمات غير الحكومية أماكنَ تقضي فيها بعض اللاجئات أوقات فراغهنّ، لا كُلُّهُنَّ.

ويمتعض كثيرٌ من المقيمين في المدينتَين مدّةً طويلة من قِلّة الأماكن العامّة الآمنة، التي يمكن أن يجدوا فيها ترحابا، ليقضوا فيها أوقات فراغهم. فينبغي للمخطّطينَ أن يُقدّموا في الأولويّة هذه المناطقَ من المدينة، التي يكون التغيُّر الاجتماعيّ فيها شديد، ومواردها في خطر شديد، وتعاني التلوُّثَ البيئيّ. إذ يحتاج الناس إلى أماكنَ خَضِرَةٍ، سهلةِ المَأْتى، قريبةٍ من أحيائهم، جيّدةِ الإضاءة، ومراقبةٍ إن اقتضى الحال ذلك، لضمانِ تثبيط أعمال التخريب الصغيرة والتحرُّش الجنسيّ. وقالت النساء مؤكّداتٍ إنّهنّ لا مانع عندهنّ من حضور ناسٍ من الأمن أو من السلطات إنْ عنى ذلك أنّ الخلافات في الحيّ تحت السيطرة وأنّ النظامَ العامّ محافظٌ عليه.

ويمكن أن يُعِينَ رَسْمُ الخرائط المكانيّة لإيجاد طريقةٍ يصل اللاجئون بها إلى مختلف الأماكن في المدينة المخطّطينَ والمنظمات غير الحكومية على النظر في الطرق والوسائل التي بها تنتفع النساء من الأماكن، فكيف يشعرن عند التنقُّل في الأماكن العامة؟ ولِمَ يتجنّبْنَ أماكن معيّنة؟ على أنّ تخطيط الأماكن تقع عليه تحدّيات اجتماعيّة وثقافيّة أيضاً، وإنّه مثيرٌ لمسائل أخلاقيّة أوسع، في ما له صلة بتشارك المعلومات الدائرة حولَ تنقُّلِ اللاجئين. ولكنّ بعض المنظمات غير الحكومية في لبنان استعملت تخطيط الأماكن استعمالاً ناجعاً. فقد نجحت منظمةٌ غير حكومية ببيروتَ في تخطيط الطرق التي سلكتها النساء حين زِرْنَ مراكز التماس المشورة، فيَسّرَ ذلك مناقشةً مفتوحةً في ما يُتجنَّبُ من أماكنَ وناسٍ ونقطِ تفتيشٍ وغير ذلك. وقد أجري التخطيط لكي تُتَشَاركَ المعلومات تشاركاً نَشِطاً، ولضمانِ أن تشعر النِّساء بالأمان وأن لا ينقطعن عن الانتفاع من مراكز التماس المشورة. ويمكن أن يُنْتفَعَ أكثر من مثلِ أساليبِ التخطيط هذه لتحسين فَهْمِ الأحياء السكنيّة، والاستفادة من المرافق والأماكن التي تُقضَى فيها أوقات الفراغ

ولتحقيق كلّ ذلك، ينبغي أن يعمل المخطّطون والمنظمات غير الحكومية والمجتمعات المحليّة، معاً، على تقديم تنمية الأماكن العامّة الخَضِرَة في الأولويّة، فهذا يُفسِحُ السبيلَ لتوسيع التفاعل المجتمعي. فيمكن تصوُّر الأماكن وتنميتها بمشاركة مختلف أصحاب المصلحة المعنيّين، ومنهم المجتمعات المحليّة المُضيّفة واللاجئونَ، لتعزيز الشعور بالتشارك في العمل والمسؤوليّة، فيُضمَنُ بذلك حِفظُ الأماكن على الرغم من قِلّة الموارد.

سارة لِن slinn1@sheffield.ac.uk مرشّحةٌ يُموِّلُها مجلس البحوث الاقتصادية والاجتماعية لنَيْلِ درجة الدكتوراه، في قسم الدراسات الحضريّة والتخطيط، بجامعة شِفِلد www.sheffield.ac.uk/usp

 

[i]دَعَمَ هذا العملَ الميدانيَّ بعض الدّعمِ مركزُ وايت روز للتدريب على الدكتوراه (White Rose Doctoral Training Centre).

 

إخلاء مسؤولية

جميع الآراء الواردة في نشرة الهجرة القسرية لا تعكس بالضرورة آراء المحررين ولا آراء مركز دراسات اللاجئين أو جامعة أكسفورد.