التّخطيط الحضريّ لإسكان اللاجئين: استجابةً للحاجات المُلحَّة

يُقدّم نموذَجُ التخطيطِ الحضريّ في هَمبُرغ، الذي نشأَ وتطوّرَ استجابةً لمَقدَمِ أعدادٍ عظيمة من طالبي اللجوء عامَ 2015، بين يدينا عدداً من الدّروسِ في رَسْمِ سياسات إسكان اللاجئين.

بين شهر يناير/كانون الثاني من عام 2015 وشهر ديسمبر/كانون الأول من عام 2019، قَدِمَ هَمبُرغَ في شماليِّ ألمانيا 82 ألفَ لاجئٍ، وهَمبُرغ مدينةٌ عَدِيدُ ناسِها مليونٌ وسبعة أعشار المليون وسبعة أعشار العُشْر (1.77). ويُوكَلُ أمرُ اللاجئين في ألمانيا إلى 16 ولاية، وَفْقَ نظَامِ توزيعٍ قائمٍ على عدد السكّان والإيرادات الضريبيّة، فيرد على المُدُنِ المُكتظّة بالسُّكان من اللاجئينَ عددٌ كثير، على حسب مساحة الأراضي القابلة للبناء والتنمية. وقد وُكِلَ إلى هَمبُرغ، عملاً بما يوجبه نظام التوزيع، أمرُ إقامةِ نحوٍ من 46 ألفَ لاجئٍ فيها. فأدّت الزيادة السريعة في عدد سكان هَمبُرغ إلى أن تستفحل قِلّة قدرة الإسكان الاجتماعيّ التي كان قليلةً أصلاً (ففي شهر ديسمبر/كانون الأول عام 2014 لم يتجاوز عدد مَرَافق الإسكان 79 مَرْفقاً، فيها 11 ألفَ مسكنٍ على التقريب[1])، وأيضاً كان في المدينة مواضع قاصرة عن التنمية الجديدة لاستيعاب مَن قَدِمَ من اللاجئين.

ولإخلاء السبيل لتنمية الإسكان المُسرَعِ فيها، اقترح رئيس بلديّة هَمبُرغ تعديلاً لقانُونِ البنَاءِ الاتّحاديّ ليسمح ببناء مساكن للاجئين مؤقّتة في مناطق غير سكنيّة، ومنها المناطق الصناعيّة، ومواقف السيارات، والمواضع التجاريّة، وذلك لمدة تقع بين ثلاث سنين وخمس سنين. وقُصِدَ بهذه الخطّة إلى تمكين بناءِ مساكنَ مؤقّتة وإلى جَبْرِ النقص الواقع في الإسكان الاجتماعي. وقد وافقت الحكومة الاتّحادية على الخطّة في عام 2014 فأقرّت أن تعمل بها حكومات المدن في البلاد، ثُمَّ وُسِّعَت في عام 2015. فاستفادت حكومة هَمبُرغ من الخطّةِ الجديدةِ تمام الاستفادة؛ إذ فتحت أكثرَ من 50 موضعاً جديداً منذُ انقضى عام 2014.

هذا، وتُتِيحُ مقاربات التخطيط الحضريّ في هَمبُرغ بديلاً من التيار الرئيسِ لخطط إسكان اللاجئين وسياساته، وذلك من خلال ما يلي: 1) إنشاء مساكن مؤقتة أمدها قصير، 2) وتيسير انتقالٍ بين المراحِلِ المُقسَّمَةِ -منذ ابتدائها- للإسكان الطارئ والتنمية الطويلة الأمد، وذلك بزيادة قدرة الإسكان الاجتماعي، فينتفع كلٌّ من اللاجئين ومواطني البلد المُضيّف. وعلى الرغم من مقاربة المدينة الجديرة بالاهتمام، لا يخلو الأمر من التحدّيات.[2] 

الموضع والاندماج

نظراً إلى الحاجَةِ المُلحَّة إلى بناءٍ إضافيّ، وإلى اليُسْرِ الذي تُتِيحُهُ الفِقرة الجديدة في قانون البناء الوطنيّ، التي أجازت بناءَ مساكن للاجئين في المناطق غير السكنيّة، نظراً إلى كلِّ ذلك، تزايدَ بناء حكومة المدينة في هَمبُرغ لمواضع إسكانٍ في أمكنة بعيدة حوالي المدينة، كلُّ مكان أبعد من الآخر. فعلى سبيل المثال، بُنِيَ موضع إسكانٍ، مساكنه من صفيح، ليستوعب من الناس 712، واسمه كِرخِنْبَوَرْشَتْرَاسّا (Kirchenpauerstrasse)، في حيٍّ اسمه هَافِنسِتِي (HafenCity)، يقع على بُعْدِ عشرين دقيقة من محطّةٍ لوسائل النقل، في وسط موضع بناءٍ حضريّ، ليس فيه من الجيران الساكنين أحد. ثم موضعٌ آخر، يستوعب 700 إنسان، اسمه آم إشِنلَند الثّاني (Am Ashenland II)، أُقِيمَ في أرضٍ زراعيّة، مفصولةٍ من الأحياء السكنيّة المجاورة، وفاصِلُها سِكَكُ حديدٍ غير مُمْكنٍ اجتيازها.

ومن التحدُّث إلى اللاجئين، كان من الواضح أنهم يفضّلون الإقامةَ في مناطق حضريّة أكبر من مناطقهم، لأنّ فيها قدراً من المساكن والوظائف أعظمَ، وقرباً من ضروب ناسٍ أكثر تنوّعاً، ومدّاً للأحبال الاجتماعيّة إلى المعارف المقيمين هناك من أصدقاء وأفراد أسرة. ففرص الإندماج تقلُّ على حسب بُعْدِ إنشاء مواضع الإسكان الجديدة عن الأحياء السكنيّة الأخرى، والتّصميم الذي عليهِ الموضع. فكثيرٌ من المواضع غير موصولةٍ بشوارعَ، وقُصِدَ بتصميمها إلى أن تكون مؤقّتةومجاوَرةُ مواضع الإسكان الأحياءَ السكنيّةَ يُيسّرُ التفاعلَ، بين اللاجئينَ وبين اللاجئينَ والسكان المحليّين، وكُلَّما بَعُدَتْ مواضع الإسكان من المناطق السكنيّة وأسباب الراحة التي فيها، كان الاندماج على اللاجئين أصعب. أضف إلى ذلك، أنّ تحديدَ مواضع الإسكان هذه بحدٍّ زمنيّ يعني أنها ستُعَادُ في آخر المطاف إلى ما كانت عليه في الاستعمال، فيُضطرُّ ساكنوها إلى أن يجدوا لأنفسهم مساكن غيرَها.

ضَجَرٌ مُقِيم

وفي إنشَاءِ مواضع الإسكان بهَمبُرغ اليومَ ارتدادٌ عريضٌ عن وجهه لسببَين: الأوّل، أنّ السكان المحليّين لا يريدون بُنْياناً كبيراً يُقَامُ في أحيائهم للاجئين (وتعريف الكبيرعند الجمعيات السكّانيّة هو أن يَسَعَ موضعٌ أكثرَ من 300 إنسان)، والثاني، أنّ اختيار تلك المواضع لم يتضمّن المشاركة العامّة التي عليها العادة (والمشاركة العامّة هي أنْ تُعَارَ آراءُ المُختصّينَ وغير المختصّين في المسائل أُذُناً صاغية). إذ أنشأت أحياء كثيرة جمعياتٍ سكّانيّة جديدة أو حشدت حلقاتٍ من الناس مُؤلّفةً من قبلُ، أنشأتها لرفع دعاوى على المدينة. وقُنِّعَ في كثيرٍ من الحالات بُغْضُ السكّانِ المحليّين لخطط البناء بقناعِ دعاوى قانونية تدافع عمّا أُبهِمَ من سياسات المحميّات الطبيعية وعمّا هُدِّدَ بالإنقراض من أنواع الشجر. وقد فازت المدينة بقريبٍ من كلِّ الدعاوى الـ40 المرفوعة عليها، إلاّ أنّ الإجراءات القانونيّة أخّرت البناءَ في كثيرٍ من المواضع إلى ما بينَ ستة شهور و18 شهراً. ولمّا كان اللاجئون يَقْدمونَ كلَّ يوم، كان لا يَسَعُ الحكومةَ المحليّة مزيدٌ من التأخير. ثم جاء في مقابلاتٍ أُجريتْ مع مهندسي تخطيط المدينة أنّ من نتيجة ما سبق ذِكْرُه، بدؤوا يقصدونَ إلى تحديد كثيرٍ من مواضع إسكان اللاجئين في الأحياء الأكثر فقراً، وهم راجونَ أن يكون السكان المحليُّون إمّا لا يقدرون على الاعتراض قانونياً أو لا يرغبون في ذلك. وأمّا عند غير هؤلاء من مهندسي تخطيط المدينة، فكان من نتيجة ما سبق ذِكْرُه، أنّ تحديد مواضع إسكان اللاجئين في الأحياء الأكثر فقراً هو أمرٌ ليس من التناسُبِ في شيء.

ولما كان في شهر أكتوبر/تشرين الأول من عام 2015، وكان الضّغطُ على إسكان اللاجئين قد زاد، أعلنت الحكومة المحليّة عزمها على إنشاءِ وحدةٍ سكنيّة دائمة في كلِّ حيٍّ من أحياء هَمبُرغ، كلّ وحدةٍ منها تُسكِنُ نحواً من 3 آلافِ إنسان. وأُرِيدَ لبناء هذه الوحدات أن يكون وَفْقَ معايير الإسكان الاجتماعيّ الفدراليّ وأن تُحْجَزَ الوحدات للاجئينَ حصراً 15 سنةً، فبعد ذلك الوقت سيصبحون جزءاً من كتلة الإسكان الإجتماعي في المدينة، ثم بعد 30 سنة يجوز لمُنْشِئها أن يبيعَ ما فيها من الشُّقَقوردّاً على ذلك، حَشَدَتْ مجموعةٌ من 13 منظّمةً من مُنظّمات الأحياء السكنيّة ليُنشِئوا فريقاً اسمه هَمبُرغ لجعل الاندماج أفضل‘ (Hamburg für gute Integration)، فالتمسَ من الحكومة أنْ تحدَّ عدد اللاجئين المقيمين في كلِّ موضع من مواضع الإسكان. وقال قادَةُ الفريق مؤكّدين إنّ دَفْعَهُم خطة الإسكان لم تكن اعتراضاً على استقبال اللاجئين، بل كانت مبادرةً أهليّة لمُسَاندة الاندماجثم جاءَ شهر يوليو/تموز من عام 2016، فأَبرمت الحكومة المحليّة اتفاقات بينها وبين 13 جماعةً سكانيّة، أنْ لا يُسكَنَ أكثر من 300 لاجئٍ في كلِّ موضع من مواضع إسكان اللاجئين.

دروسٌ مُسْتقاةٌ من سياسة الإسكان الحضريّ

استعمَالُ هَمبُرغ أنظمةَ التخطيط الحضريّ لتهيئةِ مساكنَ مؤقّتةٍ وبعيدة الأمد أمرٌ يستحقُّ الاهتمام، إن هو قِيْسَ إلى غيره من برامجِ إسكان اللاجئينَ الحضريّةِ التي تُتِيحُ إعانات الإيجار والحوافز في بغية التنميةٍ التزايُديّةإذ تُبيِّنُ الدروس المُسْتقاةُ من مقاربةٍ في المدينة لم يسبق لها مثيل، لإدماجِ إسكان اللاجئين في التخطيط الوطنيّ والخاصّ بالأحياء، أساليبَ جديدةً قابلةً للتحويل في رَدْمِ الهُوّةِ بين مراحل الغَوْثِ والتعمير المُنفصِلِ بعضها من بعضٍ مذ كانت. ولِطبيعَةِ سياسَاتِ اللاجئينَ الأخيرةِ، في هَمبُرغ التقدُّميّةِ، ولِلابتكار الذي فيها، أنْ يكونا مثالَين للسُّنَنِ الحسنة الجديرة أن تُتَّبَعَ في المنظمات الإنسانيّة الإيوائيّة وفي الحكومات المحليّة التي تسعى إلى توسيع رُقَعِ الإسكان لتَشْملَ المجتمعات المحليّة المهمَّشة.

وإنّ إسكانَ نحوٍ من 38 ألفَ لاجئٍ في أقلّ من سنتين لَإنجازٌ عظيم، ويُضَافُ إلى ذلك أنّ الأحاديث التي أجريت مع اللاجئين والسكان المحليّينَ ومهندسي تخطيط المدينة، تُشِيرُ بالسَّوَاء إلى أنّ إحداثَ التّحسيات أمرٌ ممكن. هذا، ويحتاج تطبيق هذه الخطط الجديدة لاستعمال الأراضي إلى الرَّوِيّةِ، والتَّوافُقِ في الطّبقتَين المحليّة والاتّحاديّة، والاستمرَارِ في رصد الأحوال. ولكنْ قد يؤدّي إهمال المشاركة العامّة المُعتادَةِ التي تُيَسِّرُ سرعة التنمية إلى تأخيرٍ بَعْدَ ذلك. وأمّا فَصْلُ مساكن اللاجئين من المناطق السكنيّة وأسباب الراحة في الأحياء فيُثيْرُ تحدّيات إضافيّة، تقع على اللاجئين السّاعينَ إلى إرسَاءِ عَيْشِهم في مدينة جديدة.

فقي النّظام الذي يكون فيه أكثرُ اللاجئينَ مُعوِّلين في إسكانهم على الحكومة، كالنّظام الذي في هَمبُرغ، يمكن أن يكون لمهندسي التخطيط الحضريّ أثرٌ حسنٌ في تجربة الاندماج، وذلك من خلال تأثيرهم في توزيع المساكن المكانيّ. فللمكان في الاندماج والاكتفاء الذاتيّ شأنٌ. إذ أحبالُ الوَصْلِ وثيقةٌ بين مكان الفَرْدِ وتجربتِه وتعرُّضه لثقافةٍ جديدة، وقدرتهِ على الوصول إلى أنظمة الدعم القائمة وإلى الفرص التعليميّة والاقتصاديّة. ولذا يَقَعُ مركز تأثير مهندسي التخطيط الحضريّ في مرحلة اختيار موضع الإسكان. فعظيمٌ هو شأن أن يؤتى بأدِلّة مكانيّة إضافيّة، موصولةٍ بتجربة الاندماج –كالقُرْب من المناطق السكنيّة والدراسات الإحصائية السكّانيّة في الأحياء– التي قد تَزِيدُ تحسينَ اختيارِ موضع الإسكان، ومشاركةِ المجتمع المحليّ، وتُهيِّئُ لمهندسي تخطيط المدينة أن يُقدِّموا في الأولويّة المواضعَ التي تُخْلي أمامَ اللاجئينَ سبيلَ الاندماج الذي هو أسهل.

ومن المهم ذِكْرُ أنّ هَمبُرغ خصوصاً مدينةٌ غنيّة، قَدرَتْ على تمويل مشاريعَ تنميةٍ جيدة بفائِضِ ميزانيّتها، مع دَعْمٍ من الحكومة الاتّحاديّة. نعم، قد لا يكون لكثيرٍ من البلديّات التي تستقبل اللاجئينَ ما لهَمبُرغ من موارد ماليّة، ولكنّ نتائجَ سياسة هَمبُرغ، تُقدّمُ دروساً بينَ يدي البلاد التي تطلب طُرُقاً مُبْدَعةً، لبدء بنَاءِ وحداتٍ سكنيّة جديدة ميسورةِ الكلفة، لإسكان المُهمَّشينَ في المناطق الحضريّة التي تقلُّ فيها الأراضي القابلة للبناء والتنمية.

 

جِسِكا سَيْدِي وُلف jswolff@stanford.edu

مديرَةُ برامج، في مختبر سياسة الهجرة، بجامعة ستانفُرد https://immigrationlab.org وباحثَةٌ، في مشروع اللاجئين في المدن

(Refugees in Towns)، بجامعة تفتس

 

[1] مَن شاء الوقوف على معطيات الواصلينَ إلى هَمبُرغ كلَّ شهرٍ، ومعطياتِ بناءِ المساكن الجديدة فيها، فَليَنْظُرها في:

www.hamburg.de/sfa-lagebild

[2] هذه المقالة مبنيّةٌ على بحثٍ لمؤلِّفتِها عنوانه: التخطيط للاستفادة من الأراضي في غَمْرَةِ أزمة الهجرة‘: إنشاء تعريفٍ مكانيٍّ لاندماج اللاجئين.

 Wolff J S (2018) Land Use Planning Innovations in the Midst of a ‘Migration Crisis’: Developing a Spatial Definition of Refugee Integration

https://dspace.mit.edu/handle/1721.1/118228

 

إخلاء مسؤولية

جميع الآراء الواردة في نشرة الهجرة القسرية لا تعكس بالضرورة آراء المحررين ولا آراء مركز دراسات اللاجئين أو جامعة أكسفورد.