نمذجة التَّهجير

مع أنَّ السعي وراء تنبؤ عالمي منفرد سيصيب الباحثين عنه بإحباط،  يمكن للنماذج الحالية للتغير المناخي والتَّهجير المستحث بالكوارث أن تقدم نطاقاً متنوعاً من السيناريوهات لبعض الدول أو الأقاليم أو المناطق الساخنة.

تُستخدَم النماذج التجريبية للتَّهجير والهجرة المستحثتين بالتغير المناخي والكوارث الطبيعية للتنبؤ بالطرق التي يُرجح أن يهاجر الناس بها في مختلف السيناريوهات. وهذه النماذج ليست وليدة الساعة بل إنها موجودة منذ عقود حولنا [i] أما الأمور التي اختلفت فهي التطور الذي طرأ على طريقة استخدام تلك النماذج عبر الزمن. ولقد أقام مركز رصد النُّزوح الداخلي ومؤسسة المناخ التفاعلي (Climate Interactive) [ii] نموذجاً لمنظومة تفاعلية لا تقتصر بمحاكاة آثار حالات القحط والفيضانات والتغير المناخي على التَّهجير في شمالي كينيا فحسب بل تحاكي أيضاً ما يحدث عند تطبيق مختلف التدابير الرامية إلى منع التَّهجير أو الحد منه أو الاستجابة للتَّهجير.

وقبل البدء بالعمل على صناعة نموذج، كان على مركز رصد النُّزوح الداخلي أن يقرر ما إذا كان السكان الذين يتنقلون أصلاً بصفتهم رعاة في منطقة القرن الأفريقي يمكن أن يصبحوا مهجَّرين في المقام الأول وصولاً إلى استنتاج أنَّ الرعاة يصبحون مهجَّرين بحكم فقدانهم لسبل كسب أرزاقهم المعتمدة على الرعي. ثم تمثلت الخطوة الثانية في اكتشاف كيف ومتى ولماذا يصبح الرعاة مهجَّرين. وبالعمل على هذه النظرية السببية للتَّهجير، كان لا بد من العمل مع الباحثين الآخرين والمسؤولين الحكوميين والمنظمات غير الحكومية والرعاة أنفسهم. وعلى مدى بضعة أشهر، وضعت هذه المجموعة من الفاعلين معاً تخطيطاً لجميع العوامل المهمة والعلاقات السببية التي تربط بين هطول الأمطار والتَّهجير الناتج عن تلك الظاهرة الطبيعية. وتضمن هذا التخطيط التفاعلات التي جرت بين منظومات المناخ والطقس والإنتاج الرعوي وعوامل التغيير في الثروة الحيوانية وأسعار الماشية والقرارات التي يتخذها الرعاة واستراتيجيات التسويق. وفور رسم معالم النظرية السببية، حدد أصحاب المصلحة المعنيون نقاط الدخول المحتملة للتصدي لظاهرة التَّهجير التي يتسبب بها القحط.

واختبرنا سلوك نموذج تهجير الرعاة إزاء السلوك التاريخي للمؤشرات الرئيسية التي تعود في حالتنا هذه إلى عام 1990 وذلك لنقف على ما إذا كان النموذج قادراً على إعادة إنتاج النتائج ذاتها أم لا. وبما أنَّ التَّهجير الرعوي بحد ذاته لم يُوثَّق جيداً أو لم يُعتَرف به، تضمنت عملية التحقق من صحة النموذج ومعايرته عوامل أخرى ذات صلة منها أسعار سوق المواشي وبيانات الثروة الحيوانية والسكان ومعدلات الولادة والنفوق بين المواشي. لكنَّ إيجاد وفرة من البيانات التاريخية للتحقق من صحة كل عنصر من عناصر النموذج كان أمراً مستحيلاً ما رفع من مستوى الشك.

وبهذا، كانت النتائج الأولية للتحليلات غير بديهية ومشجعة في آن واحد. فلو كثرت واشتدت حالات القحط في المستقبل نتيجة التغير المناخي، فسوف يقود ذلك إلى مزيد من التَّهجير لكنَّ ذلك لن يكون بأعداد أكبر. والأمر الثاني أنَّ التحليلات تشير إلى أنَّ الأراضي القاحلة وشبه القاحلة، خاصة في كينيا، قد تكون قادر على دعم مزيد من الثروة الحيوانية والرعاة. وبهذا القول، سوف ينتج عن زيادة أعداد الأشخاص المعتمدين على الرعي في معيشتهم إلى زيادة عدد المهجَّرين منهم في حالات القحط ما لم تُتَّخذ الإجراءات اللازمة لخفض ذلك الخطر.

النمذجة لصانعي السياسات

سمح النموذج أيضاً لصانعي السياسات باختبار التدابير الوقائية. فاستخدمت سلطة إدارة القحط الوطنية في الحكومة الكينية نموذج المنظومة التفاعلية لاختبار آثار السياسات المختلفة المتعلقة باستخدام الأراضي والثروة الحيوانية في خفض خطر التَّهجير المستقبلي المستحث بالقحط. ويخطط مركز رصد النُّزوح الداخلي ومؤسسة التفاعل المناخي للعمل مع سلطة إدارة القحط الوطنية الكينية لمحاكاة فعالية مختلف خيارات السياسات والاستثمارات المحددة في خطة البلاد الرامية إلى إنهاء حالات الطوارئ الناتجة عن القحط. ويهدف هذا الجهد التعاوني إلى استخدام نموذج التَّهجير لاتخاذ القرارات المبنية على الأدلة لخفض التَّهجير المرتبط بالقحط في المستقبل.

ويستخدم مركز رصد النُّزوح الداخلي ومؤسسة المناخ التفاعلي أيضاً نماذج تهدف مساعدة حكومة نيجيريا حيث هجَّرت الفيضانات ملايين الناس منذ عام 2008. وتبدي سلطة إدارة الطوارئ الوطنية في نيجيريا اهتمامها في تحديد مسببات خطر الفيضانات والفرص المتاحة للتصدي لها. ويعمل مركز رصد النُّزوح الداخلي ومؤسسة المناخ التفاعلي على استكشاف الطرق الكفيلة ببناء نماذج جديدة لتخصيص النماذج الحالية بحيث تدعم خطط التكيف الوطنية والإطار العام العالمي للمنظمة العالمية للأرصاد الجوية للخدمات المناخية.

كما دأبت بعض البلدان التي تنظر لأنفسها على أنها وجهات مرجحة للأشخاص المنتزعة جذورهم من بلادهم بسبب الكوارث الطبيعية والتغير المناخي على الاستثمار في فهم تلك الأنماط من الحركة البشرية.[iii] وفي الوقت ذاته، تنظر كثير من البلدان لنفسها على أنها معرضة على وجه الخصوص لآثار التغير المناخي ما دفع البلدان الأقل نمواً إلى اقتراح آلية تنسيق للتَّهجير في الجولة المؤخرة من مفاوضات التغير المناخي.

ومع ازدياد أعداد صانعي السياسات والمزاولين ممن يستخدمون هذه الأدوات، سوف يزداد فهمهم لكيفية استخدام النماذج ولا يقل أهمية عن ذلك أن يفهموا الكيفيات لتي لا يمكنهم استخدام النماذج بها. وربما المثير للسخرية أنَّ السؤال الذي لا يمكن لنماذجنا الإجابة عليه (أو بالأحرى لم تعد نماذجنا تسعى للإجابة عليه) هو: كم عدد الأشخاص المرجح تهجيرهم عالمياً مع حلول عام 2050 أو 2100؟ ومع أنَّ وسائل الإعلام الشعبية تسعى للحصول على رقم عالمي منفرد، انصب تركيز صانعي السياسات والمزاولين وواضعي النماذج على الأسئلة الأكثر تحديداً والأكثر طواعية للعمل عليها.

جاستن جينيتي justin.ginnetti@nrc.ch مستشار أول حول المنهجيات البحثية والأدلة في مركز رصد النُّزوح الداخلي. www.internal-displacement.org



[i]انظر كريستوفر سميث ودومينيك كنيفيتون وشارون وود وريتشارد بلاك (2008) "وضع نموذج لتغير المناخ والهجرة"، نشرة الهجرة القسرية العدد 31 www.fmreview.org/ar/climatechange ص. 59

[iii]انظر، على سبيل المثال، المشروع التوجيهي للحكومة البريطانية "الهجرة والتغير البيئي العالمي" ودعم الاتحاد الأوروبي للمبادرات مثل "التغير المناخي والهجرة: المعارف والقانون والسياسة والنظرية" ووثيقة وزارة الدفاع الأمريكية اسمها "خارطة الطريق للتكيف مع التغير المناخي 2014".

 

إخلاء مسؤولية

جميع الآراء الواردة في نشرة الهجرة القسرية لا تعكس بالضرورة آراء المحررين ولا آراء مركز دراسات اللاجئين أو جامعة أكسفورد.