الدروس المستفادة من بناء المبادئ التوجيهية للنزوح الداخلي

غطت المبادئ التوجيهية المعنية برحلات النزوح الداخلية ثغرة أساسية في منظومة الحماية الدولية للأشخاص المنتزعين من جذورهم، لكن ما يجب استكشافه هو ما إذا كان بناء تلك المبادئ يقدم دروساً يستفاد منها لمن يسعى إلى تطوير المعايير في مجال الهجرة.

لقد أصبحت العملية التي بُنيت على أساسها المبادئ التوجيهية المعنية النزوح الداخلي منحى أكبر قبولاً للعمل، وقد حظيت المبادئ باعتراف دولي واسع النطاق وأصبح لها سلطة حتى مع أنَّ الخبراء المستقلين وليس الدول أعدوا أحكامها وراجعوها واستكملوها خارج الإطار العابر للحكومات التقليدي.[i] وقد مهدت هذه العملية الإبداعية أيضاً الطريق أمام بناء معايير أخرى للأمم المتحدة وكذلك مبادئ بينهيرو والمبادئ التوجيهية حول المؤسسات التجارية وحقوق الإنسان. [ii]

لكنَّ المبادئ التوجيهية نجحت لأهداف محددة. فبدايةً، كانت تلك المبادئ قائمة على القانون الحالي وكانت متوافقة معه ولم يُطلب إلى الدول أداء التزامات جديدة بل طُلب إليها أن تحسن فهمها حول تطبيق التزاماتها الحالية في أوضاعها الحالية. وثانياً، بُنيَت المبادئ التوجيهية وفق توجيه خبير من الأمم المتحدة وهو ممثل الأمين العام للأمم المتحدة حول الأشخاص النَّازحين داخلياً فرانسيس م. دنغ. ومع أنّ هذه المبادئ صاغها مجموعة من المحامين الدوليين، قاد دنغ العملية وقدم تقاريره عنها بانتظام إلى لجنة حقوق الإنسان والجمعية العمومية للأمم المتحدة التي طلبت بناء إطار عام ملائم لحماية النَّازحين داخلياً.

وثالثاً، استجابت المبادئ التوجيهية إلى حاجة حساسة وحرجة أرادت الدول والمنظمات الدولية التعامل معها. فاندلاع الحروب الأهلية نتيجة الحرب الباردة أو بعدها تسبب في اقتلاع جذور ملايين الأشخاص بالقوة داخل بلادهم بسبب النِّزاع والعنف المجتمعي وانتهاكات حقوق الإنسان ولم تنطبق عليهم اتفاقية اللاَّجئين لعام 1951. وفي تسعينيات القرن العشرين بدأت الأمم المتحدة بدراسة الفجوات القانونية والمؤسسية التي تؤثر على الأشخاص النَّازحين داخلياً الذين لم يعبروا الحدود الدولية المعترف بها فلم يصبحوا لاجئين.

وهناك عدد من الدروس المستفادة من بناء المبادئ التوجيهية التي تفيد الأشخاص الذين يسعون إلى تطوير المعايير في بيان جدية وناشئة:

  • قبل البدء بمعايير جديدة كان من الضروري وضع القضية على الخريطة لتمهيد الطريق أمام الاعتراف الدولي بالمشكلة وضرورة اتخاذ الإجراءات اللازمة للتعامل مع المشكلة
  • أثبت تعيين خبير للأمم المتحدة لقيادة العملية أنه أمر فعال في إقناع الحكومات في قبول بناء مبادئ جديدة
  • لقد كان ارتباط الخبير بمؤسسة مستقلة (وهي مشروع النزوح الداخلي في معهد بروكنغز، في حالتنا هذه) أمراً ضرورياً لتنظيم العملية وإدارتها.
  • لقد كان دعم الحكومات الرئيسية أمراً حيوياً في تحقيق الإجماع حول المبادئ خاصة بين الدول التي أبدت التحفظات
  • كان لمشاركة الخبراء من مفوضية الأمم المتحدة السامية للاجئين ومكتب المفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان واللجنة الدولية للصليب الأحمر في صياغة المبادئ التوجيهية دور في دعم المحامين الدوليين المعنيين بالعملية.
  • أثرت عملية استشارات واسعة النطاق حول القضايا الشائكة التي ظهرت (التي شارك بها خبراء من الهيئات الإقليمية والدولية الإنسانية والمنظمات الإنمائية والمنظمات غير الحكومية الإنسانية والحقوقية وجماعات مناصرة قضايا المرأة والطفل) على كثير من الحكومات وجعلتها تستجيب بإيجابية للعملية. وكانت الدول على وجه الخصوص مستعدة استعداداً كاملاً لدعم المبادئ إذا ما وجدتها الهيئات العملياتية مفيدة في هذا المجال.

الصياغة الفعلية للمبادئ التوجيهية تحمل أيضاً دروساً:

  • عندما بُنيت المبادئ على الفروع الثلاثة للقانون (قانون حقوق الإنسان والقانون الإنساني وقانون اللاَّجئين) أتاح ذلك تغطية معظم أوضاع النزوح الداخلي.
  •  

بنيت المبادئ على مقاربة الحاجات، بمعنى أنها حددت حاجات النَّازحين داخلياً قبل دراسة الدرجة التي تعامل معها القانون بدرجة كافية ومكّن ذلك تحديد المناطق الرمادية والثغرات في القانون التي تتطلب كل الاهتمام. وعزز هذه المقاربة القرار المتخذ بالاستفادة ليس من قانون المعاهدات فحسب بل القانون العرفي وصكوك القانون الناعم.

  • كان الالتصاق بالقانون الموجود عند التعامل مع الثغرات والمناطق الرمادية بدلاً من إيجاد قانون جديد من أهم المزايا الهادفة إلى أن تحظى المبادئ التوجيهية على القبول. فقد كان من المغري في أغلب الأحيان الدعوة إلى تحسين القانون لكَّن واحدة من نقاط القوة التي تتمتع بها المبادئ التوجيهية تتمثل في أنها مبنية على القانون الملزم وإن كانت وثيقة غير ملزمة  بحد ذاتها.
  • مكَّن خيار التأكيد على القانون الفريق القانوني من تفصيل أحكام القانون بما يلائم حاجات النَّازحين. وفي الحالات التي وُجدت فيها ثغرات واضحة، اعتمد الفريق القانوني على ما نظروا إليه على أنه موجود ضمنياً في القانون. ولذلك، منحت المبادئ الثقة لكثير من الحكومات بشأن استخدامها كأساس تُبنى عليه السياسات والقوانين في بلدانها إذ إنَّ كل مبدأ ينصب في النهاية في البنود القانونية المقبولة أصلاً لدى الدول.
  • ساعدت مرونة تعريف النَّازحين للتغلب على عامل الوقت في الحصول على قبول واسع النطاق لذلك التعريف. فقد سعى التعريف إلى الموازنة بين إطار عام ضيق للغاية يخاطر بإقصاء الناس وآخر واسع النطاق قد يصعب إدارته على أرض الواقع.
  • تضمنت آلية التأكد من أن انتقاء جماعة ما لمنحها الحماية لن يضفي امتيازاً على تلك الجماعة الإشارة إلى أنه لم تكن هناك صفة قانونية اسمها "نازح" بل إن الهدف كان ضمان التعامل مع الشواغل التي تلم بالنازحين وحدهم دون غيرهم. فالنازحون كانوا مجموعة مستضعفة بطريقة مماثلة لاستضعاف فئات أخرى، مثل:اللاجئين والنساء والأطفال وكبار السن.
  • اكتسبت المبادئ التوجيهية الدعم بتأسيسها لمقاربة مفهومية تحترم مبدأ السيادة، وتحديداً على أن السيادة مسؤولية. فالمبادئ التوجيهية تؤكد بوضوح على أنَّ المسؤولية الرئيسية تجاه النَّازحين تقع على عاتق حكوماتهم. لكنها في الوقت نفسه تؤكد على أنَّه في حالة لم تكن الحكومات قادرة أو راغبة في تولي التزاماتها، فيُتوقع من المنظمات الدولية أن تشارك في العملية. فللمنظمات الإنسانية الدولية "الحق في عرض خدماتها دعماً للنازحين داخلياً" ولا يجب "حجب[الموافقة الحكومية] بتعسّف خاصة عندما تكون السلطات المعنية غير قادرة على توفير المساعدة المطلوبة" وقد أكد ممثل الأمين العام مراراً وتكراراً أنَّه من مصلحة الدول أن تؤدي مسؤولياتها الوطنية.
  • كان رسم خطة النشر للوصول إلى الحكومات والمجتمع المدني في أنحاء العالم من الأمور الحاسمة في تعزيز الدعم للمبادئ التوجيهية.
  •  

محدوديات العملية غير الحكومية وفوائدها

قد يقال إنَّ المبادئ إذا جاءت على صيغة صك قانوني ملزم فسوف تكتسب قدراً أكبر من السلطة والاعتراف الدولي بل سوف تزداد احتمالية تطبيقها أكثر مما لو كانت على صيغة مبادئ غير ملزمة. لكنَّ الحقيقة أنَّ التفاوض على معاهدة دولية تفتقر إلى الدعم المطلوب قد يستغرق عقوداً من الزمن. وقد يكون في ذلك خطر أيضاً لأنها قد تتسبب في تمييع الأحكام الحالية الموجودة في قانون حقوق الإنسان والقانون الإنساني الذين يمثلان أساس تلك المبادئ.

وفضلاً عن ذلك، لا تصادق الحكومات دائماً على المعاهدات التي تتبناها بل قد لا تمتثل إلى المعاهدات التي تصادق عليها. عدا عن أنَّ التأثير على الحكومات بهدف تنفيذها لمسؤولياتها يمثل تحدياً سواء أكان الصك ملزماً أم غير ملزم. ومن هنا، تبين لممثلَي الأمين العام للأمم المتحدة أنه من الأسهل التفاوض مع المسؤولين الوطنيين على أساس الإرشادات التوجيهية لأنَّ بعض الحكومات وجدتها أقل خطراً إذ لا يمكن توجيه تهمة رسمية للحكومة التي لا تمتثل لها.

وفي حالة المبادئ التوجيهية، قد يبدو الاستخدام والقبول المستدامان المسار الأفضل الذي يمكن انتهاجه. وهناك زيادة مستمرة وملحوظة في عدد الحكومات التي بدأت تتبنى القوانين والسياسات الوطنية المبنية على المبادئ وكذلك الحال بالنسبة للهيئات الإقليمية، مثل: الاتحاد الأفريقي الذي تبنى اتفاقية كامبالا الملزمة قانوناً، إضافة إلى المحاكم وهيئات المعاهدات التي بدأت تستشهد بالمبادئ التوجيهية. ومع مرور الوقت، قد يعزز ذلك من التوجه نحو اعتبار المبادئ التوجيهية جزءاً من القانون العرفي أو ربما في حالة الحصول على الدعم الدولي، قد يلي تلك المبادئ اتفاقية ملزمة قانوناً.

والسؤال هو: أيمكن لتجربة المبادئ التوجيهية أن تساعد في بناء المعايير لمعالجة "هجرة الأزمات" أو النازحين لأسباب بيئية؟ هذا من الأمور التي لا شك بها لكنَّ أول ما سيتطلب ذلك صياغة تعريف أو وصف واضح للأشخاص الذي يُنظر إليهم على أنهم بحاجة للحماية، وثانياً يجب دراسة ما إذا كان بالإمكان تناول حقوق أولئك الأشخاص واستحقاقاتهم من منظور القانون الدولي الحالي. ومن هنا، سيكون من الضروري لإجراء استشارات موسعة على المستويين الوطني والإقليمي بحيث يمكن إشراك نطاق واسع من الفاعلين الحكوميين وغير الحكوميين أثناء الحشد للحصول على الدعم.

نحن نشهد في يومنا هذا كوارث طبيعية متكررة وشديدة الوطأة وهي نتاج رئيسي للتغير المناخي ونعلم بالفعل أنَّها تتطلب منا تعزيز الضمانات القانونية ليس للنازحين (خاصة المقتلعين من جذورهم نتيجة الكوارث بطيئة الحدوث) فحسب بل أيضاً للأشخاص الذين أُجبروا على عبور الحدود دون حصولهم على صفة اللجوء.

 

روبرتا كوهين rcohen@brookings.edu زميلة أولى غير مقيمة في معهد بروكنغز www.brookings.edu

 

هذا المقال مبني على بحث مطوّل أُعد لمشروع هجرة الأزمات لدى معهد دراسات الهجرة الدولية ونشره المعهد المذكور.

http://isim.georgetown.edu/work/crisis/products/workingpapers/

 



[i] أقر المبادئ التوجيهية للنزوح الداخلي 193 دولة في عام 2005 على أنها "إطار عام دولي مهم لحماية النَّازحين"

www.who.int/hiv/universalaccess2010/worldsummit.pdf, para. 132

 

إخلاء مسؤولية

جميع الآراء الواردة في نشرة الهجرة القسرية لا تعكس بالضرورة آراء المحررين ولا آراء مركز دراسات اللاجئين أو جامعة أكسفورد.