الأزمات الصحية والهجرة

تساهم الاستجابات الفردية والجماعية للأزمات الصحية في وضع استجابة صحية عامة منظمة تمنع في معظم الأحيان الحاجة إلى تهجيرات واسعة النطاق. ويُعدُّ تقييد الحركة السكانية طريقاً غير فاعل في احتواء الأمراض ومع ذلك تلجأ الحكومات إلى ذلك الحل عند ظهور الأزمات الصحية.

من بين السياسات الصحية الأقدم التي انتهجتها الحكومات هناك قوانين الحجر الصحي التي طُبِّقت خلال أوقات انتشار الطاعون في أوروبا في القرن الرابع عشر عندما طبقت عدة مدن شاطئية على البحر المتوسط العزل على المجتمعات المتأثرة بذلك الوباء وقيّدت حركة السكان استجابة لمخاطر الأزمة الصحية. وبحلول القرن الثامن عشر، أصبحت تلك المبادئ المعيار المتبع على الحدود الدولية.

وفي عام 1951، تبنَّت منظمة الصحة العالمية تعليمات الإصحاح الدولية التي أعيد تسميتها فيما بعد عام 1969 إلى تعليمات الصحة الدولية بهدف توفير الوقاية القصوى من انتشار الأمراض المعدية مع تخفيف وطأة ذلك على السفر وحركة التجارة إلى أدنى حد ممكن. وركزت تلك التعليمات على السيطرة على أربعة أمراض هي الكوليرا والحمى الصفراء والطاعون والجدري وبُنيت تلك التعليمات على افتراضات مفادها أنَّ الأمراض التي تمثل تهديداً على السفر وحركة التجارة الدوليتين إنما هي أمراض قليلة وأنَّ الهجرة أحادية الاتجاه وأنَّه يمكن إيقاف الأمراض على الحدود الدولية.

لكنَّ تعليمات الصحة الدولية لا تشتمل على آلية للإنفاذ ولا على العقوبات اللازمة إزاء الجهات التي تمتنع عن الامتثال إلى التوصيات، وفي عام 1995، وصلت منظمة الصحة العالمية إلى اقتناع مفاده أنَّ البلدان لم تبلغ في معظم الأحيان عن تلك الأمراض الأربعة توخياً لخطر ذلك على تقييد حركتي السفر والتجارة. وبالإضافة إلى ذلك، لم تغطِّ التعليمات الأمراض التي تتسبب في ارتفاع معدلات الوفيات أو تلك التي تنتشر بسرعة كجائحة الإنفلونزا على سبيل المثال. فقد أثبتت متلازمة الالتهاب الرئوي اللانمطي الحاد، والمعرف باسم وباء سارس، وكذلك انتشار فيروس H1N1 قدرتهما على الانتشار على المستوى العالمي خلال أيام قليلة.

ومن هنا، خضعت تعليمات الصحة العالمية إلى المراجعة والتنقيح منذ عام 2007، منتقلة من الحديث عن الأمراض المحددة إلى التركيز على "أحداث الصحة العامة التي تمثِّل مصدراً للقلق الدولي". وعليه، اتخذت معايير الصحة الدولية المنقحة مقاربةً وقائية للتعامل مع انتشار الأمراض بين الدول بالتأكيد على مسؤولية الدول الوطنية تجاه اتجاه أحداث الأمراض واحتوائها في المصدر وذلك من خلال الطلب إلى تلك الدول بناء قدراتها الرئيسية في الصحة العامة وصون تلك القدرات. وفرضت التعليمات أيضاً على الدول أن تقدم تقاريرها حول الأحداث التي تمثل مصدراً للقلق الدولي إلى منظمة الصحة العالمية تمهيداً لانتهاج التدابير الدولية المناسبة القائمة على الأدلة. ورغم التزام الدول بالتعليمات المذكورة، ما زال بعضها يعود مجدداً إلى ممارسة العزل وتقييد الحركة، والتهديد بإغلاق الحدود أو إصدار قرارات بإغلاقها فعلياً أو فرض القيود على السفر سيعاً منها لمنع الداخلين من نقل العدوى إلى أراضيها. فاستجابة لوباء سارس عام 2003، على سبيل المثال، أغلقت كازاخستان حدودها مع الصين على امتداد 1700 كيلومتر واشتمل الإغلاق الحركة الجوية وحركة السكك الحديدة والطرق، وكذلك أغلقت روسيا معظم منافذها البرية مع الصين ومنغوليا. وفي عام 2009، خلال جائحة H1N1، علَّقت الصين رحلاتها الجوية من المكسيك وفحصت ودققت كل رحلة دولية قادمة وكانت تفرض الحجر الصحي على الرحلة كاملة إذا تبين وجود أي مسافر فيها يشكو من ارتفاع في الحرارة فوق 37.5 مئوية. لكنَّ جميع تلك التدابير كانت تعارض الإرشاد الذي قدمته منظمة الصحة العالمية.

الهرب استجابة للأزمات الصحية

من النادر أن يتحرك السكان على نطاق واسع نتيجةً مباشرةً للأزمة الصحية. وعندما يحدث ذلك، تميل الهجرة لأن تكون نزوحاً داخلياً (إلى الأقاليم والمناطق الخارجية المتاخمة لمنطقة الأزمة) وعادة ما تكون تلك الهجرة مؤقتة وتبدأ في مراحل الأزمة الصحية المبكرة عند عدم توافر كثير من المعلومات أو عند ورود معلومات متضاربة أو غير دقيقة. ففي مدينة سورات الهندية، أدى انتشار الطاعون عام 1995 إلى هرب نصف مليون شخص من المدنية. وخلال تفشي وباء سارس عام 2003، غادر ما يصل عدده إلى مليون شخص من بكين متوجيهن إلى قرى أسرهم لكنهم عادوا جميعاً بعد انحسار الأزمة.

وكذلك الهجرة العابرة للحدود نتيجة الأزمات الصحية فهي نادرة لكنها تحدث على أي حال. فبين عامي 2008 و2009، عانت زمبابوي من أسوء تفشٍّ لوباء الكوليرا وفاق عدد الحالات المشتبه بها 98000 حالة في حين قضى الوباء على 4276 شخصاً. وبحلول يناير/كانون الثاني 2009، قبل وصول التفشي ذروته، هرب من زمبابوي إلى جنوب أفريقيا ما يقدر عدده بـ 38000 شخص مع أنَّ الأثر الدقيق لتفشي الكوليرا على الهجرة من زمبابوي إلى جنوب أفريقيا يصعب تقييمه نظراً للتنوع الكبير في مسبِّبات الهجرة لآلاف الزمبابويين العابرين للحدود كل يوم.

ومن إحدى خصوصيات الأزمات الصحية قدرة الأفراد والمجتمعات على التخفيف من آثار الأزمة. فقد ثبت أنَّ التحسّن التدريجي في فهم الأمراض المعدية والعوامل المسببة لها وأنماط انتقالها والطرق المثبت فعاليتها في السيطرة على انتشارها، قد مكَّن الأفراد والسكان والحكومات في تبني السلوك الوقائي في كثير من الهجرة المستبقة الطوعية منها والقسرية. فالأفعال الفردية أو الجماعية تخفف من خطر الأمراض وتقدم بديلاً للهرب من الأزمة، وذلك من ضمن الأسباب التي تفسر سبب اختيار الناس لعدم مغادرة المنطقة التي تحدث فيها أزمة صحية. فأثناء تفشي مرض سارس في عام 2003، تبنت تورنتو في كندا، التي كانت أكبر دولة عانت من الوباء خارج قارة آسيا، استراتيجية طوعية للحجر الصحي ضمن البيوت مدة عشرة أيام للأفراد الذين كانوا على تماس مع حالات الإصابة، وبلغ عدد الأفراد المحجور عليهم 23103 أشخاص منهم 27 صدر بشأنهم أمر قانوني بالحجر الصحي الإجباري. وخلال جائحة H1N1 عام 2009، أوصت منظمة الصحة العالمية بتطوير اللقاح وتوزيعه واستخدام الاستطابات المضادة للفيروسات وأوصت بفرض الإغلاق على المدارس وتعديل أنماط العمل والعزل الشخصي للأفراد التي تظهر عليهم أعراض الإصابة بالمرض وقدمت الإرشادات والنصح لمقدمي الخدمة وأوصت بإلغاء الاجتماعات الجماعية للتخفيف من الجائحة. وذكرت المنظمة صراحة أنَّها لم توصِ بفرض القيود على السفر.

الخلاصات

يصعب عزو الهجرة الجماعية مباشرة للأزمات الصحية خاصة بالنسبة للهجرة العابرة للحدود بين الدول. فعادة ما تكون الهجرات السكانية العبارة للحدود ضمن سياق أزمة إنسانية أوسع نطاقاً وغالباً ما يمثل ذلك تهديداً على حياة الناس ومن الأرجح أن يكون سبباً مباشراً في الحركة السكانية. وحتى لو لم تكن الواقعة الضمنية مفاجِئة أو كارثية كما الحال في الانهيار التدريجي للدولة في زمبابوي، تحدث الهجرة الناتجة عن الأزمات الصحية على خلفية الهجرة الموجودة قبل الأزمات نحو البلدان المجاور، ويستخدم فيها المهجّرون نتيجة الأزمة الصحية النمط ذاته من الحركة الذي تتبعه الفئات المهجَّرة الأخرى. وهذا ما يصعّب من عزو الهجرة مباشرة إلى الصحة أو تحديد الأعداد الفعلية للأشخاص المهجَّرين بفعل الأزمات الصحية. وعندما يتنقل الناس نتيجة الأزمات الصحية، يميلون إلى التحرك إلى الداخل عبر مسافات قصيرة ويمكثون في مكان النزوح مدداً قصيرة من الزمن نسبياً وغالباً ما يكون ذلك بسبب إساءة فهمهم للأزمة الصحية والذعر الذي يعتريهم إزاءها.

ومع أنَّ الاستخدام الفردي والجماعي لتدابير تخفيف أثر الأزمات الصحية قد يكون من الأسباب المفسرة لعدم تسبب الأزمات الصحية في الهجرة فليس من الضروري أن تكون تلك الاستجابات ممكنة الحدوث في البلدان التي تعاني من شح في الموارد والبنى التحتية والتي تحدث فيها معظم الأزمات الصحية.

أما الفهم الحالي الشائع حول آليات انتشار الأمراض فمفادها أنَّ الأمراض لا يمكن إيقافها على الحدود. فقد أظهر تفشي الأمراض، مثل: سارس و H1N1، أنَّ حجم السفر العالمي وسرعته يمكن أن يتسببا في انتشار الأمراض عالمياً في بعضة أيام. ومن جهة أخرى، لا تقدم النماذج الحسابية الرياضية كثيراً من الإثباتات على أنَّ فرض القيود على السفر سوف يخفض من انتشار الأمراض. وقد انعكست تلك الحقيقة على تعليمات الصحة العالمية التي لا تركز كثيراً على تدابير الرقابة على الحدود بل تركز أكثر على اكتشاف المرض في المصدر والاستجابة له هناك وكذلك تركز على قنوات الاتصال العالمية. وتتيح هذه الإرشادات أيضاً إلى تصميم استجابة مخصصة مبنية على الأدلة المتاحة يمكن استخدامها فور وقوع الأزمات بالتركيز على الحد من انتشار المرض.

وفي حين تتضمن إرشادات الصحة العالمية تدابير حكومية متعلقة بالسفر للحد من انتشار الأمراض مثل تدابير السيطرة الاتجاهية (vector control) على منافذ الدخول الجوية أو البحرية أو البرية، فهي لم تُخصّص لتقديم التوصيات حول المسائل المتعلقة بالهجرة في سياق الأزمات الصحية ومنها على سبيل المثال وضع الأفراد أو الفئات السكانية المغادرة لمنطقة تشهد أزمات صحية.فالأفراد العابرون للحدود الدولية بهدف واحد صرف هو الهرب من الأزمة الصحية فمن غير الأرجح أن يحصلوا على صفة اللاجئين وفقاً لاتفاقية عام 1951 بل قد يُنظر إليهم على أنهم ليسوا سوى مهاجرين عاديين.

ومع أنَّ هناك إجراءات قانونية تتعلق بالجانب الصحي يجب على مقدم طلب اللجوء أن يفي بها، خاصة بالنسبة للأفراد المصابين بفيروس نقص المناعة البشرية HIV، لم يكن اللجوء يُمنح بناء على الإصابة بالمرض بل على أساس خوف الفرد من الاضطهاد المرتبط بين الإصابة بفيروس HIV والتوجه الجنسي. وبالمقابل، هناك أفراد مؤهلون للحصول على صفة اللاجئين لكنَّ طلباتهم رُفضت ثم رُحِّلوا بسبب إصابتهم بذلك الفيروس فيما يمثل الحالات الأكثر مشاهدة. وقد برنامج الأمم المتحدة المشترك المعني بالإيدز أنَّ القيود المفروضة على الهجرة على خلفية الإصابة بفيروس HIV تنتهك باستمرار أحد مبادئ حقوق الإنسان وهو حق عدم الإعادة القسرية. لكنَّ كل تلك القضايا تقع خارج نطاق إرشادات الصحة العالمية.

ولعله من الممكن توسيع نطاق المرونة الممنوحة في التشريعات الوطنية للأشخاص الذين لم يستوفوا المعايير القانونية لصفة اللجوء لكنهم في الوقت نفسه سيواجهون الخطر إذا ما أُعيدوا إلى بلدانهم بحيث تشتمل تلك التوسعة على الأشخاص القادمين من بلدان تواجهه أزمات صحية. وفي الواقع، هناك بعض الأحكام الموجودة المشابهة لذلك منها على سبيل المثال ما ينطبق على الأشخاص الذين تأثرت بلدانهم بالكوارث طبيعية (كما الحال في السياسة الأمريكية تجاه كل من مونتسيرات وهاييتي). ولما كانت الكوارث الطبيعية في أغلب الأحيان تقود إلى تبعات صحية، لا بد من تسهيل ذلك الفهم نسبياً. وهنا، يكمن التحدي في السياسات إذ لا بد من معرفة متى يمكن رفع الحظر على الترحيل على أساس الأزمات الصحية بل سيكون من المنطقي أيضاً مواءمة ذلك كله مع إعلانات منظمة الصحة العالمية وفقاً لإرشادات الصحة العالمية.

وفي هذا العالم الذي تتسارع فيه حركة السفر والتجارة والتغير المناخي أيضاً والذي تتزايد فيه حالات الأمراض المعدية والمشكلات الصحية الأخرى، تُحتّم زيادة الهجرة المتعلقة بالصحة تقديم تعريف أفضل لصفة الهجرة. ولا بد من بذل جهود أكبر لتشجيع الحكومات والمنظمات على العمل مع الهجرة والسكان المهاجرين لفهم إرشادات الصحة العالمية والامتثال لها كوسيلة لتعزيز القدرة على منع الهجرة المرتبطة بالأزمات مع ضمان الحماية الأفضل الممكنة من الأمراض.

التوصيات

  • يُطلب إجراء مزيد من الأبحاث على أثر الأزمات الصحية على الهجرة خاصة في تمييز العوامل الصحية عن غيرها من دوافع الهجرة.

 

  • تحقيق قدر أكبر من الانسجام المطلوب بين تعليمات الصحة الدولية وسياسات الهجرة وممارساتها على المستويات الوطنية والدولية بغية إثراء الاستجابات الحكومية التي تساعد السكان على تجنب الهجرة خلال الأزمات الصحية.

 

  • على المستوى الوطني، يُطلب تحقيق مزيد من التنسيق بين الهيئات الحكومية الصحية وتلك المعنية بشؤون الهجرة. وينبغي أن توفّر سياسات الهجرة الوطنية أيضاً المساعدة والحماية للاجئين القادمين من مناطق متأثرة بالأزمات الصحية أو الذين يواجهون خيار العودة إليها ويجب أن يكون ذلك بعدة طرق منها تعليق أوامر الترحيل إلى حين انحسار الأزمة الصحية.

 

مايكل إيديلشتاينMichael.edelstein@doctors.org.uk زميل في مجال علم الأوبئة في هيئة الصحة العامة في السويد ، www.folkhalsomyndigheten.se/

ودايفيد هيمان David.Heymann@phe.gov.uk أستاذ علم الأوبئة المعدية في كلية لندن للصحة الشخصية والطب المداري www.lshtm.ac.uk

وخالد كوسر k.koser@gcsp.chمساعد مدير مركز جنيف للسياسة الأمنية www.gcsp.ch وزميل رئيسي غير مقيم، مشروع إل إس إي حول النزوح الداخلي www.brookings.edu/about/projects/idp

إخلاء مسؤولية

جميع الآراء الواردة في نشرة الهجرة القسرية لا تعكس بالضرورة آراء المحررين ولا آراء مركز دراسات اللاجئين أو جامعة أكسفورد.