Skip to content
سفينة "هيومانيتي 1" تنفذ عملية إنقاذ. حقوق الصورة: واندا بروفت / إس أو إس هيومانيتي

تعمل فرق الإنقاذ المعنية بإنقاذ حياة الأشخاص في وسط البحر الأبيض المتوسط في ظل سياساتٍ تحوّل الإنقاذ إلى عمليةٍ مكلفةٍ قد تُعتبر جريمةً في بعض الأحيان.

إن معبر وسط البحر الأبيض المتوسط بين ليبيا وتونس ومالطا وإيطاليا هو من بين الأكثر فتكًا في العالم. فخلال السنوات العشرة حتى نهاية 2024، حاول أكثر من 930 ألف شخصًا خوض هذه الرحلة،[1] وأمل معظمهم الوصول إلى الاتحاد الأوروبي عبر إيطاليا للحصول على اللجوء أو الحماية الإنسانية. إلا أن 4,400 شخصًا اختفوا على طول هذه الطريق[2] منذ إصدار وزير الداخلية الإيطالي ماتيو بيانتيدوسي المرسوم الأكثر تقييدًا المعني بالإنقاذ في عام 2023. هذا وتُوثّق هذه الرحلات الخطيرة والوفيات من قِبل المنظمة الدولية للهجرة والمجموعات الناشطة مثل شبكة “هاتف الإنذار” (Alarm Phone) التي تستجيب إلى اتصالات طلب النجدة في البحر، فضلًا عن الصحافة والجهات الأكاديمية.

ومع أن السلطات في إيطاليا والاتحاد الأوروبي ككل تدرك المخاطر التي تنطوي عليها عمليات العبور هذه ووتيرتها خير الإدراك، تحوّلت مقاربتها لإدارة الحدود من إعطاء الأولوية لعمليات البحث والإنقاذ إلى تجريم الهجرة والإنقاذ على السواء. فقد ولّد مرسوم بيانتيدوسي لعام 2023 (المرسوم الاشتراعي رقم 1 لعام 2023)، الذي يستهدف سفن المساعدة الإنسانية تحديدًا، تحدياتٍ كبيرة لفرق الإنقاذ، ومنها الأحكام الجديدة التالية:

  • لا يحق للفرق تنفيذ أكثر من عملية إنقاذ واحدة قبل إنزال الأشخاص المهاجرين في ميناءٍ آمن.
  • على تنفيذ هذه المهام ألا يولّد أوضاعًا خطيرةً على متن السفينة.
  • على فرق الإنقاذ بدء عملية جمع المعلومات لطلبات اللجوء الخاصة بالناجين والناجيات.
  • قد تؤدي المخالفات إلى فرض غرامة تصل إلى 50,000 يورو فضلًا عن مصادرة السفينة.

ومنذ إقرار هذا القانون، تعمد السلطات الإيطالية بانتظام إلى توجيه السفن الإنسانية ليس إلى الميناء الأقرب، وإنما إلى أي ميناء على طول الساحل الإيطالي. فعلى سبيل المثال، حتى إذا كان الميناء الأقرب إلى حدث الإنقاذ هو ميناء صقلية، قد يقوم مركز تنسيق الإنقاذ البحري في روما بتعيين ميناء في شمال إيطاليا لإنزال الركاب.

ونتيجة هذه الممارسة المعروفة بممارسة ’الموانئ البعيدة‘ في المنظمات غير الحكومية، تستغرق مهام الإنقاذ المنفردة هذه وقتًا ومسافةً أطول بكثير من اللازم. وتعتبر فرق المساعدة الإنسانية أن هذه التداعيات ليست عرضيةً، بل استراتيجية. ففي ظل البيئة السياسية المعادية للأشخاص المهاجرين (سواء كانوا لاجئين أو طالبي لجوء أو من الفئات المهاجرة الأخرى) ولممارسات الإنقاذ، يُقصد بتعيين موانئ بعيدة استنزاف موارد فرق الإنقاذ وتعريض الأشخاص المهاجرين لمخاطر إضافية، وبالتالي اختبار جدوى عمليات البحث والإنقاذ التي ينفذها القطاع الإنساني.

أستند في مناقشتي لهذه التحديات وكيفية مواجهة المجموعات الإنسانية لها إلى البيانات التي شاركتها معي منظمة “إس أو إس هيومانيتي” (SOS Humanity) التي تشغّل سفينة الإنقاذ “هيومانيتي 1” (Humanity 1) منذ عام 2022، وإلى مقابلةٍ أجريتها مع المدير العام للمنظمة السيد تيل رومنهول في حزيران/يونيو 2024 عندما تم إرساء السفينة في سرقوسة في صقلية.

نهُجٌ متغيّرة

 جاء مرسوم بيانتيدوسي بعد عقدٍ من التغيير في مقاربة الحكومة الإيطالية لعمليات البحث والإنقاذ. فتشكّك التغييرات القانونية والممارسات ذات الصلة بشكلٍ متكرر في المبادئ الدولية المُتعارف عليها. وتُلزم اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار البحّارة بإنقاذ أي سفينة قريبة في محنة وبإيصال ركّابها إلى أقرب ميناءٍ آمن.

في عام 2014، أعطت إيطاليا الأولوية لعمليات البحث والإنقاذ. فنجحت عملية “ماري نوستروم” (أي بحرُنا) العسكرية-الإنسانية الإيطالية في إنقاذ أكثر من 150 ألف شخصٍ على مدى 12 شهرًا، ولكن تكبّدت إيطاليا بذلك تكاليف لا يمكنها تحمّلها. وكانت المهام التي أدارتها وكالة “فرونتكس” (Frontex) الحدودية الأوروبية بعد ذلك أصغر نطاقًا وأقل تشديدًا على البحث والإنقاذ بشكلٍ فعلي، على الرغم من استمرار عبور أعدادٍ كبيرة من الأشخاص وعلى الرغم من الأبحاث التي فضحت المفهوم الخاطئ بأن سفن الإنقاذ تشكّل عامل جذبٍ للهجرة.

هذا وكانت المنظمات الإنسانية تعمل أساسًا في البحر، إلا أن عددها تزايد بين عامَي 2015 و2016، إذ تدخلت لردم هذه الفجوة في قدرات البحث والإنقاذ. وكان يُعترف بالفرق الإنسانية في البداية كجزءٍ لا يتجزأ من شبكة البحّارة التي تساعد الأشخاص الذين يمرّون بشدائد وتنسّق مع مركز تنسيق الإنقاذ البحري الإيطالي. إلا أنه ومنذ عام 2016-2017، عمدت عدة دول في الاتحاد الأوروبي إلى تجريم الهجرة والإنقاذ. وفي إيطاليا على وجه التحديد، استهدف القادة السفن التي تديرها المنظمات غير الحكومية عبر مصادرة السفن وفرض الغرامات وإقرار القوانين التقييدية. واستعانت إيطاليا أيضًا ببلدانٍ ثالثة لاعتقال الأشخاص المهاجرين أو معالجة طلباتهم. وتُعنى جهات الإنقاذ على وجه الخصوص باتفاقية التفاهم التي أبرمتها السلطات الإيطالية مع ليبيا في عام 2017 والتي توكّل خفر السواحل الليبي باعتقال الأشخاص المهاجرين في البحر وإعادتهم إلى مرافق اعتقال غير إنسانية في ليبيا.

وتعكس الخطابات بشأن هذا الموضوع مدى تسييس عمليات الإنقاذ. فتُعيد الخطابات السياسية الطاغية تأطير ما كانت تُعتبر عمليات تعاون لتحوّلها إلى أنشطة إجرامية، وتعتمد سردياتٍ مفادها أن أعضاء وعضوات فرق الإنقاذ وأي أشخاصٍ يقودون سفن المهاجرين هم مهرّبون يسهّلون الهجرة ’غير القانونية’، وليسوا أشخاصًا يعملون على تفادي حالات الوفاة في البحر. وتغذي عمليات ضبط السفن المنفذة بموجب مرسوم بيانتيدوسي هذه السرديات. فقد تم احتجاز السفن التي تشغّلها المنظمات غير الحكومية والتي تنفذ التزاماتها الدولية بالإنقاذ أكثر من عشر مراتٍ في عام 2023 وحده بموجب هذا القانون.

تداعيات ممارسة الموانئ البعيدة

بحسب البيانات التي جمعتها منظمة “إس أو إس هيومانيتي”، أبحرت السفن الإثنتي عشرة الكبيرة والتسعة الصغيرة في وسط البحر الأبيض المتوسط بين عامَي 2023 و2024 في ظل مرسوم بيانتيدوسي لمدة 653 يومًا إضافيًا وعبرت أكثر من 261,990 ميلًا إضافيًا من أجل إنزال الأشخاص المهاجرين في الموانئ التي تم تعيينها إليها. ويعني ذلك من الناحية العملية أنه لو كانت السلطات قد عيّنت موانئ أقرب إلى هذه السفن، لكان الأشخاص المهاجرون نزلوا إلى البر وحصلوا على المساعدة واللجوء وبدأوا عمليات الاستقبال بشكلٍ أسرع. وكانت السفن من جهتها لتمكّنت من تنفيذ عددٍ أكبر من عمليات الإنقاذ خلال الوقت الذي اضطرّت فيه بدلًا من ذلك إلى الإبحار إلى ما بعد صقلية حتى ساحل بحر طرانة وصولًا إلى جنوة.

ويتم إرسال الأشخاص المهاجرين حديثي الوصول بموجب نظام الاستقبال في إيطاليا إلى ’نقطة اتصال‘ أولًا للتعرف على هوياتهم. ونقاط الاتصال هذه هي عبارة عن مراكز معالجة كبيرة تم اعتمادها في عام 2015 عند الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي للتعامل مع أعداد الأشخاص المهاجرين القياسية. وفي حال لم يتم رفض طلب الحماية بشكلٍ فوري، يتم إرسال الأشخاص المهاجرين إلى مركز استقبال في إحدى المناطق الإيطالية العشرين ليقيموا فيها في انتظار القرار النهائي بشأن الحماية.

ويبرر المسؤولون والقادة السياسيون تعيين موانئ بعيدة قائلين إن نقاط الاتصال في المواقع الأخرى التي قد ترسو فيها السفن قد بلغت طاقتها الاستيعابية القسوى. وفي هذا السياق شرح رومنهول هذا الوضع قائلًا: “يقولون إنها مسألة لوجستية… وإنه لا يمكنهم دائمًا إتاحة الميناء الأقرب في صقلية، وهذا أمرٌ معقول – فتصل أعدادٌ كبيرة من المهاجرين تملأ نقاط الاتصال في صقلية”. إلا أنه أوضح أيضًا أن نقاط الاتصال في المدن التي يتم إرسال السفن إليها اليوم غالبًا ما تفتقر إلى الطاقة الاستيعابية اللازمة، وقد يقتضي ذلك إحالة الأشخاص المهاجرين إلى منطقةٍ أخرى لمعالجة ملفاتهم.

إلا أن الجهات المعنية لا توافق كلها على نهج الموانئ البعيدة هذا. فعندما تم اعتماد مرسوم بيانتيدوسي، أعربت مفوضة الاتحاد الأوروبي لحقوق الإنسان عن تخوّفها من أنه “قد يعيق تقديم المنظمات غير الحكومية المساعدة المنقذة للحياة في وسط البحر الأبيض المتوسط، وبالتالي قد يتعارض مع التزامات إيطاليا بموجب حقوق الإنسان والقانون الدولي”[3]. وعلى النحو نفسه، تعتبر منظمة العفو الدولية وغيرها من المنظمات الإنسانية أن هذه الممارسة تُبقي الأشخاص الناجين من تحطّم السفن في البحر، وتؤخّر معالجة طلبات الأشخاص الذين من المعروف أنهم يلتمسون الحماية، كما تؤخّر حصولهم على المساعدة القانونية والطبية والاجتماعية بصورةٍ غير قانونية.

 المخاطر التي تنطوي عليها الرحلات المطوّلة

 إن الأشخاص المهاجرين عبر البحر هم أشخاصٌ هربوا من أوضاعٍ من العنف أو الخطر الشديد في بلدهم، وفي الكثير من الحالات يكونون قد هربوا بشكلٍ فوري من العنف والتهديدات والاستعباد في ليبيا. وشكّل الأشخاص القاصرون في السنوات الأخيرة 15 إلى 20 في المئة من هؤلاء الركّاب، ويهاجر الكثير منهم بمفردهم. وعندما يركبون في السفن المكتظة وغير المؤهلة للإبحار بشكلٍ عام، يكونون بحاجةٍ في الأساس إلى الرعاية الطبية والحماية القانونية، وفي غالب الأحيان إلى الإرشاد أو الدعم لصحتهم العقلية بينما يتعاملون مع الصدمات التي عاشوها.

هذا ويفاقم عبور البحر بحدّ ذاته هذه الصدمات، إذ أنّ الأشخاص المهاجرين يخاطرون بحياتهم بشكلٍ أكبر عند السفر على متن سفن صغيرة عبر مياهٍ هائجة وبإمداداتٍ محدودة، آملين أن يصلوا إلى برّ الأمان في أوروبا. وغالبًا ما يظهر على الأشخاص المهاجرين علامات الجفاف وانخفاض حرارة الجسم والحروق والطفح الجلدي بسبب الملح والزيت على جلدهم. ففي الأشهر التسعة الأولى من عام 2024، قام فريق الإنقاذ التابع لمنظمة أطباء بلا حدود (MSF) المتواجد على متن سفينة “جيو بارنتس” (Geo Barents) للإنقاذ بمعالجة 273 ناجيًا وناجيةً ظهرت عليهم أعراض خطيرة، بما في ذلك جروح تحتاج إلى الرعاية الفورية، أو صدمات نفسية، بما في ذلك استرجاع الأحداث الصادمة. ويؤدي إجبار سفن الإنقاذ على خوض رحلاتٍ أطول إلى تأخير حصول الأشخاص المهاجرين على الرعاية التي يحتاجونها، ما قد يفاقم هذه الأعراض لديهم.

 التداعيات على عمليات الإنقاذ

 نظرًا للنقص في الوسائل الأكثر أمانًا للوصل إلى أوروبا، تستمر عمليات العبور هذه، وأصبح على طواقم الإنقاذ اليوم البقاء على اطلاع بمجموعةٍ جديدة من العوامل لدى تنفيذ عملياتهم في البحر. ومن الاستراتيجيات التي اعتمدتها سفينة “هيومانيتي 1” في هذا السياق كان توسيع نطاق مواردها القانونية. فشرح لي رومنهول في هذا السياق أنه تم تعيين محاميين اثنين خارجيين يعملان بالمداورة ويتابعان كل مهمة تنفّذها السفينة منذ البداية وحتى النهاية، ويتواصلان بشكلٍ يومي مع فريق السفينة من أجل توثيق عملية اتخاذ القرارات ومعالجتها في بيئةٍ تتعامل فيها السلطات مع أي حركة تقوم بها السفينة على أنها مشبوهة.

وتعتمد سفينة “هيومانيتي 1″نهجًا شاملًا للإنقاذ، وقد ضمّت إلى فريقها على سبيل المثال منسّقـ(ة) للرعاية وطبيبـ(ة) وقابلة وأخصائيـ(ة) في الصحة العقلية. ويضمّ الفريق أيضًا مراقِبـ(ة) لحقوق الإنسان يوثق/توثق الأحداث التي تطرأ خلال عملية الإنقاذ والتواصل أو أي تعامُل آخر مع السلطات الإيطالية أو – أحيانًا – عندما تهدد البواخر الليبية سفن الإنقاذ. هذا وتتعاون منظمة “إس أو إس هيومانيتي” أيضًا مع منظمات غير حكومية أخرى لتوثيق وتحليل المسافة التي يتم عبورها والوقود المستهلَك والأوجه الأخرى التي تأثرت بمرسوم بيانتيدوسي من أجل فهم التداعيات المادية التي تحملها السياسات التقييدية بشكلٍ متنامٍ والاستجابة إليها.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن التكاليف الإنسانية والمادية مرتبطة ببعضها. فكلما طالت الرحلة ما بعد الإنقاذ، كلما ازدادت الموارد المطلوبة على متنها، بما في ذلك الطعام والمياه والأدوية ومنتجات النظافة الشخصية. كما أن المنظمات غير الحكومية تنفق مبالغ أكبر على الوقود. فقد قضت سفينة “هيومانيتي 1” في عام 2024 أكثر من 36 يومًا إضافيًا في البحر (باحتساب فارق المسافة والمدة بين الميناء الأقرب والميناء البعيد المعيّن). وقد نتج عن عبور هذه المسافة الإضافية تكاليف تبلغ 80 ألف يورو للوقود وحده – وهذا مبلغٌ لم يدعم عمليات الإنقاذ، بل دعم بدلًا من ذلك التأخير المفروض على عملية الإنزال. وهذا التأثير استراتيجي أيضًا. ففي نهاية عام 2024، سحبت منظمة أطباء بلا حدود سفينة “جيو بارنتس” من وسط البحر الأبيض المتوسط، قائلةً إن القوانين والسياسات الإيطالية قد حوّلت عملها إلى مهمةٍ مستحيلة[4].

أبعد من الإنقاذ الإنساني

 قد تشير هذه الاتهامات إلى أن الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي لم تعُد تعترف بقانون البحار، أو أن أي عملية إنقاذ قد تخضع لإجراءاتٍ قانونية. والواقع أنه غالبًا ما يتم استثناء نقطة بيانية جوهرية من التغطية الإعلامية والنقاش السياسي بشأن هذه المسألة، وهي أن المجموعات الإنسانية لا تنفذ إلا 10 إلى 20 في المئة من إجمالي عمليات الإنقاذ السنوية في وسط البحر الأبيض المتوسط. وتتولى السلطات الإيطالية ما يصل إلى 80 في المئة من عمليات الإنقاذ. ففي عام 2023 على سبيل المثال، نفّذ خفر السواحل الإيطالي 2,123 عملية إنقاذ منسّقة وأنقذ 106,582 شخصًا. أما فرق الإنقاذ التابعة للمنظمات غير الحكومية فأنقذت مجتمعةً نحو 12,500 شخصًا في العام نفسه[5].

إلا أن عمليات خفر السواحل تنال تغطيةً أدنى بكثير ولا تخضع للقيود السياسية نفسها، إذ تعمد سفن خفر السواحل بانتظام إلى إنزال الأشخاص المهاجرين في الموانئ الجنوبية ذات نقاط الاتصال على سبيل المثال. ويبرهن ذلك، كما أشارت منظمة “إس أو إس هيومانيتي”، أن الدولة لا تزال تعترف بالتزامها بالإنقاذ. وفي هذا السياق، أفاد خفر السواحل في تقريره السنوي لعام 2023 بما يلي: “إن تقديم المساعدة للأشخاص الذين يمرّون بظروفٍ صعبة في البحر واجبٌ قانوني ينص عليه القانون الدولي التعاهدي والعرفي. وبموجب الاتفاقية الدولية بشأن البحث والإنقاذ في البحر، يتعين على البلدان المتعاقدة تطوير خدمات البحث والإنقاذ البحري واتخاذ التدابير الطارئة الضرورية لضمان تقديم المساعدة اللازمة لأي شخص معرّض للخطر في البحر”. ومن الواضح أن التغييرات في السياسات هي التي ترسم معالم ديناميات الإنقاذ، وليس التغييرات في فهم الالتزام بالإنقاذ أو الحق في طلب اللجوء.

التوصيات

يمكن لعدة جهاتٍ فاعلة أن تدعم إنقاذ حياة المزيد من الأشخاص، وخصوصًا في ثلاثة مجالات:

أولًا، تشدد عمليات العبور الخطيرة للبحر والتحديات الراهنة التي تواجهها فرق الإنقاذ على الحاجة الملحّة إلى أن ينشئ صنّاع السياسات ويدعموا طرقاتٍ وأساليب دخول آمنة للأشخاص طالبي اللجوء في أوروبا. ويشكّل برنامج “الممرات الإنسانية” (Humanitarian Corridors) مثالًا على هذا النموذج. فقد نجح هذا البرنامج المموّل من الاتحاد الأوروبي والمنسّق عبر شبكةٍ من المنظمات الدينية في نقل أكثر من ألف لاجئ ولاجئة جوًا إلى إيطاليا وفرنسا مباشرةً. بالإضافة إلى ذلك، يمكن لإعادة تقييم حصص تأشيرات العمل والدراسة أن يسمح لعدد أكبر من الأشخاص بالوصول إلى أوروبا من دون الاضطرار إلى خوض رحلاتٍ خطيرة. فمن المتعارف عليه على نطاقٍ واسع أن السياسات التي تحدّ وسائل الدخول القانوني والآمن لا تمنع الأشخاص من عبور الحدود، وإنما تضمن أن يضطروا إلى خوض رحلاتٍ أكثر خطورةً للوصول إلى مكانٍ يمكنهم إيجاد الأمان فيه وطلب الحماية.

ثانيًا، يتعين على مفوضية الاتحاد الأوروبي في ظل استمرار عمليات العبور هذه أن تصرّ بدلًا من ذلك على إعادة إرساء نموذج البحث والإنقاذ التعاوني. فستؤدي إعادة تأطير جهود البحث والإنقاذ على شكل شبكة من الشركاء المتعاونين إلى تعزيز سرعة عمليات الإنقاذ، وصون القانون الدولي، وضمان حصول الأشخاص الذين يخاطرون بحياتهم في طريقهم إلى البحث عن الحماية على أفضل الفرص للوصول إلى برّ الأمان وممارسة حقّهم بطلب اللجوء. وصحيحٌ أن وقف تجريم عمليات الإنقاذ ورفع القيود المفروضة على فرق الإنقاذ لن يمنعا حدوث جميع حالات الوفاة في البحر أو يلغيا حاجة الأشخاص إلى خوض رحلات العبور الخطيرة في الأساس، ولكنّهما سيسمحان بإنقاذ حياة عددٍ أكبر من الأشخاص.

ثالثًا، يجب أن تشدّد التغطية الإعلامية لعمليات العبور في البحر الأبيض المتوسط على واقع عمليات الإنقاذ. فيغذي التركيز على الفرق الإنسانية فكرة أن جهود الإنقاذ والمساعدة الإنسانية تطرح مشكلةً وتؤدي إلى الخلط بين الإنقاذ والتهريب. وهذه سردياتٌ اعتمدها السياسيون في إيطاليا والاتحاد الأوروبي ككل لتبرير إغلاق الحدود ومنع عمليات الإنقاذ الإنساني. وعليه، بدلًا من التركيز على السفن التابعة للمنظمات غير الحكومية فحسب، على الصحافيين والصحافيات التشديد على السياق الأوسع الذي تقوم فيه سفن خفر السواحل الإيطالي بإنقاذ الأشخاص الذين يمرون بمحنة بانتظام، وتعمل خلال عملياتها هذه بموجب القوانين الدولية نفسها التي يتم التشكيك فيها لدى استهداف المهام التي تنفذها المنظمات غير الحكومية. ويمكن لتغيير سرديات الإنقاذ بدوره أن يساهم في تغيير سردياتٍ إشكالية أخرى تصوّر الأشخاص المهاجرين كمجرمين محتملين أو مهرّبين أو ضحايا عاجزين للإتجار بالبشر.

تبرهن التحديات التي تنطوي عليها عمليات الإنقاذ الإنساني اليوم كيف يمكن للسياسات أن تؤثر على الواقع المادي للعبور والإنقاذ في البحار، فضلًا عن تسييس عمليات الإنقاذ. وعليه، تتطلّب المدافعة عن إنشاء رحلات عبورٍ أكثر أمانًا وإنقاذ حياة الأشخاص مواجهة المسألتين معًا.

 

إليانور بينتر (Eleanor Paynter)
أستاذة مساعدة في الدراسات الإعلامية العالمية والإيطالية والمرتبطة بالهجرة في جامعة أوريغون
epaynter@uoregon.edu
العنوان على تطبيق “بلوسكاي” (Bluesky): @eleanorbpaynter.net

أودّ أن أتوجّه بخالص الشكل إلى فريق منظمة “إس أو إس هيومانيتي” على تعاونه وحواره المتواصلين اللذين شكّلا أساسًا لهذه المقالة.

 

[1] UNHCR Operational Data Portal Europe Sea Arrivals/Italy. لا يشمل العدد الاعتقالات التي ينفذها خفر السواحل الليبي.

[2] IOM Missing Migrants, bit.ly/iom-mediterranean

[3]The Italian government should consider withdrawing Decree Law which could hamper NGO search and rescue operations at sea’، رسالة من مفوضة الاتحاد الأوروبي لحقوق الإنسان دنيا مياتوفيتش إلى وزير الداخلية الإيطالي ماتيو بيانتيدوسي في 26 كانون الثاني/يناير 2023

[4]أطباء بلا حدود تنهي عمليات البحث والإنقاذ عبر سفينة جيو بارنتس وتتعهّد بالعودة إلى وسط البحر الأبيض المتوسّط“، أطباء بلا حدود، 13 كانون الأول/ديسمبر 2024

[5]لا تشمل هذه الأرقام حالات الوصول المستقلة عبر السفن التي تصل إلى إيطاليا مباشرةً.

تنزيل الصفحة
تبرعاشترك