بريدور: إعادة رسم صورة المستقبل

يمثل إحياء الذكرى العام في البوسنة والهرسك اليوم حدثاً لا يتذكر فيه الناسُ الأشخاصَ الذين قضوا في النِّزاع فحسب، بل يتذكرون أيضاً الواقع متعدد الأعراق الذي خيَّم على البلاد في السابق. لكنّ التعبير عن ذلك يشهد إعاقة في مدن مثل بريدور.

حرصت الصفوات السياسية في البوسنة والهرسك ما بعد دايتون على حراسة تاريخها المدوِّن "لما حدث" في أثناء الحرب، وتجسد ذلك في المناهج الدراسية والإذاعة العامة والمناسبات العامة ومواقع النُضُب التذكارية على جميع الأطراف لتحكي كل جهة روايتها المختلفة حول من هو الضحية ومن هو الجاني. وأصبح فرض الحظر على ذكريات البوسنة والهرسك ما قبل الحرب مكوَّناً رئيسياً في كل ذلك.

ففي شمال غرب بلدة بريدور، نُفِّذت سياسة ممنهجة للتطهير العرقي تسببت في مقتل 3173 مقيماً على يد سلطات صرب البوسنة المحلية، وثلث هؤلاء أُعدِموا في ثلاثة من أكثر معسكرات التركيز الشائنة في أومارسكا وكاراتيرم وتيرموبوليه.

وبتوقيع اتفاقية دايتون للسلام في نوفمبر/تشرين الثاني 1995، أصبحت بريدور ضمن سلطة جمهورية صرب البوسنة، وأضحت القيادة السياسية المباشرة التي تلت الحرب تحت سيطرة الأشخاص ذاتهم الذين "طهروا المدينة عرقياً" من السكان من غير صرب البوسنة.[i] ورسَّخ الملحق السابع لاتفاقية دايتون للسلام حق جميع اللاجئين والنازحين في العودة بحرية إلى ديارهم الأصلية، ولقي تنفيذه النجاح على العموم في بريدور خلافاً للمناطق الأخرى من البوسنة والهرسك، إذ قرر قرابة عشرة آلاف شخص من البوشناق العودة ما بين عامي 1998 و2003 إلى المناطق التي وُلدوا فيها.

مع ذلك، لم تزد نسبة البوشناق العائدين عودة دائمة على 20%. ولغاية عام 2007، كانت استعادة الممتلكات الخاصة المدمرة وإعادة إعمارها هو الحافز الأول للعودة. ثمَّ ركدت رحلات العودة بل قرر كثير من العائدين عبور الحدود بين الكيانات إلى الاتحاد البوشناقي-الكرواتي أو الانضمام إلى أقاربهم في المنفى عبر العالم. أما بيوتهم المعاد ترميمها ترميماً جميلاً فتبقى فارغة في بيوتهم معظم أيام السنة. ولارتفاع نسبة الشيخوخة في السكان وعدم قدرة الاقتصاد على توفير الفرص للشباب الذين تتسارع وتيرة هجرهم للبلدة، تواجه بريدور احتمالية تفريغها من جديد.

سياسة تخليد الذكرى

من الأمور المسببة للقلق أيضاً ثقافة الحظر المسيسة التي تنكر الجرائم التي ارتُكِبت بحق السكان من غير صرب البوسنة، إذ تستخدم السلطات المحلية على الدوام نفوذها السياسي للتدخل في مناسبات إحياء الذكرى العامة بل تحظرها في بعض الأحيان. ومن أكثر الأحداث بروزاً ما حدث في شهر مايو/أيار من عام 2012، عندما أمر العمدة ماركو بافيتش الشرطة أن توقف الفعاليات المخطط لعقدها في الذكرى العشرين لمقتل 266 امرأة وطفلاً في بريدور وحظرَ أي تجمع مخطط له آخر في العاشر من ديسمبر/كانون الأول في ذلك العام. وفي أثناء ذلك، ما زال الناجون من معسكر التركيز في أومارسكا سيء الذكر ينتظرون إعداد موقع رسمي لإحياء ذكراهم.

وفي عام 2004، باعت الحكومة المحلية مجمع أومارسكا الصناعي لشركة أركيلورميتال ستيل، وهي أكبر شركة منتجة للفولاذ في العالم، ثم منعت هذه الشركة الراغبين في إحياء ذكراهم من الوصول إلى مواقع مخيم التركيز السابق وذلك في عدة مناسبات. لكنَّ أكثر الأمور جدلاً كانت رفض الشركة السماح للناجين الدخول إلى مجمع أومارسكا في عام 2012 لإحياء الذكرى العشرين لإقامته كمعسكر للتركيز عام 1992، إلى أن تزايدت الضغوط على الإدارة التي سمحت لهم أخيراً بالمضي في طريقهم. 

مدار أركيلورميتال

في تطور غريب في مايو/أيار 2012، بعد شهر واحد من افتتاح الألعاب الأولمبية في لندن، وجَّه الناجون من معسكر أومارسكا اتهامات لشركة أركيلورميتال للفولاذ بأنها تستخدم رواسب الحديد الخام من منجم بريدور في بناء هيكل معماري بارتفاع 115 متراً أطلقت عليه اسم "مدار أركيلورميتال" لنصبه في الحديقة الأولمبية في لندن. وبُنِيَت الادعاءات على أنَّ الشركة المذكورة نقّبت عن الحديد الخام من مواقع أومارسكا التي تضم جثامين البوشناق الذين ما زالوا في عداد المفقودين والمنتشرة في المقابر الجماعية (وهو ادعاء أنكرته الشركة)، وبناء على ذلك، اعتمد الناجون ذلك الهيكل على أنَّه نصب تذكاري لهم في المنفى.

فبالنسبة للناجين البوشناق، يمثِّل المدار الفاجعة التي لا يمكنهم الحديث عنها على العلن في بلدتهم الأصلية، ويلقي بظلاله على وقت لم يكن بمقدور أحد أن يتخير حجم الخسارة الهائلة التي تنتظرهم. وبقرب ذلك الهيكل من شعلة لندن الأولمبية وبشكله المميز، يُثير الهيكل ذاكرات تعود إلى الألعاب الأولمبية في سراييفو عام 1984، عندما كان ضحايا ومجرمو اليوم جيراناً في بلد كان ينظر للعالم الخارجي بفخر على أنه مجتمع متعدد الأعراق. ويمثِّل المدار أيضاً الكارثة الاقتصادية في بريدور التي يعيشها اليوم العائدون العاطلون عن العمل، فالحديد الخام الذي كان يوماً ما يمثّل شبكة الأمان في بلدة مزدهرة أصبح الأن خاضعاً لسيطرة شركة عابرة للقارات.

فموقع مجمع أومارسكا لا يمثل فحسب ميادين القتل في حرب دامية إذ إنَّها أيضاً العمود الفقري لمدينة بريدور في يوغوسلافيا السابقة للحرب وتجسد ذكريات الأوقات التي عمت المدينة قبل النِّزاع. فقد كان هناك أماكن عمِلَ فيها الجيران جنباً إلى جنب لتأمين رخاء مدينتهم، رخاء تشارك فيه الجميع دون استثناء. ولذلك، يمثل إحياء ذكرى ما حدث في عام 1992 أيضاً تذكر الواقع متعدد الأعراق الذي كان سائداً من قبل، ويواجه ذلك جهود السلطات المحلية اليوم المصممة على منع إعادة تخيل الماضي.

فاستحالة التوافق بين الوحدة والتطهير العرقي تقع في صلب المشكلة التي تواجهها البوسنة والهرسك اليوم. فكيف حدث أن تحوّل جاري إلى قاتلي؟ قد يستعصي السؤال على الإجابة، لكنَّ التعبير عنه في الفضاءات العامة أساس ضروري لبناء مستقبل يتّسع لجميع القوميات في البلاد.

 

دامير ميتريتش d.mitric@latrobe.edu.au

باحث في دراسات ما بعد الدكتوراه، جامعة لا تروب، ميلبورن

www.latrobe.edu.au

 

سودبين موسيتش sudba8@hotmail.com

مؤسس مشارك لجمعية جسور من أجل المستقبل

Bridges for the Future.

www.mojprijedor.com

 


[i]إيتو أ (2001) "العودة إلى بريدور: الاعتبارات السياسية ومفوضية الأمم المتحدة السامية للاجئين" نشرة الهجرة القسرية، العدد 10، www.fmreview.org/ar/pdf/NHQ10/NHQ10.pdf

 

إخلاء مسؤولية

جميع الآراء الواردة في نشرة الهجرة القسرية لا تعكس بالضرورة آراء المحررين ولا آراء مركز دراسات اللاجئين أو جامعة أكسفورد.