مشهد مشرذم للحماية

أدى تغير مفاهيم الحماية والتنوع المتزايد في ممارسات الحماية وفي نطاق عمل الحماية الذي يضطلع به الإنسانيون والجهات الفاعلة الأخرى إلى تزعزع توجهات الحماية الفعَّالة المقدمة للمُهجَّرين قسرًا.

على مدى العقد المنصرم وفي إطار الاستجابة لعوامل التغيير وظواهرها وزيادة تعقد جوانب الهجرة القسرية وغير النظامية وعدم القدرة على التنبؤ بها، ظهرت مساعٍ كبيرة لإعادة صياغة مفهوم الحماية وتنويع ممارسة الحماية وتوسيع نطاق عمل الحماية الذي يضطلع به الإنسانيون والجهات الفاعلة الأخرى. من حيث المبدأ، بإمكان هذه التطورات الحد على الأقل من المخاطر التي يتعرض لها المُهجَّرون قسرًا ومن استضعافهم لهذه المخاطر والسماح للناس بالفرار من النزاع والعنف وانتهاكات حقوق الإنسان الأمنية.

إلا أن ذلك تسبب في ظهور مشهد حماية متشرذم يعاني من مشكلات في المفاهيم واختلاف في المعايير والإجراءات والحوكمة. وكانت النتيجة زيادة استضعاف المُهجَّرين قسرًا وافتقار منظومة الحماية إلى التماسك والإنصاف.

إعادة تأسيس الحماية - معايير وممارسة متغيرة

لقد أُحرِزَ بعض التقدم في بناء معايير الحماية. ففي مؤتمر القمة العالمي للأمم المتحدة عام 2005، اعتُمِد مبدأ المسؤولية عن توفير الحماية[i] الذي يمثل مسعى بعيد الأمد لحماية المعرضين لانتهاكات بالغة في حقوق الإنسان تتسبب في التهجير القسري إلا أنَّ المجتمع الدولي سرعان ما توقف عن إعطاء أي زخم لهذا المبدأ الذي أصبح مهجوراً كالأرض البور. ومع وجود قواعد تسعى للتمشي مع الديناميات المتغيرة للتهجير القسري لا سيما للذين لا تنطبق عليهم أحكام اتفاقية اللاجئين لعام 1951، شهدنا إجراء تكييفات مثل الأشكال التبعية للحماية: "الحماية الإنسانية" و"الحماية التكميلية" و"الحماية المؤقتة". وقد صدر مؤخراً من مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان تقرير يدعم قواعد الحماية التي يجب تقديمها على الحدود ومعابر الدخول ويهذبها.[ii]

وفي حين كان هذا التطور التقنيني للحماية محدود للغاية، تطورت الممارسة العملية وتنوعت بسرعة وعلى نطاق واسع. وفي حين واصلت اللجنة الدولية للصليب الأحمر مسيرتها في تزعم تطوير معايير الحماية، وضعت مجموعة كبيرة من المنظمات غير الحكومية والمنظمات الحكومية الدولية ومنظمات الأمم المتحدة الإنسانية استراتيجيات للإجلاء الإنساني في حالات الطوارئ والحماية المدنية الأساسية في مناطق الحرب. ويناصر عدد من المنظمات غير الحكومية مبدأ الحماية الذاتية بشدة. ومثَّلت المجموعة العالمية للحماية دوراً مهماً في إرساء معايير الحماية وسياساتها ونشرها وفي بناء القدرات. وبالنسبة للمناطق الحضرية، يجرى تنقيح أدوات الحماية وصكوكها. وفي أوروبا، تعد المنظومة الأوربية العامة لطلب اللجوء لعام 2013 - بالرغم من الانتقادات الكثيفة التي وجهت لها - صكاً واسع النطاق يسعى لضمان اتساق معايير الحماية والأداء في جميع الدول الأعضاء بالاتحاد الأوروبي.

وقد سدت ثغرات الحماية المعيارية لدى رعايا البلدان الثالثة الذين علقوا على نحو غير مباشر في بلدان النزاع -وهم المهجَّرون الذين تقطعت بهم السبل مثل 800 ألف مهاجر وعامل مهاجر علقوا في ليبيا أثناء انتقالهم في عام 2010 - بشكل كبير من خلال الإجراء المشترك بين المنظمة الدولية للهجرة ومفوض الأمم المتحدة السامي لشؤون اللاجئين. واعتمدت المفوضية الأوروبية برنامج الإنماء والحماية الإقليمي الذي يمثل صكاً قيماً محتملاً وإضافة لجودة ممارسات الحماية المقدمة للمُهجَّرين قسرًا وموثوقيتها في مناطق المنشأ.

وبالنظر إلى حافظة معايير الحماية وممارساتها الموسعة، قد يبدو للرائي أنَّ ثمة تقدم محرز إلا أن تلك المعايير تستهدف في المقام الأول اللاجئين فقط ولا تسري على فئات المُهجَّرين الأوسع الذين هُجِّروا قسراً ولا ينطبق عليهم التعريف المعياري للاجئين. وبهذا، ثمة تساؤلات مفهومية وعملياتية مهمة تشير إلى تقلص مساحة ممارسات الحماية وجودتها (مبينة أدناه) وإلى أنَّ القواعد والمعايير الدولية لم تعد سوى مجرد أوامر عملياتية وسياسية ما أوجد بيئة حماية متذبذبة ومتشرذمة.

من قواعد الحماية إلى إدارة الحماية

بالإضافة إلى المبادرات المعيارية "الناعمة" الواردة أعلاه، ثمة اهتمام أكبر حاليًا بسياسات الحماية وصكوكها العملياتية. ويعكس ذلك  التغيير العميق في جوهر منطق الحماية وممارساتها ويعززها. ويعد ذلك تحول من المبادئ القائمة على القواعد إلى "إدارة" الحماية التي يرتبط بها إعادة تكوين الهياكل والمسؤوليات المؤسسية. وتبزغ إحدى الأمثلة على ذلك من داخل الاتحاد الأوروبي حيث يوضح كل من النهج العالمي بشأن الهجرة والانتقال - الذي يعد السياسة الاستراتيجية للاتحاد الأوروبي - والمنظومة الأوربية العامة لطلب اللجوء كيف حلت إدارة ممارسات الحماية محل البحث بدلاً من الشروط المعيارية لتقديم الحماية التي قد تعالج الديناميات الجديدة للهجرة الدولية.

وبمعنى أخر، اقتصرت الحماية في منظور الهيئات الدولية والفاعلين الإنسانيين على كونها مهمة مؤسسية وعملياتية. ولعل ما ترتب على ذلك من فقدان السيادة المعيارية للحماية أحد أكثر النتائج أهمية لأسلوب معالجة تحديات الحماية التي تفرضها الديناميات المعاصرة للهجرة القسرية.

التنوع والتقلب المفهومي

يحتدم الجدال ويقل التوافق بشأن ما إذا كان يجب النظر لتقديم الحماية بوصفها تقوم على "وضع" الفرد أو "احتياجاته" أو "حقوقه" حتى نتمكن من معالجة نطاق أوجه الاستضعاف والمخاطر المتنوعة التي تواجهه المُهجَّرين قسرًا على نحو أفضل. الحماية القائمة على وضع الفرد: تتوقف على الأطر القانونية والمعيارية الدولية مثل اتفاقية عام 1951 التي تصنف فئات معينة من المُهجَّرين قسرًا مثلما ورد في المبادئ التوجيهية المتعلقة بالنزوح الداخلي لعام 1998 التي سادت في خطاب الحماية والاعتبارات العملياتية. ولكنَّ تصنيف تحديات الحماية  وفقاً لوضع الفرد لا يلبي بدقة احتياجات الحماية المعاصرة.

وبالمقابل، يؤكد بعض الفاعلين الإنسانيين مثل اللجنة الدولية للصليب الأحمر على وجود حاجة للحماية من مجموعة واسعة من التهديدات مثل العنف البدني المباشر والإكراه والاستغلال والحرمان المتعمد  بغض النظر عن التصنيف أو الوضع المعياري للفرد . وفي الواقع، مع تجسّد النزاع العنيف والهجرة القسرية في عدة أشكال جديدة، تزعم هذه الهيئات ضرورة إسناد الحماية على نهج قوامه الاحتياجات يستجيب لأوجه الاستضعاف هذه ولا يعتمد على وضع قانوني معين. وتفترض اتجاهات جدلية أخرى تدعمها بعض المنظمات غير الحكومية الإنسانية والاتحاد الدولي لجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر ضرورة إتباع منهجية قوامها الحقوق للاعتراف باستحقاقات الحماية للمُهجَّرين قسرًا وتحديدها. أي إن الحق في الحماية مثله مثل الحقوق الأخرى استحقاقاً لجميع البشر وفي القلب منهم المهجَّرين قسرًا. وهي لا تتوقف على وضع قانوني (أو اجتماعي أو سياسي) محدد.

وبصرف النظر عن الأساس الذي تقوم عليه الحماية، تشير جميع المناهج الثلاثة إلى ضرورة وجود إطار عمل شامل بقدر الإمكان إلا أنَّ هذا الطموح ما زال مشرذماً.

الغموض الهيكلي للحماية

هناك انقسام واضح ومتزايد بين مفاهيم الحماية وممارساتها في مناطق التهجير القسري الجماعي في بلاد الجنوب مقارنة ببلاد الشمال حيث تلاشت كثيراً الأنظمة التي ببساطة لا تسمح للاجئين وطالبي اللجوء والمهاجرين قسرا الآخرين بدخول أراضيها. ومن منطلق المعايير القانونية الدولية والتقنينية المحددة في القانون الدولي، ظهر نموذج ثنائي المسارات للحماية. ففي المناطق التي تفرز الغالبية العظمى من المُهجَّرين قسرًا عالمياً، يُروَّج لتحسين المعايير والقدرة الموسَّعة على الحماية من قبل الفاعلين الخارجيين ولاسيما من بلاد الشمال. وتقلص هذه الدول ما بعد الصناعية نفسها في الوقت عينه فرص الحصول على إجراءات لجوء عادلة وتخفض تدريجيًا التزامها بإعادة توطين اللاجئين.

ويتجلى هذا الانقسام بوضوح في منظومة الاتحاد الأوروبي أكثر من أي مكان آخر. ويعالج الاتحاد الأوروبي مسألة المهاجرين وطالبي اللجوء خارج الأقاليم من خلال شراكات التنقل واتفاقيات إعادة القبول مع بلدان العبور والبلدان المجاورة وهي عملية تعرف باسم "إعادة المتاخمة". وفي أثناء ذلك وبالقرب من أوروبا نفسها، وُضعَت مجموعة من الصكوك والتدخلات خاصة في دول الأعضاء في الجنوب والبحر الأبيض المتوسط لتعزيز أمن الحدود الخارجية المشتركة: وكالة فرونتكس ونظام يورسور والمكتب الأوروبي لدعم اللجوء[iii] وفرقة العمل المعنية بالبحر الأبيض المتوسط. وقد خصصت هذه العملية لإدارة أمن أوروبا ومعالجة تحديات تدفقات الهجرة المختلطة ما قلص بشدة جودة الحماية المقدمة للمُهجَّرين قسرًا.

ويعد هذا النهج مزدوج المسار في تقديم الحماية دليلاً آخراً على تشرذم المشهد.

انقسام الممارسات والتنفيذ المؤسسي

تفتقر ممارسات الحماية المتكاثرة المذكورة أعلاه لإطار عمل متماسك وممنهج ويعوزها الدعم المعياري الشامل. وبدلاً من ذلك، وضعت مجموعة واسعة من السياسات والصكوك والاستجابات العملية التفاعلية إلى حد كبير وصممت لتناسب سياقات حماية وثغرات حماية محددة.

وحتى حيث التماسك والتقارب هو الهدف، كما هو الحال مع المنظومة الأوربية العامة لطلب اللجوء، ما زال هناك سياسة واسعة واختلاف عملي كما أشار تقرير يوروستات مؤخراً.[iv]ويوجد اختلافات في الإجراءات (الاستقبال والقبول وتحديد وضع الفرد واختبارات التحقق من الجنسية والسن والطعون والترحيلات) إضافة إلى اختلاف المعايير والممارسات (على سبيل المثال الحصول على المشورة القانونية والاحتجاز والترحيل والحماية المؤقتة).

ويقابل هذا النقص في تماسك الممارسات عدم وجود استجابة مؤسسية شاملة لتقديم الحماية. وقد وضعت كثير من المبادرات على يد الهيئات الدولية أو الحكومات أو الاتحاد الأوروبي أو المنظمات غير الحكومية الإنسانية على أساس فردي لتحقيق أهدافهم المؤسسية المحددة أو استراتيجيات برامجهم أو أولويات سياساتهم. اللافت في ذلك أنَّه في حين يقع واجب الحماية الدولي على عدد ضئيل جداً من الهيئات - مثل: مفوضية الأمم المتحدة السامية للاجئين واللجنة الدولية للصليب الأحمر - تدرج كثير من المنظمات الإنسانية وخاصة المنظمات غير الحكومية حالياً الحماية ضمن استجاباتها للهجرة القسرية وكأن لديها ولاية للقيام بذلك. وتمتلك كثير من المنظمات الإنسانية الآن طاقم حماية متخصص وسياسات متطورة واستراتيجيات حماية خاصة. ويمكن القول إن ذلك التنوع في ممارسات الحماية من شأنه تكييف نشاط الحماية على نحو يناسب الأوضاع والاحتياجات الخاصة وكذلك القدرة الاستيعابية للجهة الفاعلة المقدمة للحماية.

ولكن، ينبغي أن يعزز أثر هذا التنوع في توجهات الحماية الاستجابة المفصلة لتحديات الحماية المعاصرة وبالتالي التذبذب في الأساس المعياري للحماية.

تسييس الحماية

أخيراً، لعل أكثر الأدلة المقلقة على الانقسام القائم في توجهات الحماية بيئة الحماية المسيسة جداً والبعيدة كل البعد عن المبادئ المعيارية التي تستند عليها الحماية في المقام الأول. فقد صارت ممارسات الحماية انتقائية وأداة لخدمة المصالح الوطنية والخطاب السياسي الذي يعزز توريق الهجرة واللجوء (غالباً في بلدان ما بعد الصناعية) على حساب حقوق المهاجرين وحمايتهم. وتعد حقيقة أن الحماية العابرة لحقوق الإنسان والمبادئ المعيارية والقانونية والسياسة أكثر الأدلة إزعاجاً على المشهد المشرذم الذي تشهده توجهات الحماية.

ولا يوجد مكان على وجه البسيطة يسيس قضايا إعادة المتاخمة وحماية المُهجَّرين قسرًا بشدة في الخطابات العامة مثلما تفعل أوروبا مع قضايا الهجرة الدولية والهجرة المختلطة والانتقال بين الدول الأوروبية وطالبي اللجوء واللاجئين. فالانتخابات الوطنية وانتخابات البرلمان الأوروبي في عام 2014 وارتفاع كراهية الأجانب جميعها براهين كثيرة على ذلك. ولا ينافس الاتحاد الأوروبي في تزعزع توجهات الحماية بسبب الخطاب السياسي المعاصر إلا أستراليا.

الخاتمة

بدلاً عن دعم ممارسات الحماية، أسفر هذا المشهد المقسم عن منظومة حماية تفتقر التماسك والإنصاف وعن تنامي أزمة الحماية ولا سيما على الحدود الأوروبية. وهكذا، يزداد استضعاف المُهجَّرين قسرًا وتتضاءل حقوقهم وتمتعهم بالكرامة أكثر وأكثر.

وعليه، أصبحت كيفية تطوير معايير الحماية وممارساتها وتكييفها على نحو يستجيب لأنماط مختلفة اختلافاً جذرياً من نزوح السكان وديناميتاتهم في العالم المعاصر مقارنة بحين وضعت المبادئ المعيارية والأطر الدولية أصل التحدي الذي لا يزال قائماً.  

 

روجير زيتر roger.zetter@qeh.ox.ac.uk

أستاذ شرف في مركز دراسات اللاجئين، جامعة أكسفورد. www.rsc.ox.ac.uk

 


2 مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان (2014) مبادئ مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان الموصى بها والمبادئ التوجيهية بشأن حقوق الإنسان على الحدود الدولية.

(OHCHR Recommended Principles and Guidelines on Human Rights at International Borders)

www.ohchr.org/Documents/Issues/Migration/A-69-CRP-1_en.pdf

متاح باللغة الإنجليزية فقط.

[iii]وكالة فرونتكس: وكالة أوروبية معنية بإدارة التعاون العملياتي على الحدود الخارجية للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. نظام يورسور: نظام مراقبة الحدود الخارجية الأوروبية. نظام إيسو:المكتب الأوروبي لدعم اللجوء

[iv]يوروستات (2014) إحصائيات اللجوء.

http://epp.eurostat.ec.europa.eu/statistics_explained/index.php/Asylum_statistics

 

إخلاء مسؤولية

جميع الآراء الواردة في نشرة الهجرة القسرية لا تعكس بالضرورة آراء المحررين ولا آراء مركز دراسات اللاجئين أو جامعة أكسفورد.