تصور نظام أوروبي مشترك للجوء

على الاتحاد الأوروبي انتحاء نهج أكثر جرأة إذا أراد التغلب على التشرذم وإدارة حركات اللاجئين بطريقة فعالة مع مراعاة الالتزامات الدولية. ويمكن للتحركات المتصورة في هذا الاتجاه أن تطور نظام حماية اللاجئين العالمي.

ما زالت أوروبا تمثل مقصداً جذاباً للأشخاص الذين يواجهون الاضطهاد في بلادهم، لكنَّ مسؤولية استقبالهم ليست موزَّعة بعدالة بين الدول الأعضاء. وفي حين تستضيف ألمانيا والسويد معاً ما يقارب نصف عدد طالبي اللجوء في الاتحاد الأوروبي، تتلقى البلدان الحدودية في الاتحاد الأوروبي أكبر الأعداد من القادمين الذين ينتقلون إلى بلدان أخرى بعد ذلك.[i] لكن استجابة الدول الأفراد لهذا الوضع تتسم بالتشرذم وعدم الانسجام فيما بينها على ضوء غياب الاستجابة المشتركة وأدى ذلك إلى زيادة المعاناة. وكان للوضع المأساوي اليومي الذي يعيشه الأشخاص الذين يحاولون الوصول إلى الحدود الجنوبية للاتحاد الأوروبي، غالباً عن طريق رحلات صعبة، قد تؤدي إلى غرق الآلاف في البحر قد استحوذ على اهتمام عام أكثر من الاهتمام الذي مُنِحَ إلى كثير من الأشخاص الآخرين الذين بحثوا عن الحماية في الاتحاد الأوروبي بسبب ظروف أقل مأساوية خلال السنوات الماضية.

وظهر في أغلب الأحيان جدل عام مُحتدِم حول قضيتي اللجوء والهجرة وأصبح ذلك الجدل يسيطر على الوضع الحالي في الخطابات البلاغية الشعبية والسياسية على اعتبار ذلك الوضع أزمة من ناحية الأعداد، في حين أن الأزمة الحقيقة إنما هي أزمة المساءلة والتضامن. وقد شهدنا ظهور حالة كبيرة لا تُصدَّق من التعاطف الشعبي والتضامن بين الشعوب مع أولئك الأشخاص المرتحلين، ومع ذلك كله بقيت هناك حاجة إلى وجود فضاء هادئ للجدل العقلاني.

وينبغي توجيه الفكر الجِدِّيّ الآن إلى بناء ترتيبات فوق وطنية ينفذها الاتحاد الأوروبي بالكامل بدلاً من إيكال تلك المهمة إلى المؤسسات الوطنية في الدول الأعضاء وذلك من أجل التغلب على التشرذم في المناهج المتبعة لإدارة هذه التحركات بطريقة فعالة بما يراعي الالتزامات الدولية. وهناك بالفعل مجال لمثل هذا النوع من التفكير المبدع المستشرف للمستقبل. فقد فعلت أوروبا ذلك من قبل على مستوى أكبر نطاقاً عندما أسست الاتحاد الأوروبي. وضمن الاتحاد الأوروبي ما زال هناك إجماع سياسي يحظى بتأييد كبير حول أهمية المحافظة على مؤسسة اللجوء. وليس ذلك نتيجة التاريخ فحسب بل إنه أيضاً جزء من الطبيعة ذاتها التي يكتسبها الاتحاد الأوروبي، تلك الطبيعة التي تأسست على قيمة احترام الحقوق الأساسية، ومبادئ المسؤولية والتضامن والثقة بين الدول الأعضاء.

لقد كان الاتحاد الأوروبي في مقدمة الدول التي أحرزت إنجازات كبيرة ورائدة في قانون اللاجئين إذ سعت إلى توحيد قوانين اللجوء وممارساتها. فهذه الطبيعة الخاصة للتقنين الإقليمي للاتحاد الأوروبي لم يَخلُ من قيمة عظيمة في توطيد معايير التعامل مع اللاجئين. ونتيجة لذلك، طور الاتحاد الأوروبي عبر عشرين سنة الماضية ما أصبح معروفاً على أرض الواقع بنظام إقليمي للجوء. وعزّز ذلك تأسيس مكتب دعم اللجوء الأوروبي، بالإضافة إلى إحرازه للتقدم الملموس والواضح نحو تعزيز مشاركة الاتحاد الأوروبي في خطط إعادة التوطين ما يعزِّز من دور الاتحاد الأوروبي عالمياً في توفير الحلول الأساسية الشاملة للاجئين.

الثغرات وأوجه القصور

مع كل ذلك، يتفاوت تطبيق المعايير المتفق عليها تفاوتاً كبيراً، ويُلاحظ أن آليات التضامن بين دول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي ليست بالقوة المطلوبة. إذ إنها لم تتمخض عن الثقة والرغبة المطلوبين لتأسيس النظام ككل بما يمكّنه من العمل بطريقة صحيحة. وفي الحوار الذي جرى بين مُفَوّض الأمم المتحدة السامي للاجئين والاتحاد الأوروبي عبر عدة سنوات، شاركنا ملاحظتنا ومخاوفنا المرتبطة على، وجه الخصوص، بالنزعة نحو الاستثناءات والتنازلات عن المعايير الراسخة بالإضافة إلى المساحة الملحوظة المسموح بها من أجل ممارسة السلطة التقديرية ما يؤدي بطبيعة الحال إلى تفاوت في التفسيرات. وبالمثل، تختلف جودة تطبيق المعايير المتفق عليها اختلافاً كبيراً، وتتباين معدلات الاعتراف بين الدول الأعضاء بالنسبة للأشخاص الذين ينتمون إلى جنسية واحدة.

وهناك ناحية أخرى تشغل البال وهي: نزعة بعض الدول الأعضاء إلى منح ما يُسمَّى بالحماية التابعة بدلاً من منح صفة اللجوء. فالدول التي تفعل ذلك تدرك ضرورة إيجاد حماية دولية لبعض طالبي اللجوء، لكنها في الوقت نفسه تعبر عن عدم رغبتها، لأسباب متنوعة، بمنح هؤلاء الأشخاص صفة اللجوء. وربما يُسَوّغُ ذلك في بعض الحالات، لكنه لا يسوِّغ ما يحدث بشأن حالات أخرى بموجب اتفاقية اللاجئين لعام 1951، وبروتوكولها لعام 1967 ونظام الحماية الدولية الأوسع نطاقاً الذي يحكم هذه المسائل.

وقد أصبح الوضع في يومنا هذا أكثر إيلاماً مما كان عليه في السابق من ناحية أوجه القصور والفشل الوظيفي للنظام الحالي. فقد تُبُنِّيَت الحماية المؤقتة، على سبيل المثال، في الاتحاد الأوروبي كاستجابة مؤقتة للحماية في الأوضاع التي تشهد تدفقاً واسع النطاق وكان يُنظَر إليها على أنها آلية للطوارئ بغية الاستجابة إلى أوضاع التدفق الجماعية وذلك عندما يتعذر تقرير صفة اللجوء. ومع هذا لم تُفَعّل آلية الحماية المؤقتة في الاتحاد الأوروبي لألاف اللاجئين الذين نراهم  يصلون إلى الاتحاد الأوروبي كل يوم.

تصحيح أوجه القصور

نظراً للوضع الاستثنائي في يومنا هذا، هناك حاجة ماسة لإدخال تدابير استثنائية ورؤية جديدة وذلك لتطوير مقاربة أكبر وأكثر فعّالية وأكثر تماسكاً وشموليةً.  فيجب على هذه المقاربة، على سبيل المثال، أن تعالج مشكلة الضغوط القائمة على بعض منظومات اللجوء في الدول الأعضاء. ويجب أن تساعد على معالجة الحركة المستمرة غير النظامية ضمن الاتحاد الأوروبي والحد من نطاقها. وينبغي لتنفيذ هذه المقاربة أيضاً أن يحل مشكلة التباين الكبير في الممارسات القائمة حالياً والتي يصاحبها عدد لا يُستهَان به من المشكلات المرتبطة بضعف التعاون الإقليمي، واستمرار التحركات البشرية، وقضايا الحماية، وظهور أوضاع مثلما حدث في مدينة كالايس.  وعليه يمكن الانطلاق من الأفكار التالية لبناء اللّبنات الأساسية للمستقبل.

أولاً، المستقبل مرهون ببناء ترتيبات مؤسسية فوق قومية تضمن العدالة في تشاطر المسؤوليات ضمن الاتحاد الأوروبي. فلكي تصبح منظومة اللجوء على مستوى الاتحاد الأوروبي فعّالة بحق لا بد من أن يتضمن ذلك التنازل عن بعض جوانب السلطات السيادية. والقصد من ذلك إنشاء سلطة أوروبية للجوء تمارس عملها في جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي. ويجب أن يتضمن ذلك تأسيس محكمة مستقلة في الاتحاد الأوربي للنظر في الطعونات المقدمة بشأن اللجوء، ولا بد أيضاً من بناء قانون موحد للجوء في الاتحاد الأوروبي بحيث يغطي المسائل المرتبطة بالحقوق الجوهرية والإجرائية ومعايير المعاملة. وسيتطلب ذلك أيضاً نظاماً يضمن العدالة في التوزيع والتعويض عبر الاتحاد الأوروبي، كما الحال الآن في بعض هذه الدول (مثل ألمانيا على سبيل المثال) وذلك بشأن استقبال طالبي اللجوء وفقاً للقدرة الاستيعابية ومعايير الحماية.

ولا شك أن هذا الموضوع سيكون حساساً للحكومات، على الأقل في المرحلة الحالية. لكننا إذا نظرنا بالمدى الذي قطعناه منذ منتصف الثمانينيات، لوجدنا أن هناك ارتفاعاً مذهلاً شهدناه في التعاون وتوحيد الجهود. وتلك انطلاقة واعدة للاعتراف بأن اللجوء والهجرة يحتاجان إلى استجابة إقليمية تعاونية حقيقية.

وفي أثناء ذلك، يمكن إنجاز خطط أكثر فاعلية لتشاطر المسؤوليات ضمن الاتحاد الأوروبي وذلك من خلال حشد المصادر لتلبية حاجات الاستقبال وصناعة القرارات وتقديم حلول لطالبي اللجوء وللاجئين. وقد يعني ذلك التعامل مع بعض فئات طلبات اللجوء ضمن الاتحاد الأوروبي، بدلاً من تولي ذلك العمل مراكز الاستقبال على المستوى الوطني. وهكذا، كل من يتبين أنه بحاجة إلى الحماية الدولية في هذه العملية سوف يُوَطّنُ في الدول الأعضاء المشاركة في الاتحاد الأوروبي وفقاً لتشاطر المسؤوليات المتفق عليها، ومعايير التوزيع والحماية. أما بالنسبة للأشخاص الذين يتبين عدم حاجتهم للحماية الدولية والذين ليس لديهم أي خيار آخر للهجرة القانونية فيمكن إعادتهم على الفور إلى بلدانهم الأصلية وذلك بموجب عمليات مشتركة في الاتحاد الأوروبي. وينبغي تأسيس هذه الترتيبات بطريقة تصاعدية وصولاً إلى تأسيس منظومة حقيقية فوق وطنية.

ثانياً، المستقبل مرهون بضمان الدخول الحساس للحماية وإجراءات الحدود. فقد أُثِيرَ هذا الموضوع في سياق الواصلين عن طريق البحر إلى اليونان وإيطاليا، بالإضافة إلى الحدود الشرقية للاتحاد الأوروبي. وبالطبع للدول مصلحة مشروعة في مراقبة الهجرة غير النظامية، لكنَّ السؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف لنا أن نتأكد من إدخال الضمانات الكافية إدخالاً سليماً في كل الإجراءات التي يمكن أن تتخذها الدول أو تتصورها في المجال الواسع لحرية الحركة؟ فتصعيب وصول اللاجئين وطالبي اللجوء إلى بلدان اللجوء أو تفعيل لمّ الشمل الأسري بالطرق النظامية أدّيا إلى إلصاق وصمة العار بهؤلاء الأشخاص على أنهم يتحايلون على القانون، وهذا ما أدى بطبيعة الحال إلى ظهور سوق لمهربي الأشخاص والمتجرين بالبشر.

ومن هنا، يُعد توسيع القنوات النظامية للاجئين من الأمور الأساسية لضمان حمايتهم. وينبغي لمثل هذه القنوات النظامية أن تتضمن زيادة الفرص في إعادة التوطين أو القبول الإنساني أو منح التأشيرات الإنسانية أو توفير خطط تتضمن الطلاب أو العمالة الصديقة للاجئين. وعلى نحو موازٍ، يجب تعميم إجراءات لم الشمل الأسري الحالية، ولابد من ضمان الوصول إليها على مسارات الهجرة المستخدمة حالياً. وقد يتطلب ذلك إحداث تعديلات في توجيه لمّ الشمل الأسري للاتحاد الأوروبي[ii]  بحيث يتضمن مدىً أوسع لأفراد الأسرة. وهكذا عندما تزداد الاحتمالات النظامية أمام من يرغب الوصول بسلامة إلى أوروبا، سوف يقل عدد الأشخاص المحتاجين للحماية الدولية ممن يشعرون بأنهم مجبرون على اللجوء إلى المهربين والدخول في حركات غير نظامية خطِرة. وبالإضافة إلى ذلك، سوف تُخَفَفُ الضغوط على إجراءات اللجوء وسوف تُعزّز الإجراءات بسبب تحويل مسار ضغوط الهجرة إلى قنوات الهجرة النظامية.

ثالثاً، يجب أن تكون الإجراءات مستنيرة بفهم أفضل لسياق الهجرة الأوسع، خاصة فيما يتعلق بالأسباب المؤدية لحركات الهجرة. ولا بد من التركيز مرة تلو أخرى على أهمية تشارك المسؤوليات مع الدول التي تقع خارج الاتحاد الأوروبي. فمثل هذه الدول في أغلب الأحيان ليس لديها قدرات مماثلة كقدرات دول الاتحاد الأوروبي لكنها تستضيف أعداداً كبيرة من اللاجئين مما يستضيفه الاتحاد الأوروبي: إذ تصل نسبة اللاجئين في العالم الذين تستضيفهم دول العالم النامي 86%.[iii] ومن خلال خبرة مفوضية الأمم المتحدة السامية للاجئين، يُلاحَظ أن اللاجئين غالباً ما يتحركون في طريق الهجرة لأن بقاءهم على قيد الحياة وسلامتهم يخضعان للتهديد، ولعدم قدرتهم على الحصول على الحماية الأساسية والمساعدة، بما في ذلك تطلعاتهم التعليمية والرعاية الصحية الأساسية. فإذا لم يُسمَحُ لهم الحصول على ما يجعلهم مكتفين ذاتياً فسوف يتحركون في طريق الهجرة. 

ومن هنا، المستقبل مرهون أيضاً بدعم الحماية المحسنة والحلول في مناطق الدول الأصلية. وفي حالة توفير التدابير والتخطيط للاستجابة لهذه الحاجات المحددة فيجب أن تُعالج الأسباب التي أدت إلى الهجرة المستمرة للاجئين. ولا بد من توفير الدعم المالي لتعزيز قدرات الحماية في البلدان التي تتلقى اللاجئين في المناطق الأصلية. وقد أنجز الاتحاد الأوروبي عملاً كبيراً على المستوى الخارجي للجوء وحماية اللاجئين استجابة للتهجير القسري الذي حدث خلال سنين. فقد ساهم الاتحاد الأوروبي بدوله الأعضاء مساهمة كريمة في تقديم العون الإنساني للاجئين في حالات الطوارئ التهجيرية، وما زال ينظر ازدياد للهجرة وحاجات اللاجئين ويأخذها في الاعتبار عند بناء برامجهم. وإذا ما جُمِعَت التبرعات التي تقدمها الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي رقمياً فهي تمثل المساهمة التمويلية الثانية بعد مساهمة مفوضية الأمم المتحدة السامية للاجئين. وبالإضافة إلى ذلك، هناك إمكانية لأن يكون تمويل الاتحاد الأوروبي في مجال إعادة التوطين مساهمة مهمة جداً في هذا المجال.

أما المرحلة القادمة فستتطلب بناء منظومة لجوء أوروبي مشتركة توفر احتمالية تطوير نظام حماية عالمي للاجئين، بالاستفادة من التوجهات الأساسية للاتحاد الأوروبي والقيم الإنسانية المتعمقة والمتجذرة بها. وفي نقطة التحول الحرجة هذه، حان الوقت أمام الاتحاد الأوروبي لأن ينهض على أساس جماعي وأن يستذكر تاريخه في توفير اللجوء في أوقات التهجير الجماعي للتأكد من حصول الأشخاص الذين يخاطرون بكل شيء للعثور على السلامة في أوروبا على خيارات حقيقية وسليمة وآمنة وواقعية لذلك الأمر. 

 

فولكر تورك turk@unhcr.org

مساعد المفوض السامي للحماية في مفوضية الأمم المتحدة السامية للاجئين. www.unhcr.org



[i] UNHCR( 1 July 2015) The sea route to Europe: The Mediterranean passage in the age of refugees 

(الطريق البحري إلى أوروبا: ممر البحر المتوسط في عصر اللاجئين)

www.unhcr.org/5592bd05.pdf.

[ii] Council of The European Union Council Directive 2003/86/EC of 22 September 2003 on the right to family reunification

(توجيه مجلس الاتحاد الأوروبي رقم 2003/86/EC بتاريخ 22سبتمبر/أيلول 2003 حول الحق في لم الشمل الأسري)

http://eur-lex.europa.eu/legal-content/EN/TXT/PDF/?uri=CELEX:32003L0086&from=EN

]غير متاح باللغة العربية[

[iii] UNHCR (2015) World at War: UNHCR Global Trends – Forced Displacement in 2014

(العالم في حرب: نزعات عالمية لمفوضية الأمم المتحدة السامية للاجئين- التَّهجير القسري عام 2014)

http://unhcr.org/556725e69.html

 

إخلاء مسؤولية

جميع الآراء الواردة في نشرة الهجرة القسرية لا تعكس بالضرورة آراء المحررين ولا آراء مركز دراسات اللاجئين أو جامعة أكسفورد.