أتكون مقاربةً إنْسَانيَّةً فِي طِبِّ السَّفرِ؟

لمَّا أطلقت منظمة أطباء بلا حدود حديثاً خدمات طِبِّ السَّفر للمسافرين في طُرُق الهجرة باليونان من أوَّلها إلى آخرها، برزت تحدِّيات أخلاقية وحَيْرة أدبيَّة.

نشأ طبُّ السفر من حيث هو ميدانٌ قائم بنفسه في ثمانينيَّات القرن العشرين، تدفعه دفعاً عظيماً الصناعات الصيدلانيَّة التي تنتج المواد الغذائية لسُيَّاح بلدانا الشمال العالمي الزائرينَ للمناطق الاستوائية. ولكنْ لمَ تُخصُّ الرعاية الصحية المخصصة للسفر بأغنياء المسافرين؟ وما عسى أنْ يفعل ملايين المستضعفين الذين فرُّوا من ديارهم قسراً هرباً من مواجهة العنف والكوارث الطبيعية والفقر المدقع الذين في صحة احتمال خطرٍ أكبر من الذي في السيَّاح؟

ما برحنا في منظمة أطباء بلا حدود على امتداد العقود نوفِّر الرعاية الوجيزة للمُهَجَّرين ولكنْ لم يوجَّه الانتباه إلا قليلاً إلى مواصلة الرعاية في طرق الهجرة من أوَّلها إلى آخرها. ومن أجل وضع مقاربة شاملة للمتنقِّلين قرَّرنا أنْ نطلق تجريباً خِدْمَةَ طبِّ السفر رسميةً ضمن مشروعنا في اليونان. غير أنَّه يوجد تحدِّيات أخلاقية وحَيْرة أدبية أصيلةٌ في هذه المقاربة.

يهدف طِبُّ السفر إلى مساعدة المسافرين الأصحَّاء على تجنُّب الأمراض وإلى توفير الدعم والموارد للمسافرين الذين لديهم حالات مرضية سابقة للسفر. وتهدف أيضاً إلى تمكين المسافرين من أن ينتبهوا إلى صحَّتهم بتعريفهم المعرفة الكافية بالحاجة (أي في تعريز الصحة وتعليم المرضى)، وبالمعلومات التي لها صلة بأحوالهم (أي ما هو موجود من موارد خلال السفر وقبله وبعده) وبالوسائل الطبية (أي عِلم التداوي واللقاحات). (مُقتطفٌ من تعريف منظمة أطباء بلا حدود لطِبَّ السفر)

التحدِّيات الأخلاقية

في مجتمع طِبِّ السفر، جاء الدافع إلى توسيع الخدمات لتضَمَّ المهاجرين من مختصي الأمراض المعدية، وليس هذا خارج الحِسبان، نظراً إلى دور المهاجرين على امتداد القرون في نشر الأمراض. لذلك فمن مصلحة المسافرين والمهاجرين والمجتمعات المضيفة جميعاً أنْ يضعوا سياسات عامة صلبة غايتها الحدُّ من انتشار الأمراض المعدية. غير أنَّ هذا يُنشِئُ ثلاثة أمورٍ تتحدَّى منظمة أطباء بلا حدود.

أولاً: كيف نوسِّع إدراك الأهمية في رصد انتشار الأمراض المُحتَملِ وتعزيز الصحة في الجماعات التي في خطرٍ، من غير تحميل اللوم لأناس بريئين؟ (ومثال ذلك أنَّ أغلب الحالات الجديدة في العدوى بفيروس نقص المناعة البشرية بفرنسا عند الميَّالين إلى خلافهم في الجِنس تحدث في جماعات المهاجرين القادمين من بلاد إفريقيا جنوبيَّ الصحراء.[1])

ثانياً: هل يُقبَل أخلاقياً أنْ تُفْحَصَ الفئات السكانية عن الأمراض المعدية ونحن لا نستطع أن نضمن لهم المتابعة المناسبة؟ (ومثال ذلك أنَّنا نعلم أنَّ لباكستان مُعدَّلَ انتشارٍ لالتهاب الكبد الفيروسي مرتفعاً جداً، فإن فحصنا باكستانياً من غير وثائق قانونية وكان مصاباً بالمرض فهل نستطيع ضمان أنْ تُتَاحَ له الرعاية؟)

ثالثاً: أيمكن لنتيجةٍ تُثبِتُ الإصابة بالمرض المعدي أنْ تُجعَلَ سبباً في رفض الدخول إلى بلدٍ ما على غير تعيين، فيؤدي ذلك إلى الإعادة القسرية أو تسويغ سياسات الحصر والعزل؟ (ومثال ذلك أنَّه كثيراً ما كانت العدوى بداء السِّل تُستَعْمَلُ في الماضي لإعادة المهاجرين عند المعابر الحُدوديَّة.)

فضلاً على ذلك، تُظهِرُ بيانات بين يدي منظمة أطباء بلا حدود أنَّه في حال أزمة الهجرةالأوروبية ليست الصحة الشاغلَ الرئيسَ عند المهاجرين. فهدفهم في الدرجة الأولى الوصول إلى حيث يتوجَّهون. وقد تتعارض هذه الأولويَّة بالكُليَّة هي ومنظومة قِيَمِنا نحن مقدمي الرعاية الصحية، أنْ نحفظ العافية الجسمية لمرضانا. أضف إلى ذلك أنَّ كثيراً من الطُرُقِ إنْ سلكناها نشارك في الأذى من غير اختيار ولا قصد.

المثال أ: تخبرنا مريضة بداء السُّكَّري تأتي إلى عيادة منظمة أطباء بلا حدود أنَّها تخطط لمغادرة أثينا مشياً مع المُهرِّبين، وهدفها مُنْتَهَاه الوصول إلى المملكة المتحدة.

فإن رأينا أنَّ في هذه الرحلة خطراً عظيماً على صحة المريضة، فهل ننصح لها العدول عنها؟ ثم ما ظروف عِيشَتها في أثينا؟ أفليست صحتها في خطر إن بقيت حيث تكون؟ وإن علمنا أن بعض الطرق آمَنُ من غيرها فهل ينبغي أنْ نخبرها؟ وإن زوَّدناها بما تحتاج إليه من أنسولين يكفيها بضعة شهور، فهل نشجِّعها بذلك من غير قصد على رُكُوبِ سَفْرةٍ فيها مخاطرة؟ أيمكن أنْ تُسوِّل لها نفسها أنْ تبيعه حتَّى تدفع المال للمهرِّبين أو لتبقى في قيد الحياة ليس إلا؟ وكيف بها إنْ نحن شجَّعناها على طلب المشورة الصحية في سفرتها فأنكر مقدم رعاية صحية فعلها وأعادها إلى اليونان؟

المثال ب: رتَّب فريق منظمة أطباء بلا حدود لإجراء جِراحَةٍ قيصرية على السيِّدة س. ولمَّا كان الشهر الثامن من الحمل أبلغتنا أنها ستغادر عمَّا قريب اليونان بالطائرة متَّجهةً إلى ألمانيا. فقال لها الطبيب إنَّ في ذلك مخاطرةً فينبغي لها أن تؤجَّل الرحلة حتَّى تضع مولودها في أمانٍ باليونان. لكنَّ السيدة س أبتْ إلا أنْ تغادر فلم يكن لها خيار آخر سواه. وكانت قد اقترضت المال لشراء تذاكر الطائرة. فحاول الباحث الاجتماعي أنْ ينصح لها إعادة النظر في قرارها وأبدى استعداده لأنْ يتَّصل بمكتب السفريات وأنْ يؤجِّل التاريخَ في التذاكر إلى حين. فبكت السيِّدة س. وقالت إنَّها نادمةٌ على أنَّها لم تأت إلينا من قبلُ وإنَّها لا تستطيع أنْ تعدل عن قرارها. فأصررنا على أن تُعِيدَ النظر في الأمر واتفقنا على أنْ نتصل بها يوم الغد لنتناقش في الخيارات الأخرى. ثم اتصلنا بها مرَّاتٍ فلم يُجِبنَا مُجيبٌ قطُّ.

نظراً إلى واجب حماية الأم وطفلها غير المولود، أكان لموقفنا الأبويمُسوِّغٌ، ولو زاد ذلك على شِدَّتها شِدَّة؟ فإن اتصل موظفو المطار بنا يومئذٍ ليسألونا أنْ نُقرَّ أنَّها قادرةٌ جسدياً على السفر، أكُنَّا فضَّلنا قِيَمَ المريضة على قِيَمِنا الطبيَّة؟ وإن جاء السيِّدةَ س المَخَاضُ في الطائرة فألحق ذلك بها أو بطفلها سوءاً، أفي ذلك مسوِّغٌ لأن نضرب بقيم المرضى عرض الحائط في ظروف شبيهة بذلك في المستقبل، كإبلاغ موظفي المطار حالةَ المريض حتَّى يُمْنَعَ من ركوب الطائرة؟

جوازات السفر الصحيَّة

تشير البيانات السَّرْديَّة من مشروعنا في اليونان إلى أنَّ تسليم الناس لسجل بمعلوماتهم الصحية يمكن أن يكون جِدَّ مفيدٍ ليس للمرضى فحسب، إذ هو مفيدٌ أيضاً في تجنُّب تضييع الموارد المحدودة سُدىً. ومن ذلك على سبيل المثال أنَّنا نعلم الحالات التي فيها أُعِيدَ مرةً بعد مرةٍ تلقيح المرضى أو فحصهم، وممَّا يحدث أيضاً أنْ يكون المرضى غير متيقِّنين من الاسم الصحيح للدواء الذي يأخذونه أو من جُرعته أو كلا الأمرين. ويزيد في حدة هذه الحالات مسائل اللغة والترجمة، فضلاً على المستويات المختلفة في المعرفة الصحية.

غير أنَّ اقتراح الشروع في إصدار جواز السفرالصحيِّ أدَّى إلى جدال مُفَاضٍ في منظمة أطباء بلا حدود. أمَّا أضداده فقالوا إنَّه قد تستعمله سلطات الحدود لتتبَّع البلد التي دخل صاحبه إليها أوَّل دخوله إلى أوروبا (وفي ذلك مُسوِّغٌ للإعادة القسرية)، وقد يُعرِّضُ المرضى للخطر في أسرهم أو في مجتمعهاتهم المحليَّة (إنْ صنِّفوا مثلاً أنهم تعرَّضوا للعنف الجنسي)، وأعمُّ من ذلك أنَّه قد يؤدي إلى إيذاء صاحبه أو وصمه. وأمَّا أنصاره فقالوا إنَّ سيُمكِّن المرضى ويوقف إهدار الوقت والموارد ويؤدي في آخر المطاف إلى تحسين جودة الرعاية. وبناء على ذلك، قرَّرنا أنَّ إصدار جوازات السفر هذه ينبغي أنْ لا يقوم إلا على أساسٍ طوعي، بعد أن يُخبَر المريض بكل المخاطر العملية والنظرية (وبذلك يوافق عن علمٍ)، وأنَّه ينبغي أن يُسلَّم جواز السفر بنسخة ورقية واحدة. وفي الوقت نفسه، نتمعَّن في الحلو التَّقانيَّة حتَّى نضمن من سريَّة المرضى وأمنهم أحسن النتائج.

أفي المعلومات إفْرَاطٌ؟

علَّمتنا التجارب أنَّ الشفافيَّة أفْضَلُ من المقاربة الأبويَّة التي تبدأ من الأعمِّ فتتدرَّج إلى الأخصِّ. لكنْ أمِنَ الحالات حالات يكون فيها الاحتفاظ ببعض المعلومات مُسوَّغاً من الوجهة الأدبيَّة إذا رأينا أنَّها لا تنفع المريض وأنها لن تزيد على شِدَّته إلا شِدَّةً؟ إنَّ هذ االسؤال لذو شأنٍ لأنَّ فيض المعلومات، ولا سيَّما حين تكون المعلومات معقَّدةً أو فيها تهديد، قد يؤدي إلى كرْبٍ وتشويش في المريض شَدِيدَيْنِ، ويزيد ذلك شِدَّةً حين يُورِدُها إلى المريض مترجمٌ شفويٌّ. ثم إنَّ في أحوال اللاجئين والمهاجرين يتعامل أكثر مرضانا مع كثيرٍ من مصادر القلق التي لها صلة بكلٍّ من ماضيهم وحاضرهم.

وإذ قد كنَّا نبلِّغ المرضى المخاطر بغية صَوْنِ صحَّتهم، كان علينا واجبٌ أدبيٌّ أنْ نقترح إستراتيجيَّات مسايرة لا أنْ نُحْصِيَ الأخطار فحسب. ومثال ذلك أنَّه ليس مجدياً القول لفتاة مغادرةٍ مع المهرِّبين إنَّ اغتصابها محتملٌ، ذلك أ) أنَّها تعرف ذلك في الأغلب ب) ولا ينبغي أنْ نزيد قلقها. ولكنْ نروي لها قصة مريضة من مرضانا سافرت على حِدَتها ثم ترافقت هي وامرأة أخرى على أنْ لا تفترقا، ولا سيَّما في مناطق الخطركالمراحيض والحمَّامات. فينبغي أنْ يكون تجنُّب الأخطار وإستراتيجيَّاتُ المسايرة جزءاً لا يتجزَّأ من المشورة الصحية الأساسية.

العَدْلُ فِي الوصول إلى الخدمة

وبعدُ، فيطيب لنا أنْ نختم الحديث ببعضِ أفكارٍ تدور حول العدل في الحصول على رعاية صحية جيِّدة. أولاً: ينبغي أنْ تُتَاحَ خدمات طِبِّ السفر للمستضعفين من المهاجرين متسجِّلين كانوا أم غير متسجِّلين لأنَّ حقَّ الحصول على رعاية صحيةٍ كافيةٍ هو حقٌّ للناس أجمعين ولا بدَّ من أن يظلَّ كذلك. ثانياً: ثبت أنَّ الهجرة نفسها محدِّدٌ اجتماعيٌّ للحالة الصحيَّة، وزِدْ على المخاطر الوراثية والبيئية أنَّ الفرد الذي هاجر زادت فيه المخاطر الصحيَّة بالقياس إلى مَن لم يهاجر.[2] ثالثاً: على مقدِّمي الرعاية وسلطات الصحة العامة وَاجِبُ صَوْنِ صحَّة كلٍّ من السكَّان المضيفين والمهاجرين فإنَّه لأمرٌ يعود على المعنيِّين أجمعين بنفعٍ جزيل. وليس يَصْدُقُ هذا في الأمراض المعدية فحسب، بل يَصْدُقُ فيها وفي الأمراض التي لها أسباب أعقد مثل الاكتئاب أو السرطان، ثم إنَّ إستراتيجيات الوقاية في درجتها الأولى والثانية والثالثة مُهمَّةٌ أيضاً من غير نظرٍ إلى الوضع الاجتماعي أو القانوني.[3]

رابعاً وأخيراً: ينبغي الحكم في مجتمعٍ ما من خلال خصائصَ من بينها جهوده المبذولة في توفير الرعاية لأحوج الناس إليها. وفي كثيرٍ من المهاجرين مواضع ضعفٍ متعددة ولا بدَّ من أن تُعالَج. ونحن، الأطبَّاءَ والممرضات والقابلات والمختصِّين النفسانيين ومخططي الصحة العامة والمختصِّين الاجتماعيين، نعتقد أنَّه لا بدَّ من أنْ يُوَفَّر للاجئين وغيرهم من المهاجرين الحصول على الرعاية الصحيَّة الأساسية بحيث تُحترَمُ سريَّتهم وأمنهم، ويُتجنَّب أيضاً كلُّ ضرب من ضروب تصييرهم أدواتٍ تُستعمَل في السياسة. ولمَّا كان ازدياد التحدِّي الإنساني في توفير الرعاية الطبية للمتنقِّلين أمراً محتملاً وقوعه في الأعوام المُقبِلة وجب علينا الاستعداد لذلك بإنشاء مبادئ وتخطيطٍ إستراتيجيٍّ وأنْ يكون كل ذلك مُحكمَ الأساس متيناً.

مارتا ألِكْساندرا بالينِسكا marta.balinska@geneva.msf.org

وَحْدَةُ البحوث في منظمة أطباء بلا حدود بسويسرا

www.msf-ureph.ch

أشكر لفيليب كيلان وفرانسوا درورك ما بذلوه في تعليقهم على هذه المقالة.

 

 

[1]عوز المناعة المكتسب (الإيدز) في فرنسا سنة 2018 (باللغة الفرنسية فحسب)  www.vih.org/dossier/vihsida-en-France-en-2018

[2] Davies A A, Basten A and Frattini C (2010) ‘Migration: A social determinant of migrants’ health’, Eurohealth Vol 16, No 1

 (الهجرة: مُحدِّدٌ اجتماعيُّ لصحَّة المهاجرين)

http://www.lse.ac.uk/LSEHealthAndSocialCare/pdf/eurohealth/VOL16No1/Davies_Basten.pdf

[3] Gushulak B D, Weekers J and MacPherson D W (2009) ‘Migrants and emerging public health issues in a globalized world: threats, risks and challenges, an evidence-based framework’, Emerging Health Threats 2:1

 (المهاجرون والمسائل الناشئة للصحَّة العامَّة في عالمٍ مُعولَمٍ: التهديدات والمخاطر والتحدِّيات، إطار عملٍ قائم على الأدلّةِ)

https://www.tandfonline.com/doi/pdf/10.3402/ehtj.v2i0.7091?needAccess=true

 

 

إخلاء مسؤولية

جميع الآراء الواردة في نشرة الهجرة القسرية لا تعكس بالضرورة آراء المحررين ولا آراء مركز دراسات اللاجئين أو جامعة أكسفورد.