بيانات حجمها كبيرٌ وشأنها في الأخلاقيَّات قليلٌ: السريَّة والموافقة

إنَّ تعطُّش المانحين للبيانات يقوِّض الأمن والسريَّة شيئاً فشيئاً، وهذا يعرِّض الناجين من العنف والموظفين للخطر على السوَّاء.

غالباً ما يتشارك الأشخاص الذين يتعرضون للعنف والإقصاء بتجارب صدماتهم النفسية مع مقدمي الخدمات في أثناء تلقيهم للرعاية التي يعظم أثرها عندما تتيح للأفراد الحديث بحرية وصدق وتمنحهم الشعور بأنَّ معلوماتهم ستبقى سرية ولن تُنشَر لأحد. إلاَّ أنَّ اللجنة الدولية للإنقاذ وجدت في السنوات الأخيرة تدنياً متزايداً في مستوى أمن البيانات المرتبطة بحماية الأفراد المعنيين وسريتها. ومن أسباب ذلك النهج ما يمكن تتبعه في التغيرات في طريقة تعقب البرامج وقياس آثرها، تلك التغيرات التي لا يبدو في الظاهر بأنَّها قد تجلب الضرر على أحد.

وخلال العقد المنصرم، حدث تغير نمطي تجاه توليد البيانات كبيرة الحجمواستخدامها، وهي كميات كبيرة من البيانات المنظمة أو غير المنظمة. لكنَّ غياب المساءلة والضعف في فهم المخاطر الفريدة المحيطة ببيانات الحماية كانا سبباً لتشجيع حركة بين كبار المانحين لطلب قدر أكبر من البيانات (وأكثر تحديداً وتفصيلاً)، ما يعني احتمال التسبب بالإضرار بالأفراد

فطلبات الحصول على البيانات تلك ليست لمجرد الرغبة بالحصول على بيانات شاملة ومفصلة بما يمكن الاستفادة منه والتشارك به ضمن النماذج القياسية المفيدة المضبوطة ببروتوكولات التشارك بالمعلومات. بل إنَّ الطلب المتزايد من بعض الجهات المانحة المؤثرة للمعلومات الخاصة بالأفراد الناجين تزداد مُخفِقَةً في وضع الثقة المناسبة في طريقة استخدامها لتلك المعلومات. والمشكلة أنَّ عدم حماية الخصوصية والسرية قد يؤدي إلى إلصاق وصمة العار بالفرد وقد تجعله عرضة للأعمال الانتقامية، فيقضي ذلك على سلوك طالبي المساعدة ويهدد بسمعة مقدمي الخدمات بل يضع الموظفين والمستضعفين في خطر جسيم.

الطلب على البيانات الحق في سرية المعلومات والحفاظ عليها واحد من الحقوق التي تقع في صلب العمل مع الناجين المهجَّرين من العنف (بما فيه العنف القائم على الجندر) وحماية الأطفال وذوي الحاجات الخاصة. وبناء الثقة بين مقدمي الخدمات والمستفيدين شرط أساسي لتقديم المساعدة التي تؤتي أكلها، لكنَّ الثقة تعتمد في العادة على تقديم ضمانات بعدم المساس بالخصوصية. ويقع على مقدمي الخدمات واجب أخلاقي يلزمهم بحماية خصوصية المستفيدين وضمان عدم إلحاق الضرر بهم. وتعود جذور تلك المبادئ إلى قَسَم أبقراط وتؤكدها الأطر المعيارية للبحث الاجتماعي والمساعدات الدولية بما فيها الجهات التي تُنظِّم طريقة إدارة المعلومات في البيئات الإنسانية.

وتقتضي الضرورة إيلاء العناية الواجبة في كيفية جمع البيانات وتخزينها وحماية أمنها والتعامل مع كيفية التشارك بها مع الجهات الفاعلة الأخرى وتسويغ ذلك التشارك. ومن ذلك المنطلق، استثمرت لجنة الإنقاذ الدولية وغيرها من مقدمي الخدمات في بناء المنظومات المشتركة بين الهيئات والعمليات لضمان حسن إدارة البيانات ومراعاة سلامتها وأخلاقيات التعامل معها. ومن التدابير التي تتخذها تلك الهيئات منظومة إدارة معلومات حماية الطفل[1] ومنظومة إدارة معلومات العنف القائم على الجندر[2] ومبادرة إدارة معلومات الحماية.[3] وتقوم جميع هذه المنظومات على أساس الاعتراف بأنَّ ما يُقدِمُ عليه المانحون من تبادل صحيح للبيانات والإبلاغ وعمل تنسيقي فيما بينهم قد يثمر في الكشف عن ثغرات البرامج ويعزز من التنسيق ويحدد الفرص المتاحة للمناصرة في تحسين البرامج. ولكل منظومة بروتوكولات وممارسات واضحة وشاملة تحكم تبادل البيانات.

ورغم وجود تلك المنظومات (التي بدأ تطبيق بعضها منذ عقد من الزمن أو أكثر) ما زالت ممارسات سرية البيانات في تآكل متزايد. ففي بعض المواقع، تسببت التفسيرات الفضفاضة لمبدئي السرية والموافقة في تمييع المعايير المقبولة، ومن ذلك، على سبيل المثال، ما دأب البعض على التمسك به من رأي بأنَّ الموافقة فور إعطائها لمنظمة ما فهي تنحسب تلقائياً على موافقة المفصح عن المعلومات لمشاركة الجهات الأخرى بها.

والأمر الآخر أنَّ الجهات المانحة يزداد طلبها على المعلومات الحساسة المتعلقة بالحالات وإدارة الحالات التي يمكنها الكشف عن هوية أصحابها. ويأتي ذلك بعدة أشكال كأن تطلب الجهة حق الوصول إلى البيانات على أساس امتلاكها لها (وبذلك تمتلك البيانات وتتخذ القرارات النهائية بشأن استخدامها) أو قد تطلب إقامة مكتبات ورقية غير محمية تضم ملفات إدارة الحالات التي يمكن الولوج إليها حسب الرغبة، بل هناك من الجهات من أبدى إصراراً في المشاركة في جلسات إدارة الحالات السرية. ويزداد الوضع سوءاً في هذه الطلبات عندما تعمد الجهة المانحة إلى مضايقة مقدمي الخدمات بعدة طرق منها تهديدهم بسحب التمويل إذا لم يتخلوا عن البيانات لها. فقد وصل الطلب على البيانات السرية مستوى بات يقوِّض البرامج المخصصة للمستضعفين من النِّساء والأطفال والأشخاص ذوي الحاجات الخاصة، ويهدد عملية الإبلاغ ويثبط الناس عن طلب المساعدة ويأتي على سلامة المستفيدين.

تبعات برامج الحماية لهذه الممارسات الضارة أمثلة لا تحصى في العالم، تمس بآثارها الموظفين في الخطوط الأمامية والأشخاص الذين نخدمهم. [4]ففي شرقِّ أفريقيا، تبنى موظفون غير مدربين من إحدى الجهات المانحة أدوار المشرفين في العمل على الموظفين المتخصصين والمدربين على تقديم الخدمات، وفرضوا إرسال الإحالات إلى هيئتهم وأجروا اتصال المتابعة مع الناجين دون الحصول على موافقتهم بذلك.

وفي آسيا، صاغت إحدى الجهات المانحة إجراءات التشغيل القياسية دعت فيها إلى عقد اجتماعات المسؤوليةوهي ليس أكثر من اجتماعات إجبارية للوساطة وطرحتها على أنَّها خيارمتاح أمام الناجين/الناجيات من عنف الشريك العاطفي. وكل ناج يرفض المشاركة في تلك الوساطة بحضور الجاني يحال إلى قيادة مخيم اللجوء لاتخاذ الإجراءات الإدارية أو القانونية. وفي ذلك الأمر تجاهل لدليل راسخ منذ أمد بعيد بأنَّ أسلوب الوساطة المُيسَّرة بدلاً من أن تؤدي إلى جعل المسيء يحجم عن استخدامه للعنف للسيطرة على الآخرين، قد يضيف تهديدات أخرى على سلامة الناجين أو الموظفين (خاصةً عندما ينفِّذها موظفون غير مدربين جيداً).[5]

وفي موقع آخر في شرقيِّ أفريقيا، كان موظفو إدارة الحالات يعملون على إعادة نقل ناجية إلى مكان آمن. وقبل البدء بإعادة النقل، توجه موظفون من الجهة المانحة الممولة للبرنامج بطلب بتسليم الناجية إلى قيادة ذكورية للمجتمع المحلي لتبقى لمدة غير محددة في بيت القائد المجتمعي الذكر، وقدَّم الموظفون ذلك الطلب على أنَّه محاولة للوساطة. إلاَّ أنَّ الوساطة ينبغي لها أن تكون مرهونة بطوع أمر المعني لا أن تكون تدخلاً موصى به خاصةً إذا تولى تيسير جلساته موظفون غير مؤهلين. وفي أثناء عملية التقدم بذلك الطلب للناجية، كشف موظفو الجهة المانحة عن شخصيتها وأبلغوا القائد الذكر بأنَّ مدير الحالة في الهيئة قصَّر في حق الناجية التي كانت تسعى للمساعدةلقد شاب تلك الحالة إفصاح خاطئ عن المعلومات، إلاَّ أنَّ الناجية، لحسن الحظ، وصلت إلى بر الأمان بمساعدة المنظمة المنفذة وغيرها من الهيئات، لكنَّها توضح دون لبس مثالاً عن انتهاكات المبادئ الأخلاقية والالتزام بعدم الإضرار بأحد.

ويزداد تعقيد كل واحد من الأمثلة المذكورة بتساؤلات حول التحيز الثقافي والسيطرة الذكورية. ففيما لو حدثت تلك النشاطات في عالم الشمال، فلا شك من أنَّها ستثير موجة من الاعتراضات ومطالبات بالإصلاح. إلاَّ أنَّ المساس بسلامة المستفيد في سياق دول الجنوب ما زال مستمراً دون أن يثير أي غضب منتشر ودون أي دعوة تُطلَق لإجراء الإصلاح اللازم لخفض المخاطر الملازمة لها ومحاسبة أصحاب السلطة بشأنها. وبمقدور المنظَّمات غير الحكومية الدولية في بعض الأوقات أن تبدي مقاومة إزاء ضغوطات الجهات المانحة وتهديداتها، أمَّا المنظمات المحلية غير الحكومية فعادة ما تقع تحت رحمة مطالبات الممولين فإما أن يذعنوا أو أن يغلقوا منظماتهم. وفي ذلك إساءة كبيرة وخطيرة لإساءة السلطة ولا يجوز السكوت عنها.

صحيح أنَّ هناك بعض التطورات الإيجابية التي حدثت، مثل اللوائح التنظيمية التي سنها الاتحاد الأوروبي بشأن حماية البيانات العامة التي تركز على ضرورة حماية بيانات الأفراد، فلم يُبذَل جهد يُذكَر في محاسبة المانحين الإنسانيين أو تعميم المعيار القياسي للمقاربة الأخلاقية التي يمكن تطبيقها عالمياً بدلاً من حصرها في مواقع معينة دون غيرها. وبدلاً من ذلك، نحن نرى الآن مقاومة مفتوحة ونشطة لأبسط المعايير الأخلاقية المعترف بها دولياً التي كان من المفروض أن تكون مرجعنا الرئيسي في العمل دون نقاش. إذ ينبغي للعلاقة التي تجمع مقدمي الخدمات مع الجهات المانحة أن تقوم على أساس الشراكة والفهم المتبادل لا على القهر والإكراه. وينبغي لعملية الوصول إلى البينات أن تسير على المنطق ذاته وأن تقوم على أساس المعايير المشتركة والمتفق عليها.

التوصيات إنَّ هذه الممارسات الناشئة والضارة لتدفعنا إلى النظر في حتمية جديدة من حتميات العمل الإنساني تقوم على التشريعات النافذة بشأن حماية البيانات لتسير على خطى اللوائح التنظيمية للاتحاد الأوروبي بشأن حماية البيانات العامة لكنَّها لا بد أيضاً من أن تؤسس لإدارة أخلاقية إجبارية للبيانات بغض النظر عن الموقع الجغرافي، ولا بد للمعايير التي تنص عليها تلك اللوائح أن تكون واضحة وأن يتبعها الجميع ضمن إطار آليات تُنشَأ لمحاسبة المخالفين لها. وعليه، يجب على الفاعلين الإنسانيين:

  • ضمان سلامة المستفيدين والمحافظة على كرامتهم وجعل ذلك الهدف أولى أولوياتهم ويكون ذلك عن طريق إدخال بروتوكولات واسعة النطاق تنظم عملية التشارك في البيانات وتبادلها سعياً منها لصون سرية المعلومات ومراعاة الموافقة لصاحبها وتوفير عناصر الحماية المرتبطة بها.
  • انتهاج المعايير اللازمة لإدارة البيانات بسلامة مع مراعاة الجوانب الأخلاقية كما تحددها الجهود المشتركة بين الهيئات.
  • الإقرار بقيمة إخفاء هوية أصحاب البيانات المُجمَّعة ودعم إتاحتها لغايات التحليل بقصد إحداث تحسينات في الخدمات والتنسيق والمناصرة.
  • استعادة تعريفات الموافقة وسرية المعلومات والدفاع عنها والاعتراف بأنَّ ولاية المنظمةلا تحل محل الموافقة ولا يمكن استخدامها كذريعة للتشارك بالبيانات وتبادلها.
  • توحيد جهود المنظمات المحلية والدولية لتقف صفاً واحداً في وجه الممارسات الضارة غير المسؤولة في استخدام البيانات.
  • إيجاد كيان دولي يحدد الهيئات المديرة للتمويلات ومحاسبتها إزاء مشاركتها في تطبيق الممارسات الضارة في استخدام البيانات وانتهاك المعايير الراسخة.

فمع أنَّ الجهات الإنسانية تعمل جاهدة لتقديم المساعدات، فغالباً ما تغفل عن ضرورة النظر إلى ملفات المستفيدين بالطريقة ذاتها التي تنظر فيها إلى سجلاتها وقيودها المرتبطة بالصحة العامة والعقلية لموظفيها. ولذلك، على صانعي السياسات والمانحين أن يتذكروا أنَّ خلف كل رقم وإحصاء هناك فتاة وامرأة وفتى ورجل سعوا إلى الحصول على الخدمة متحملين في سبيل ذلك كل المخاطر. ونحن، في المقابل، مدينون لهم بأن نعمل معاً لضمان المحافظة على سرية معلوماتهم وصون كرامتهم وحماية سلامتهم.  

نيكول باينام Nicole.Behnam@rescue.org مديرةٌ فنيَّةٌ رئيسة

كريستي كرابتري Kristy.Crabtree@rescue.org مستشارةٌ في شؤون إدارة المعلومات والتِّقانة

وحدة منع العنف والاستجابة له، اللجنة الدولية للإنقاذ www.rescue.org

 

[1] www.cpims.org

[2] www.gbvims.com

[3] https://pim.guide

 [4] هذه الأمثلة واقعيةٌ ولكنْ أُزِيلَت منها بعض المعلومات التعريفية. وهي من عمل اللجنة الدولية للإنقاذ (IRC) مع أنَّ كثيراً من المنظمات حددت أيضاً مشكلات مماثلة مع كبار المانحين.

[5] IRC (2018) ‘Intimate Partner Violence and Mediation’, GBV Blended Curriculum

"تساهم عملية الوساطة نفسها في قوة ذكور المسيئين وسيطرتهم على النساء والمراهقات. وتفترض الوساطة أنَّه يمكن للطرفين التحدث بالتساوي بحرية وثقة وأمان."

اللغة العربية:

https://gbvresponders.org/wp-content/uploads/2019/01/5-Intimate-Partner-Violence-and-Mediation-AR-PDF.pdf 

إخلاء مسؤولية

جميع الآراء الواردة في نشرة الهجرة القسرية لا تعكس بالضرورة آراء المحررين ولا آراء مركز دراسات اللاجئين أو جامعة أكسفورد.