التزامٌ بالعَدْل طولَ الحياة

كان لعمل باربارا هاريل-بوند أثرٌ عميقٌ في حياة المهجَّرين وفي نظرة الناس إليهم.

لدراسة التَّهجير تاريخٌ طويل ولكنْ لم يخضع نظام المساعدات الدولية بكُليَّته لتقييمٍ تاريخيٍّ ومقارن وناقد حتَّى نُشِرَ مؤلَّف باربارا هاريل-بوند الأصيل فرض المساعدة - المساعدة الطارئة للاجئين في عام 1986. فقد عرضت لصناعة العمل الإنسانيكما أسمتها بإمعان نظرٍ شديد، طالبةً التغيير ممَّن كانوا يوماً لا يُسألُوْن.

وجعلها فِكْرها المُهيِبُ إلى جانب بحثها الأكاديمي والميداني الدقيق رائِدةً في ميدانها. ووُصِفت مرةً الجرَّافة الإنسانية،[i] ولم تخشَ من نقد جوانب مساعدة اللاجئين التي لم تكن مخفقةٌ فحسب، بل كانت كذلك وكثيراً ما أتت بنتائج عكسية. ورأت أنَّ أكثر العلاقات بين مختلف الجهات الفاعلة والهيئات -أي الهيئات الإنسانية والداعمين الدوليِّين والحكومات المحلية والمجتمعات المحلية المضيفة- فيها تحكُّم وإضعاف. ولقد أنِفَت من عدم الشفافية في نُظُم الإغاثة المعقدة ومن البيروقراطية السَّفسافة التي هبطت إلى مستوى العيشة الاتِّكالية وتجريد المستفيدين، من كل الهيئات، كرامتهم الإنسانية وأملهم في المستقبل. ولا غرو أنَّ هذا نفّر كلَّ أحدٍ منها إلا المهجَّرين.

إذ هي رأت رأيَ عينها الضرر النفساني الذي تحدثه المعاناة الفظيعة التي عاناها عدد كثيرٌ من اللاجئين في جنوبيِّ السودان، غير أنَّه ما كان من ذلك إلا أنْ زاد على تصميمها تصميماً على ألا تكون صوتاً للصامتين، ولكنْ أنْ ترفع الصمت عن الصامتين فتُخْرِجَ أصواتهم.

كان في العام الماضي كثير من الأحداث السيئة ومثلها من الأحداث الحسنة في بلدي -الأردن- وفي غيره من البلاد. ولو كانت باربارا عائشةً لاقتدح غضبها من أنَّ الحرب في اليمن -التي في أول عام 2019 بلغت السنة الخامسة من عمرها- أدَّت إلى أسوأ أزمة إنسانية عرفها التاريخ. ولكان غاظها أنْ تسمع خبر سحب تمويل الولايات المتحدة الأمريكية لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونوروا) في عام 2018، والأفعال التي بها يُحتمَل أن تتفكَّك المنظمة برمَّتها، ولكانت ابتهجت مع ذلك باستجابات البلاد الأخرى، ولا سيمَّا ببلادٍ في الوطن العربي، لدعم ما توفِّره المنظمة من خدمات لا غنىً عنها.

ورفضت باربارا على الرغم من الضغوط القاهِرة أن ترى اللاجئين مُجرَّد مضرورين تندرج هويَّتهم في فئة أو تصنيف نُزِعت عنهم فرديَّتهم وقدرتهم. ولكنَّها أقرَّت أنَّه يمكن لمهارات الفرد المهنية ومعارفه الأخرى أنْ تكون ذات فائدةٍ جمَّة للبلد المضيف، وسعت إلى أدراج المُهجَّرين في خطط التنمية الاجتماعية الاقتصادية في البلد المضيف.

وما تحاشت واقع معاناة اللجوء الشَّديدَ على كلٍّ من اللاجئين وعمال الإغاثة. فأدركت أنَّ التجمُّعَ من قُرْبٍ حول مجموعة من الغرباء أو، وهذا أسوأ، حول مَن قد يُخافُ منهم، لا يأتي بحكم الضرورة بالصداقة أو بروح الاجتماع، وأنَّ الحِرمانَ والتَوَهانَ في التهجير وإعادة التوطين أو التَّجريدَ من الكرامة والأمل لا تُشجِّع على كرم الأخلاق. فعامل الإغاثة الذي يشهد ذلك قد يخيب أمله ويحزُّ في نفسه أنْ لا شُكْرانَ وتؤثر فيه العداوة المتكررة التي يواجهها.

ولكنْ ليس كلُّ ما في صدر الأمر بهمٍّ وغمٍّ. فقد كانت باربارا لتدعم كلَّ الدعم مَن يحاول أنْ يُحْسِنَ العمل في الظروف العصيبة. وأشير هنا، على سبيل المثال، إلى ما حقَّقه لويد أكسورثي[ii] في مكافحة عدم المبالاة العالمية التي ترمى في وجه اللاجئين، وفي مكافحة خِطاب الخِشْية، وفي إخراج اقتراحات عملية لمحاسبة الحكومات ورفع إيرادات التنمية لفائدة اللاجئين.

قول الحقيقة لمَنْ في السلطة

لم تخشَ باربارا يوماً، بطبعها الحادِّ ولسانها الحديد، من قول الحقيقة لأهل السلطة. فتحدَّت كل الافتراضات ولم تكن ناقدةً غير ذات خبرة بما تقول. وكما سارت في السبيل الذي مهَّدتهبجعل منزلها ملاذاً مُرحِّباً بكثير من المهجَّرين، وهذا يُبيِّن شِدَّة المودَّة وكرم الأخلاق، فقد خلَّصت نفسها من قيود المقاربات الحالية وأحلَّت محلها البدائل. وكنت أنا وباربارا ندير الحديث، في جلسة مِلؤها القهوة والسجائر، ونُطِيلُه حتَّى الليل حول عِظَم شأن أنْ يتحقق توزيع مناسب للمعونات الدولية إذا كان في ذلك إفادةٌ لكلِّ من اللاجئين والمجتمعات المحلية المضيفة. وقد اعْتَقَدَتْ بزيادة الثقة بالبُنَى المحلية، حكوميةً كانت أو غير حكومية، لا بالموظفين الدوليين، وبإنشاء فرص العمل لكلِّ للعمال اللاجئين والمضيفين على السواء، ومن ثمَّ تعزيز الاقتصادات المضيفة ففي ذلك منفعة للجميع.

ورأت باربارا بالغِ أهمية الحقِّ في تقرير المصير من غير نظر إلى وضع الفرد. ولقد يكون القانون الدولي للاجئين أقدم صيغ القوانين التي تُعْنَى بفهم الحاجة الأصيلة لا لحماية الناس فحسب، بل لمنحهم شيئاً من حقِّ تقرير المصير. وكانت باربارا في كلِّ حياتها مناصرةً ثابتة العزم لبرامج المعونة القانونية وحقوق اللاجئين. فأسَّسَت برنامج دراسات اللاجئين (الذي هو مركزٌ اليومَ) في أكسفورد عام 1982 ثم استمرَّت في تأسيس عدد من البرامج الأخرى في بلاد جنوبيِّ الكرة الأرضية. وبعد ذلك أسَّست برنامج الحقوق في المنفى (Rights in Exile) وأدارته، وهو برنامج يوفِّر للاجئين المعونة القانونية والمعلومات ويُروِّج للإعانة القانونية للاجئين أينما كانوا.

ثمَّ إنَّ حقَّ الوصول إلى العدالة، الذي جاهدت باربارا من أجله طول حياتها، ليس حقاً من حقوق الإنسان فحسب، ولكنه أسٌّ لتعزيز الحقوق الأخرى كلها: السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية. وإذ قد كان عندي أنَّه ليس ضدُّ الفقر الغِنى... في كثير من الأماكن، ضدُّ الفقر هي العدالة[iii] فقد ضَمَمْتُ في عام 2005 جهدي إلى جهود مادلين أولبرايت وجوردن براون وهيرناندو دي ساتو وآخرين لتأسيس لجنة التمكين القانوني للفقراء، مصوِّبين الانتباه إلى الصلة بين الإقصاء والفقر والقانون. فمن غير العدالة لا يُقلَّل الفقر وعدم المساواة والتهميش، فكيف باقتلاعها من جذورها؟

ذلك، وللعالم الإسلامي تراثٌ متينٌ فيه فكر سياسي أصيل يعتمد من حيث الجوهر على ما هو إسلاميٌّ من فكرٍ وقِيَمٍ وأخلاق، وفيه بدائل أخلاقية. وكانت باربارا تدرك حقَّ الإدراك أنَّ 80 بالمئة من اللاجئين اليومَ هم مسلمون وتستضيفهم دول إسلامية في الغالب. ولذا كان من الحصافة النظر في إيجاد حلول مناسبة للتحديات التي تتحدَّى الطرفين. وكُنَّا نعترض معاً على التقليل قصير النظر -ولا سيَّما بعد الحادي عشر من سبتمبر/أيلول- من قدرة الموارد الأصيلة، من مثل مال الزكاة، لتُستعمَل في إعانة المهجَّرين والبلاد التي تستضيفهم. ثم كان الخوف من أنْ يوجَّه هذا المال إلى أيدي الإرهابيين، ولكنَّنا سألنا أنفسنا: أليس الفراغ أسوأ؟

الأهمٌّ من ذلك كله، أنَّ الإسلام، وهو أمر اعترفت باربارا بجميله، يشجع على العطاء الخيري ويثبِّط بشدةٍ إنشاء التعويل على غير النفس الذي يُرَى أنه يُقوِّض أُسُسَ كرامة الإنسان. وكذلك شأن أهمية العدالة، ليس من حيث توزيع الثروات العادل فحسب، ولكن من حيث حماية الضعيف من استغلال القوي، ومناصرة المظلومين أيضاً، فالعدالة أسٌّ من أسس العقيدة الإسلامية.

لا بدَّ أنْ يزيد فقدان باربارا على عزيمتنا عزيمةً، لا أنْ يُقلِّلها، ذلك حتَّى نُتِمَّ ما بدأتْهُ. فإنَّها كانت شديدة الإنفعال شفيقةً، وما كان لالتزامها بكل جوانب حياة المهجَّرين حدودٌ. وما كان من صِدقها وأمانتها أصاب كَبِدَ المؤسسات والممارسات الضارَّة والأبوية والمُزكِّية نفسها، وفي إتمام ما تركته لنا باربارا من عمل فكلٌّ منا وشأنه.

صاحِبُ السُّمو الأمِيرُ الحسن بن طلال

من شاء مزيد معلوماتٍ يرجى أن يتَّصل بالدكتور عمر الرفاعي من طريق orifai@majliselhassan.org

 

[i] www.thenation.com/article/remembering-barbara-harrell-bond-a-fierce-advocate-for-refugees/

[ii] رئيس المجلس العالمي للاجئين، ووزير سابق في وزارة الخارجية ووزارة التوظيف والهجرة بكندا.

[iii] براين ستيفنسون، مؤسس مبادرة إكوِل جَستِس (Equal Justice Initiative) ومديرها التنفيذي، محادثات تِدْ (TED) في عام 2012 و2013.

إخلاء مسؤولية

جميع الآراء الواردة في نشرة الهجرة القسرية لا تعكس بالضرورة آراء المحررين ولا آراء مركز دراسات اللاجئين أو جامعة أكسفورد.