أخلاقيَّات الاختلاف والتنازع عند باربارا

تعود مقاربة باربارا هاريل-بوند إلى اعتقادها أنَّ الناس كلَّهم بالغون متساوون مسؤولون.

ما كان لِينُ الجانب يوماً صفة من صفات باربارا هاريل-بوند، إذ كانت حادَّة الطبع قليلة الصبر صعبٌ إرضاؤها، فنفَّرت عنها ناساً وأوقدت في صدر مثلهم نار الحماسة بما كان يظهر أحياناً أنه سعيٌ منها وحدها وراءَ مناصرة اللاجئين. وما كان من وقتها فراغٌ تملؤه بدقائق الأمور، لأنَّ ما كان لها من الوقت لم يكفها قطُّ؛ فما عاشت باربارا في حياتها يوماً إلا وكانت مستعجلة، وكانت تطلب الشيء نفسه إلى العاملين معها.

ولمَّا كنت ابن عشرين سنة، وكنت أدرس علم الإنسان مريداً النجاح فيه وأصبو إليه، مررت بغرفة جلوسها بالقاهرة كما مرَّ بها كثيرون، فجعلتني على البحث في أمر اللاجئين السيراليونيِّين والليبيريين في المدينة. ولا شكَّ هاهنا أن يخطر في ذهن سائل أن يسأل: أكان من الصواب تكليف طالب بالغ من عمره عشرين سنة القيام بعمل ميداني يذهب به هنا وهناك؟ فأقول: ليس ذلك من باربارا في شيء. وإنما الذي كان يُهمُّها هو العمل، ولقد كان فيه من إطلاق المساواة، فيما طلبت إلى كلِّ أحدٍ، ما يُعجِّبُ، سواءٌ في ذلك ما طُلِبَ إلى الطلاب واللاجئين والمتعاونين والأنداد.

ثم إنني تذكَّرت بعد وفاة باربارا كلَّ مكان عرفتها به. فأمَّا البلد في القصَّة فتختلف وأمَّا أشخاص القصَّة فلا. فها أنا أرى طالباً من طلاب علم القانون شاباً يُمعِن في قراءة مِلفِّ قضية من القضايا، وطالباً من طلاب علم الإنسان يدخل إلى الغرفة، ولاجئاً يسرد حكاية، وشاباً أو شابة وظَّفتها باربارا لتعينها على شؤون المنزل. وأرى من الناس هناك المُعِينِينَ والمُستعِينِينَ والمُلتمسِينَ نصيحاً أو مُخلِّصاً أو لاقياً الأمرين في سبيل ما يؤمن به. والواضح البيِّن إذ استذكر تلك الغرفة هو إصرار باربارا الذي لا يلين على أنْ تعدل بين كلِّ أحد. نعم، إنَّها رغبت في مساعدة اللاجئين ولكنَّها أيضاً أعملتهم كما أعملتنا جميعاً. ولقد عاملتنا كلَّنا معاملة البالغين فلا ترفُّقاً بنا ولا لِيْناً.

وكان آخر عهدي بها بأكسفورد، حين كانت غرفة جلوسها ممتلِئةً مرةً أخرى من أشخاص القصة المألوفين، مع أنَّ بصرها كان في ضعفٍ، وكانت أحلَّت عن غير رضىً سيجارةً إلكترونية محلَّ السجائر التي لم تكن تفارق شفتيها. ولقد كنت قدمت إليها من جنوب السودان منهوكَ القُوَى. فراحت باربارا تسألني عن أمر البلد فأكثرت في السؤال وألحَّت، ثم جعلتني على عملٍ دافعةً إليَّ ملف قضية من القضايا. وفي الثلاثة أيامٍ بعد ذلك؛ استحالت ‘عطلتي’ بأكسفورد إلى تجرُّدٍ لقضية يستأنف فيها طالبُ لجوءٍ أوغنديٌّ قراراً أصدرته وزارة الداخلية في المملكة المتحدة. وكان في قصَّته ما فيها من التناقض فطلبت إليه باربارا وهي خائبة المجيء إلى شقَّتها. فأغاظها ونحن نستمع إلى قصَّته وأنا أسْألُه أسئلةً مُحاوِلاً بها أنْ أُسوِّي ما في القصَّة من عدم الاستواء. فلم يكن لها وقتٌ لمعالجة توقُّفه وتردُّده وحَيْرته، فقد كان عليها أنْ تعمل في قضيته على عجلٍ وأنْ تُسوِّيَ أمرها. وأنا أعرف كثيراً من الناس الذين ظنُّوا أنْ ما كانت لائقةً الكيفيَّة في صوت باربارا؛ أولئك الذين رأوا أنه ينبغي أنْ يعامل اللاجئون معاملةَ المنكوبين أو أنْ يُعامَلوا كأنَّهم من غير كوكب. فأقول: ليس ذلك من باربارا في شيء.

وقد كان التناقض يغشو باربارا كما كان يغشوها دُخَان سجائرها. فكانت تطلب الاستقلال بالنفس ممَّن حولها لكنَّها حفَّت نفسها بالأعوان والتابعين. وكانت تنقد الزاعمين أنَّهم يساعدون اللاجئين نقداً ليس فيه من اللين شيء، نعم إنَّها كانت تنقد كثيراً فكرة مساعدة اللاجئين في ذاتها، لكنَّ سؤالها الذي ظلَّ يُلِحُّ، وكانت تُلقِيهِ وفي كلامها مطمطةٌ لا تُنْسَى، هو: من سيساعدهم؟ إذن ففي هذا التناقض مبدأ أخلاقي. وليس ما تركته باربارا لنا أثراً أكاديمياً أو سلسلةً من الذكريات فحسب، بل هو أقرب من ذلك إلى المثال الذي يحتذى به، وفيه طريق تُسلَكُ في عالم يُحاوَل فيه ما استُطيعَ الإجابة عن سؤال أثارته باربارا في مقالة من مقالاتها: أيمكن أن يصير العمل لخير الإنسان مُتلطِّفاً به عطوفاً عليه؟[1]

ولقد كانت باربارا داريةً بالأعمال الوحشية في ميدان العمل الإنساني. فجرَّست في المقالة بعد المقالة والمقابلة بعد المقابلة بالمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين وبكيفية عمل المنظمات غير الحكومية في مخيَّمات اللاجئين، ومن ذلك الوهم والانخداع والدفاعية والرسوم البيانية والإحصاء. ولعمري إني أتذكر باربارا تسأل مرةً بعد مرةٍ: ألا يستطيع الناس عدَّ أنفسهم؟ ولمَ لا يستطيع الناس أنفسهم توزيع ما يأتيهم من معونة فيما بينهم؟ (إذ هم يفعلون ذلك في كلِّ حالٍ حين تكون ظُهُور موظفي الإغاثة إليهم.) وما أبْرَزَ أهمية نقد باربارا في آخر المطاف هي الدراية بما جاءت به علاقات القوة غير ذات التناسب مِنْ تصييرِ اللاجئين لا حول لهم ولا قوة ومن إنشاءِ أُطُرِ تعويلٍ لم يُلتفَت فيها إلى قدرة اللاجئين.

وإنِّي لطالما شعرت بأنَّ عمل باربارا وحياتها يعودان إلى اعتقادٍ أخلاقيٍّ واحدٍ: أنْ كل أحدٍ مسؤول عن نفسه. وهي كما طلبت من نفسها إعمال الأخلاق بجِدٍّ طلبت الشيء ذاته من غيرها، وهذا ما قادها إلى أنْ تنقد ما يجري في ميدان العمل الإنساني. وكانت من أوَّل المدركين المشكلات الناشئة من أنَّ المنظمات غير الحكومية تُسأَل أمام المانحين دون اللاجئين، وكانت أيضاً من أوَّل ناقدي صورٍ مُستغرَبةٍ ليس لها تعليل من صور السيطرة التي يجدها المرء في مخيمات اللاجئين، حيث تتقلَّد المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين السلطان شرعياً كان وجوده أم لا من غير أنْ يفوِّضها إلى ذلك الشَّعبُ. فعند باربارا أنَّه لا يمكن فرض السلطان على الناس أو توليته عليهم من مكانٍ غير الذي هم فيه؛ أي لا بدَّ من أنْ يخرج السلطان من الناس الذين يعلون بأمور أنفسهم وشؤون معيشتهم.

وكثيراً ما يدور في ذهني أنَّ الحلَّ عند باربارا، إذا تخيَّله متخيِّلٌ، كان إنهاءَ ’اللاجئين‘، لا إنهاء الحرب -فقد كانت واقعية تأخذ بحقائق الأشياء لا تغلب عليها العواطف- ولا إنهاء تهجير الناس، ولكنْ إنهاءَ مصطلح ’اللاجئ‘ ما كان يُوقِفُ الحقوق السياسية ويعامل الناس به معاملة صغار الصبيان. وأصرَّت باربارا على القول بأنَّه لا ينقلب نضج اللاجئين بمعجزةٍ حين يغادرون منبتهم، فيصيرون فجأةً أطفالاً غير قادرين على القيام بشؤونهم. بل الناس دوماً بالغون مستطيعون عدَّ أنفسهم وتنسيقَ توزيع المعونة فيما بينهم. فإنْ هم أخفقوا، أو تأخَّروا عن العمل، أو ارتبكوا فحسب، رأتْ باربارا أنَّه حُقَّ لها أن تغضب. ولا استثناء في ذلك. فكلُّنا بالغون ولا وقت يُنشغَل فيه بدقائق الأمور.

جاشوا كرايز joshuacraze@joshuacraze.com

كاتبٌ مقيمٌ في برلين.

 

[1]Harrell-Bond B (2002) ‘Can Humanitarian Work With Refugees Be Humane?’, Human Rights Quarterly 24, 5185

(أيمكن أن يصير العمل لخير الإنسان مُتلطِّفاً به عطوفاً عليه؟)

www.unhcr.org/4d94749c9.pdf

إخلاء مسؤولية

جميع الآراء الواردة في نشرة الهجرة القسرية لا تعكس بالضرورة آراء المحررين ولا آراء مركز دراسات اللاجئين أو جامعة أكسفورد.