من نَقْدِ المخيَّمات إلى أحوال معونةٍ أحسنُ

ما الذي يمكن أنْ يجيء به بُعْدُ نظر الناقدة الفائقة، باربارا هاريل-بوند، للمزاولين المعاصرين في نقد معونة المخيَّمات؟

في اثنين مما يُعدَّان من أهم أعمال باربارا هاريل-بوند، فرض المساعدات والحقوق في المنفى (شارك بتأليف الكتاب الثاني غوغليلمو فيرديرامي) تستعرض أنماط المساعدات في حقبتين زمنيتين مختلفتين هما: جنوب السودان في أوائل الثمانينيات وكل من كينيا وأوغندا في أواخر التسعينيات. وكلا العملين ثريان في التفاصيل والبصائر عميقان في نقدهما البنِّاء للسياسات والممارسات التي تتبعها المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين والمنظمات غير الحكومية، على أمل تحقيق أشكال مختلفة أفضل من العمل الإنساني. والسؤال المطروح هو: على ضوء المصاعب التي يواجهها قطاع المساعدات الإنسانية في مواكبة الأنماط المتغيرة للتَّهجير والتوطين في عالمٍ لا يعيش فيه أغلبية المُهجَّرين في المخيمات، هل يمكن للتحليلات التي قدمتها هاريل-بوند أن تساعد في إثراء المقاربات الحالية المنتهجة إزاء المساعدات؟

يعرض كتاب الحقوق في المنفى[i] طائفة من الحالات التي تبرز ظاهرة مجازية لنفي الحقوق من خلال توفير المساعدات وذلك بشرح تفاصيل عدد متنوع من الحالات التي كُبِحَت فيها الحقوق الأساسية التي تمثل عناصر محورية في اتفاقات اللاجئين وحقوق الإنسان، بل تظهر التفاصيل مكوَّن مدى انتهاك تلك الحقوق في بعض الأحيان بسبب منظومات الحماية والمساعدة ذاتها التي سبق أن أسستها الدول المضيفة والمجتمع الدولي. ومثَّل الكتاب بذلك في وقته مادة نقدية غزيرة في محتواها مثيرة لقرَّائها، إلاَّ أنَّ ثلاثة جوانب من تحليلات الكتاب تحول دون أي محاولة لاقتباس الإرشاد المفيد للتفكير من خلال وجهات النظر المعاصرة حول المزايا والعيوب التي يجب الوقوف عليها عند مفاضلة المساعدات القائمة على المخيمات مع المساعدات القائمة على بنى أخرى.

والحجم أول تلك الجوانب. فقد قام الإطار المرجعي المنظم للمؤلفين على قائمة من الحقوق ووثَّقوا على ضوئها ما لا يقل عن انتهاك واحد بل تعددت الانتهاكات في معظم الحالات. إلاَّ أنَّ ذلك لا يعطي حسَّاً بأهمية الانتهاكات المستقبلية أو احتمال وقوعها تحت الظروف ذاتها. ذلك أنَّ من هو مثلي من العاملين في الشؤون الإنسانية في عالم عزَّت فيه الموارد وتشددت فيه القرارات الإدارية سيحتاج في إطار التعامل مع بعض الانتهاكات المحددة للحقوق إلى معرفة حجمها وأهميتها. وقد يكون ذلك متعارضاً مع النظرة الصرفة للطبيعة غير القابلة للتصرف لكل حق من حقوق كل إنسان، إلاَّ أنَّ الواقع الذرائعي الذي يفرضه تخصيص الموارد واختيار التدخلات يتطلب الوقوف على فهم كامل لكل حالة وأهميتها.

الأمر الثاني أنه لا يوجد سوى عدد قليل من الإشارات المرجعية لانتهاكات الحقوق خارج بيئة المخيمات. وكل الإشارات المذكورة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالعمليات التي يمكن أن تدفع اللاجئين إلى المخيمات في المقام الأول. كما أنَّها لا تُقدِّم معالجات مكافئة لكل واحدة من الانتهاكات الحقوقية في المجتمعات الريفية أو الحضرية. ومع أنَّ ذلك الأمر يقع خارج إطار تحليلات هاريل-بوند، فهو يمثل بُعداً أساسياً مهماً لأي تقيم مقارن للمخيمات بصفتها مواقع تقدم المساعدات.

وفي الجانب الثالث، مع أنَّ المقاربة مثيرة للإعجاب بتفصيلاتها في تثبيت حقيقة انتهاك عدد متنوع من الحقوق، فهي تفتقر إلى الإطار الضروري للمساعدة في فرز الحالات المجموعة لتحديد العلامات الفارقة التي تسم النقطة التي تلتقي بها الأحداث والسياسات ومحددات الموارد والتبعات المهمة الناتجة عن إنشاء مخيمات اللاجئين أو تجمعاتهم وإدارتها. ويؤدي ذلك إلى ظهور صعوبة كبيرة جداً في تقييم الظروف التي يُحتَمل أن تحدث أو تتكرر فيها انتهاكات الحقوق تلك. وهناك أدلة مهمة في كتابي هاريل-بوند تسمح في إعادة تصور نوع من التسلسل الهرمي للحقوق التي يمثل انتهاكها سياقاً يمكن أن يضبط طائفة واسعة من الانتهاكات. وأهمها ما يرتبط بغياب قدرة المُهجَّرين في المخيمات على الاختيار (من ناحية حرية الحركة والقدرة على العمل وتوليد الدخل والمساهمة في أسواق العمل الرسمية) وغياب صوتهم (بشأن حرية التعبير والتنظيم الذاتي). فإن غابت تلك الحقوق الرئيسية، ينتفي الإحساس بالصمود والاعتماد الذاتي والقدرات الذاتية ويظهر محلها خطر العقوبة الجماعية بحكم الأمر الواقع بل يزداد ذلك الخطر إلى درجة كبيرة. وبينما تحقق شيء من التقدم في بعض السياقات في بعض الأوقات نحو جعل المخيمات أكثر انفتاحاً وزيادة الفرص الاقتصادية، ليس من المألوف أبداً أن نجد تعايشاً بين تلك الحقوق وعملية توفير المساعدات العصرية على مستوى المخيمات.

استمرار المخيمات
لقد أصبحت كثير من الحجج التي نادت بها هاريل-بوند وفيرديرامي جزءاً من الخطاب السائد حول أهمية توفير المساعدات ضمن المخيمات وما وراءها، ومن ذلك أهمية الحق بالعمل وحرية الحركة والسلامة من العنف الجنسي وغيرها. وقد حوَّلت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين مسار سياساتها المرتبطة بالمساعدات خارج بيئة المخيمات، وازدادت أهمية إدخال الأنماط الجديدة لتوفير المساعدة للاجئين ذاتيي التوطن (خاصة في السياقات الحضرية) ومع ذلك، ما زالت المخيمات قائمة بقوة وما زلنا نشعر أننا موجودون في مرحلة مربكة من مراحل توفير المساعدات، بل قد تظهر الاختلافات حول مدى الأولوية التي يجب منحها للمخيمات بصفتها مواقع لتوفير الخدمات رغم الدور الرئيس الذي تمثله المخيمات في تحديد الاستجابات للهجرة القسرية. وهنا، تقدم هاريل-بوند ثلاثة أسباب لتفسير تفضيل قطاع المساعدات الدولي للمخيمات.

السبب الأول يرتبط بمسألة حشد الموارد: "لجمع المال لا بد من أن يكون اللاجئون مرئيين"[ii] فالاستجابات القائمة على المخيمات تساعد في تسهيل عد المستفيدين وحساب الموارد المطلوبة وعرض النتائج الملموسة المترجمة إلى إطعام الناس وإقامة دورات المياه وإمداد الماء وتشييد المآوي وتنفيذ النشاطات. وكل هذه المعلومات ضرورة لجذب تمويل المانحين وتجديده خاصة أنَّها تمكن المانحين ووسائل الإعلام من زيادة المباني المشيدة في موقع محدد يسهل تحديده وأنَّ المخيمات تقدم تذكيراً ثابتاً باستمرار الحاجات القائمة. ومع أنَّ هناك انتقالاً حدث في الممارسات المقبولة للتواصل بشأن المساعدات عبر سنوات التدخل، بتركيز متنام على التأكيد على الاعتماد على الذات والتمكين، ما زالت المخيمات تكشف جزءاً مهماً من القصص التي يخبرنا بها قطاع المساعدات عن نفسه.

والسبب الثاني هو السهولة النسبية لاستهداف المستفيدين في المخيمات:

"من الصعب إحصاء أعداد اللاجئين المتوطنين ذاتياً وحتى لو كان بالإمكان تحديدهم، نجد أنَّ السياسات التي تتبعها معظم هيئات اللاجئين خالية من المرونة المطلوبة لتسمح لها باستنباط برنامج يساعد السكان المستهدفين الذين يختلطونبالمجتمع المحلي."[iii]

إلاَّ أنَّنا لا ننسى أنَّ هذه النظرة قديمة بعض الشيء إذ تعود إلى حقبة الثمانينات، أما الآن فقد أصبح المانحون والهيئات المنفذة تعمل بانتظام على استهداف المهجَّرين والمجتمعات المضيفة على السَّواء. لكنَّ الاستهداف ما زال تحدياً تواجهه الجهات الإنسانية في البيئات الحضرية خاصة أنَّ ما يطلق عليها اسم التدخلات القائمة على المناطقغير اعتيادية بما يكفي ليُنظَر إليها على أنَّها إبداعية في القطاع الإنساني. وما من شك في أنَّ المخيمات تُبسِّط الأمور بمنح سلطات المخيمات سلطة إحصاء الأعداد وتسجيل الناس وتنظيمهم (وما يصاحب ذلك من مخاطر لانتهاك الحقوق التي حددتها هاريل-بوند).

والسبب الثالث المرتبط بما سبق ذكره أنَّ المانحين عادة ما يرصدون تمويلاتهم للاستجابات المباشرة للاجئين بدلاً من "توسيع البنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية الضرورية لمواكبة التغيرات السكانية الجذرية".[iv] ومع أنَّ هناك تغيرات مهمة ممكنة تحدث على قدم وساق، خاصة بعد أن بدأ البنك الدولي وغيره من الجهات الإنمائية في رصد الموارد لمواجهة تحديات الهجرة القسرية من ناحيتي تغيير السياسات ودعم البنية التحتية، ما زالت تلك الجهود استثناءً لا قاعدةً. فما يزال الانفصال والتنائي قائمين بين التيارين الإنساني والإنمائي لدى معظم الجهات المانحة وذلك ما يغذي بدوره تمايز الاستجابات الإنسانية عن نظيراتها الإنمائية وتجعلها قصيرة الأمد في إطار تركيزها وتنفيذها. وهنا، تضع هاريل-بوند بعض المحاذير، ويتضح لنا أنَّ ملاحظتها تنطبق على عالم اليوم لأنَّ ضخ المال في الاستجابات الإنسانية بما فيها المخيمات أسهل عملاً من ناحية المانحين وجهات التنفيذ بدلاً من التفكير بالتغيرات التي يجب إحداثها في المدى البعيد على البنية التحتية والتوظيف بالشراكة مع الحكومات المضيفة.

إلاَّ أنَّ هناك أسباباً أخرى تفسر سبب بقاء المخيمات وثبات وجودها في مختلف السياقات، ومنها الاستعجال السياسي في الحكومة المضيفة وضعف القدرات الاستيعابية في التجمعات القائمة وضعف الخدمات اللازمة بالمستوى المطلوب وغيرها. وما زال السؤال الصعب قائماً أمام الممارس والباحث المعاصرين بشأن طريقة تعريف المزايا النسبية لكيفية توفير المساعدات وقياسها.

مسارات تحسين المساعدات
على ضوء ما سبق ذكره، كيف لنا أن نقرر المجالات الأمثل لتخصيص الموارد والنماذج الأمثل للمساعدات الأكثر دعماً لحاجات اللاجئين واستجابة لتطلعاتهم؟ تخلص هاريل-بوند في كتاب الحقوق في المنفى ببيان لا يخلو من حيرة وإحباط في آن واحد:

"لا بد من إجراء مزيد من الأبحاث خاصة في مجال دراسات تحديد التكاليف لإقامة المخيمات. فإذا كانت المخيمات مكلفة الثمن، كما نفترض، أكثر من كلفة التدخلات الهادفة للإدماج المحلي والتنمية، فينبغي عدم ترك أي عقبة أمام جعل انتهاج الإدماج المحلي والتنمية الهدفَ الأساسي لبرامج المساعدات الإنسانية للاجئين."[v]

لكنَّ التقدم الذي أُحرِز خلال العقد الذي تلا نشر الكتاب ضعيف جداً في مجال تحليل المنافع والمغارم لمختلف أنماط المساعدات. وربما يعزى ذلك إلى سببٍ وجيه هو أنَّ حساب تكاليف المخيمات بسيط للغاية مقارنة بالصعوبة التي تسم عملية حساب تكاليف تقديم الخدمات في البيئات الحضرية التي تمثل تحدياً كبيراً نظراً لتنوع مقدمي الخدمات وقنوات التمويل المحتملة. بل هناك مجموعة أكثر تعقيأً من المشكلات المفهومية لا بد من حلها، ولا بد من إحلال إطار عمل مكافئ للمخرجات الفردية والجمعية في مختلف البيئات. وعلى أي حال، رغم تلك التحديات، هناك تقدم بدأنا نلحظه في جَمْعِ الهيئات لاستخدام طرق متشابهة في حساب التكاليف. صحيح أنَّ ذلك تقدمٌ بسيطٌ، لكننا لا ينبغي بأي حال من الأحوال أن نقلل من شأنه العظيم في إرساء مزيد من الشفافية والمقارنة في حساب التكاليف. ومن المتصور أنَّنا قد نتمكن خلال السنوات القليلة المُقبلَة من الإجابة على فرضية هاريل-بوند بقدر أكبر من الدقة.

لكننا في هذا الوقت علينا أن نواجه فرضيتيها المتفائلتين الأخريين بأنَّ تحسين المعلومات سيقود إلى تحسين التدخلات. وذلك الأمل ما يقوم عليه الكتابان وما يواجه بالمقابل تحليلها بشأن المصلحة الذاتية للهيئات في إدامة المخيمات من حيث هي موقعٌ أساسيٌّ لتوفير المساعدات. وستثبت لنا الأيام أسيتحقق ذلك الأمل أم لا.

أليوشَّا دُنُفريو Alyoscia.D'Onofrio@rescue.org

مديرٌ رئيسيٌّ لبرامج الحوكمة، ورئيس مكتب اللجنة الدولية للإنقاذ بجنيف www.rescue.org

 

[i] Verdirame G and Harrell-Bond B (2005) Rights in Exile: Janus-Faced Humanitarianism, Berghahn Books

(الحقوق في المنفى: العمل الإنساني الذي يواجه يانوس)

[ii] Harrell-Bond B (1986) Imposing Aid – Emergency Assistance to Refugees, Oxford University Press, p8.

(فرض المساعدات - المساعدة الطارئة للاجئين)

[iii] Imposing Aid, p8.

[iv] Imposing Aid, p8.

[v] Rights in Exile, p334.

إخلاء مسؤولية

جميع الآراء الواردة في نشرة الهجرة القسرية لا تعكس بالضرورة آراء المحررين ولا آراء مركز دراسات اللاجئين أو جامعة أكسفورد.