وِجْهَةُ نَظَرٍ مِحْوَرُها اللاجِئُون

جزءٌ من إرث باربارا هاريل-بوند هو صنعها مثالاً يحتذى به فيه مقاربة محورها اللاجئون تقارب الهجرة القسريَّة ودراسات اللاجئين.

لمَّا كان مساء يوم الأربعاء أوَّلَ عام 2001، اكتظَّ المُدرَّج الكبير في الجامعة الأمريكية بالقاهرة اكتظاظاً. وكان أكثر الحاضرين نائبين عن اللاجئين السودانيين والصوماليين والإريتريين والإثيوبيين والسيراليونيين المُزدَادُ عددهم في القاهرة، وكان في الحاضرين جماعة قليلة من الأكاديميين والمشتغلين برعاية شؤون اللاجئين، جاؤوا ليستمعوا إلى مندوبٍ من المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين وهو يتكلم بعَمَلِهَا في الحماية بمصر. واشتملت سلسلة الحلقات الدراسية التي دارت هناك على عروض تقديمية قدَّمتها في الحلقات كل منظمة رئيسية بالقاهرة تعمل في ميدان اللاجئين، وكانت من بنات أفكار باربارا هاريل-بوند التي كانت قد انضمَّت في الصيف الذي سبق هذا الحدث إلى برنامج متعدد التخصصات في الجامعة الأمريكية بالقاهرة واسمه برنامج الهجرة القسرية ودراسات اللاجئين، فكانت فيه أستاذةً زائرةً مميَّزة.

كان يعتلج في نفس باربارا اعتلاجاً شديداً أنّه ينبغي أنْ يكون اللاجئون في صدر كل مبادرة وفي محورها، والكلام هاهنا عن المبادرات التي تُبرِزُ معلومات حياتهم ومعاناتهم أو تتداولها. وكثيراً ما كانت أسئلة الحاضرين ووجهات نظرهم تُنْشِئُ مصاعبَ عويصةً في طريق المشتغلين بالعمل الإنساني الذين خاطبو حاضري الحلقات الدراسية كلَّ أسبوع. فقد سأل شابٌّ من الصومال مُسْتَيئِسٌ:لِمَ لا تُعِينُنَا المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين؟ ولِمَ لا ينصبون لنا مخيَّماً هنا؟ وشارك اللاجئون، أسبوعاً بعد أسبوعٍ، في محاولتنا الجماعية أنْ ندرك حال تهجيرهم واستجابة الجمعيات الإنسانية بالقاهرة لذلك.

وكنت قد عُيِّنتُ مُدِيرةَ برنامج الهجرة القسرية ودراسات اللاجئين بعد دخول باربارا فيه ببضعة شهور. ومع أنني كنت طالبةً شابَّةً من طلاب علم الإنسان في وظيفتي الأولى، فقد عاملتني باربارا معاملة الحليفة المُعوَّل عليها في التوفيق بين البحث والتعليم وبسط المساعدة إلى حيث يُحْتَاجُ إليها، بحيث أُخرِجَ الوضع الراهن عن مستقرِّه. وسرعان ما تعلَّمت أنَّ ذلك عنى إثارة أسئلةٍ صعبةٍ في وجه المساعدين الدوليين (وهم في أغلبهم من أوروبا وشماليِّ أمريكا) الذين كانوا قبل مجيءِ باربارا إلى القاهرة وسطاء معارف في تدبير ما يحتاج اللاجئون إليه. ثم إنَّنا أعملنا متدربين في تقييم الشبكات المُختلَّة النظام من هيئات العمل الإنساني وعامليه، وأعددنا تقاريرَ، وكتبنا اقتراحات مِنَحٍ للبحوث، وسجَّلنا موظفين حكوميين من وزارة الخارجية حتى يدخلوا في برنامج شهادة الدراسات العليا عندنا، ودعونا إلى الحلقات الدراسية الأسبوعية التي قدَّمنا ذكرها آنفاً، ثم كما هو الحال في كل ركن من أركان عالم باربارا، بدأنا نُعِينُ اللاجئين إعانةً قانونية.

وكان في سير العمل في أوَّل سنتين العجب العجاب، إذ كانتا مشحونتان بما يُهِمُّ من البيئة السياسية المصرية، والبيروقراطيَّة في الجامعة، وشخصية باربارا غير العادية. ولمَّا جدَّدتِ الجامعة الأمريكية بالقاهرة العقد بيني وبينها، قال لي رئيس الكلِّية إنَّه يَعدُّني جدارَ حمايةٍبين الجامعة وزوَّارها الأكسفورديين المُميَّزين. غير إنَّني لم أدرك أثر نفوذ بصيرة باربارا في تصوُّرها جدولَ أعمال محوره اللاجئون يجعل سماع آرائِهم من الأولويات إلا بعد أنَّ تركت الجامعة لأنضمَّ إلى برنامج دراسات اللاجئين بجامعة إيست لندن.

أسِّس برنامج الهجرة القسرية ودراسات اللاجئين مع خطوطِ تفكيرٍ تدور حول اللاجئين مبنية على الأنموذج الثلاثي في التعليم والبحث وبسط المساعدة إلى حيث يُحْتَاجُ إليها، ذلك الأنموذج الذي أنشأته باربارا وزملاؤها في برنامج دراسات اللاجئين (وهو اليومَ مركزٌ لا برنامج) بجامعة أكسفورد. وأثَّرت الميادين الثلاثة بعضها في بعضٍ فكان لكل ميدان الفضل في نماء الآخر، وذلك مع تدريس باحثي الهجرة القسرية ودراسات اللاجئين ووضعهم برامج بسط المساعدة إلى حيث يُحْتَاجُ إليها، واشتراك الطلاب في بسط المساعدة إلى حيث يُحْتَاجُ إليها وفي إخراج البحوث، واشتراك اللاجئين من حيث هم مُتعلِّمون وباحثون ومُعلِّمون.

ولقد وجدنا طرائق مبدعة، وجريئة أحياناً، لإدراج ناسٍ لهم خبرة سابقة باللجوء في برامجنا ومشاريعنا. فضمَّ الصفُّ الأول من طلاب الدراسات العليا فيما ضمَّ أربعة لهم خبرة سابقة في اللجوء، وذلك بمعونة مزيج من المنح الدراسية وفرص الجمع بين العمل والدراسة، ومن هؤلاء الباحث المزاول لِبِنْ نِلسِن مورو، وعالمة الإنسان أميرة أحمد، وموظف برامج سابق في المنظمة الدولية للهجرة. وقُبِلَ كلُّ إنسان مؤهَّل له خلفية سابقة في اللجوء في الدورات القصيرة التي أجريناها للمحترفين، وذلك بأجرٍ زهيد. وأدَّى كثير من مشاريع البحوث إلى تدخلاتٍ ذات شأنٍ، كبرنامج دعم التغذية وبرنامج التربية الجنسية. ومع ازدياد المخاوف الأمنية في القاهرة، طلبت الجامعة الأمريكية بالقاهرة الاستعراف بجوازات السفر أو ببطاقات الهوية، فصار مَن لا وثائق تثبت هويَّته عنده ومَن انتهى أجَلُ جواز سفره وهو منفيٌّ ممنوعاً من حضور الحلقات الدراسية أو الورشات في حرم الجامعة. ولمَّا احتججنا بأنَّه لا يُتصوَّر أنْ تَحُثَّ نشاطات برنامج الهجرة القسرية ودراسات اللاجئين على فهمٍ أوسعَ للتهجير القسري وقضايا اللاجئين من غير إشراك اللاجئين في ذلك، وجدنا مع مكتب الأمن في الجامعة سُبُلاً تغلَّبنا بها على مسألة دخول اللاجئين إلى الجامعة.

إعادة الصوغ وإعادة التَّمَحْوُرِ

وجد كثير منَّا، ممَّن عَمِلَ هو وباربارا أو تأثَّر بموقفها، طُرُقاً لإدماج وجهات نظر اللاجئين في برامجنا ومشاريعنا، ومن ذلك التخطيط التشاركيُّ، والبحث الإجرائيُّمع مجتمعات اللاجئين المحليَّة (أي تفحُّص المشكلات التي يحددها المجتمع المحلي تفحُّصاً تعاونياً)، ومِنَحٌ دراسيةٌ للناس الذي لهم خبرة سابقة في اللجوء. وصحيح أنَّ إفساحنا لأصوات اللاجئينفي البحوث والتدريس والتدرُّب محمودٌ، لكنَّني أخشى أننا نكرر زلَّة أسلافنا، الذين لم يقصدوا السُّوء، في دراسات المرأة والجندر. فنَاقِدُوا محاولاتهم إصلاحَ المؤسسات التي يسيطر عليها الذكور بإدماج مزيد نساءٍ فيها -أي مقاربة أضف نساءً وأثِر الحال‘- لم يفعلوا إلا القليل في صدِّ الاستمرار في عدم المساواة بين الجنسين. وتعني هذه أنه بإضافة مزيد نساءٍ إلى الأماكن التي يسيطر عليها الذكور تتنبَّه الحكومة فتدفع قضية الجندر إلى الصدارة في الحوار الوطني وفي آخر المطاف يدخل عدد أكثر من النساء إلى مسالك المعيشة.

إنَّ المعاناة من التهجير والانتقال تعيد إنشاء مفهوم الوطن والمكان والانتماء الذي في ذهن المرء من أساسه. وإضافة مزيد من أصوات اللاجئين إلى المؤسسات المؤسَّسةِ للمستقرِّين، مع أنَّها أكثر شمولاً، لا تعالج أحوالهم الجديدة هذه. ولكي تصير المقاربة التي محورها اللاجئونحقاً، لا بدَّ لنا من إعادة صوغ سياساتنا الساكنة حتَّى تتَّسِعَ للمتنقِّلين؛ أي مَن لهم خبرة سابقة في اللجوء. وقد أجري كثير من البحوث على الناس الذين أدَّت شبكات شتاتهم وسُبُل عيشهم العابرة للحدود الوطنية إلى تغيير وجهات النظر، فلم تعد ترى الهويَّة كما هي عليه اليومَ. ثم إنَّ تحليل السياسات أسهم إسهاماً هامَّا في إدراكنا أنَّ توفير نماذج الجنسية الوطنية الحلولَ الدائمة للمهجَّرين منذ عقودٍ يقلٌّ شيئاً فشيئاً. ولن نكون قادرين على إنشاء مساحات مشتركة مفيدة للناس المتنقلين من مكان إلى آخر إلا حين نرى التنقُّل البشريَّ -القسريَّ أو غيره- حالة ليس فيها استثناء. وكما الاعتراف المتأخِّر بأنَّ معالجة ما تحتاج إليه النساء وما يُهمُّهنَّ ببرامجَ لا تُفرِّق بين الجنسينانتهت إلى إعادة إنشاء حلول للرجال، يَحْسُن بنا أنْ نعترف بأنَّه لا بدَّ من أنْ تتجاوز مبادئنا وقيمنا في دراسات اللاجئين ضمَّهم إلى البنى التي تستنسخ توقُّعَ الاستيطان الثابت على حاله لا يتغيَّر ولا يتبدَّل.

هذا، ويُحتَاجُ في إعادة تمحور عملنا نحن واللاجئون إلى تبديل في طريقة التفكير، غير أنَّه يمكننا أيضاً إجراءات تلبس لكلِّ حالةٍ لَبُوسها في تدرسينا وبحوثنا وممارستنا. وتحتاج دراسات اللاجئين من حيث هي فرعٌ من فروع المعرفة إلى كثير من الدارسين والباحثين الذين لهم خبرة سابقة في اللجوء لكي يعينونا على إعادة النظر في التاريخ والسياسة من وجهة المتنقِّلين، ولكي تندمج الروايات العابرة للحدود الوطنية والعابرة للمناطق المحلية هي وقصص اندماج اللاجئين التي هي أشيع منها.

ويمكن للأساتذة أنْ يستنبطوا جداولَ قراءةٍ فيوجِّهون بها النظر إلى الدراسات في التاريخ وتجارب المتنقِّلين. ويمكن للمزاولين العاملين للإندماج الاجتماعي أن يساعدوا كلَّاً من المتنقِّلين والسكان المحليينفي المجتمعات المحلية على أنْ يشعروا بالراحة في مجتمع متغيِّرٍ فيه المتنقِّلونَ شركاءٌ يساوون أهله. ويمكن للمانحين أنْ يتغلَّبوا على خوفهم من الباحثين في شؤون اللاجئين المتنقِّلين ومن المزاولين في تنمية المجتمع المحلي، لكي يُموِّلوا المشاريع التي يُعِدِّها الناس الذين لهم خبرة سابقة في اللجوء والتي تُعدُّ لهم. أخيراً، يمكن للمؤسسات التي تساهم في الميدان أنْ تفعل أكثر مما تفعله بكثير في توظيف مَن لهم خبرة سابقة في اللجوء من المُختصِّين. فليست المسألة هاهنا نقصاً بما يُحتَاج إليه؛ إذ ما يزال عدد الناس المدربين مهنياً وذوي الخبرة ومَن لهم تجربة في الهجرة القسرية من مصدرها الأصلي يزداد. ولو كانت باربارا هاريل-بوند عائشةً لهتفت استحساناً بتبدُّلٍ في هذا الاتجاه.

 

أنيتا فابُس afabos@clarku.edu

بروفيسورة في التنمية الدولية والمجتمع الدولي والبيئة، ومنسِّقةٌ في برنامج اللاجئين والهجرة القسرية والانتماء بجامعة كلارك.

https://www.clarku.edu/academics/graduate/programs/certificate/certificate-in-refugees-forced-migration-and-belonging

إخلاء مسؤولية

جميع الآراء الواردة في نشرة الهجرة القسرية لا تعكس بالضرورة آراء المحررين ولا آراء مركز دراسات اللاجئين أو جامعة أكسفورد.