هل إجراء البحوث في ’المناطق الساخنة‘ مُفْرَطٌ فيه؟ مَسَائِلُ أخلاقيَّةٌ في جُزُرِ كارتِريت

جذب وضع سكان جزر كارتريت، الذين تميَّزوا كثيراً بأنَّهم أول لاجئي تغيُّر المناخ، كثيرَ اهتمامٍ بإجراء البحوث عليه. فما تأثير هذا الاهتمام؟ وهل التقيُّد بالأخلاقيَّات المتعارفة مُحسَنٌ؟

أجريت قبل بضع سنوات، في جزءٍ من بحثي في الهجرة التي لها صلة بتغيُّر المناخ، دراسة تجريبية دارت حول أفضل سُبُلِ التفاعل مع الأفراد والمجتمعات المحلية في الجزر المرجانية النائية في شماليِّ وشماليِّ شرقيِّ بوغانفيل، وهي منطقة ذات حكم ذاتي في بابوا غينيا الجديدة.[i] وقد اُخْتِيرَ هذا الموقع تحديداً بعد إجراء بحثٍ ميداني سابقٍ[ii] في اقتراحات جاء فيها أنَّ سكان الجزر في هذا الجزء من العالم قد يتأثرون تأثُّراً خاصَّاً بارتفاع مستوى سطح البحر الذي له صلة بتغيُّر المناخ وأسباب حدوثه متعدِّدةٌ وتختلف في المحيطات على حسب الموقع.[iii]

وعلى امتداد عدد من الأسابيع، شملت الدراسة التجريبية مشاركين في البحث (من كلٍّ من المهاجرين والمضيفين في المجتمعات المحلية الأصلية ومجتمعات المقصد) في مواقع مختلفة، من أهمِّها جزيرة تولون المرجانية، المعرفة باسم جزر كارتريت أو كيلينيلاو، وهي مجموعة جُزُرٍ نائيةٍ منخفضة.

وتشير نتائج البحث في الوِيب إلى اهتمام واسعٍ من وسائل الإعلام بالجزر المرجانية وبالانتقال القسري الحالي والمتوقَّع لسكَّانها الذي يزيد عددهم على ألفي نسمة من جرَّاء خطرٍ وشيكٍ: خطر الفيضان أو الغَمْر الدائم. وبإيجازٍ أقول: يظهر أنَّ ما تنشره وسائل الإعلام جعل جزر كارتريت إحدى أكثر المناطق المُهتمِّ بها تحدُّثاً في شأنها عالمياً، فضلاً على مواضيع رئيسية تُكتَب في أمرها تنشرها وسائل الإعلام العالمية الكبرى.[iv] ونظراً لوجود ميلٍ محددٍ في النشرات الإخبارية إلى التمثيل بعناوين مثيرة للعواطف من مثل أطْلَنْطِسُ المحيط الهادئ: أول لاجئي تغيُّر المناخ[v] ولتكرار الوصف في سكَّان جزر كارتريت بأنَّهم أول لاجئين بيئيينفي العالم أو أول لاجئي التغيُّر المناخي، كان من أسباب إجراء الدراسة التجريبية المزيد من المعرفة في أمر الصفات التي يُفضِّل سكان الجزر أنفسهم أن يوصفوا بها أو الكيفيَّة التي يحبون أن يتحدثوا بها هم عن حالهم.[vi]

أثارت الدراسة التجريبية من الأمور الأخلاقيَّة أسئلةً ومسائلَ ذات شأن، ومنها:

  • كيف تفهم المجتمعات المحلية الاهتمام الخارجي الكثير والمُستمَرَّ فيه بوضعهم؟
  • أمِنَ الممكن الإفراط في البحث بالمواقع أو السكان المهم به، وكيف يمكن أنْ يؤثر هذا في النَّاس أو أنْ يطرق النتائج؟
  • هل من كمٍّ مثاليٍّللبحث؟ فنظراً إلى ما ليس في الحسبان من تأثيراتٍ يمكن أنْ تُحدِثها البحوث في المجتمعات المحليَّة التي في المناطق الساخنةالتي تشهد الهجرة، هل الأحسن أن ترجح كفَّة تقليل البحوث على زيادتها؟
  • هل تستفيد المجتمعات المحلية في الأماكن التي يصعب الوصول إليها باكتفاءٍ من الدعاية الإعلامية وهل يرد إليها كل ما يخرج من البحوث من نتائج وحواصل؟
  • أيمكن للزيارات البحثية المُكرَّرة، المُستمَرُّ فيها مع مرور الوقت، أن تؤدي إلى نَسْجِ توقُّعات لا تأخذ بواقع الحال تدور حول وُرُودِ مساعدة مستقبلية محتملة على ما له صلة بالتكيُّف أو الانتقال أو إعادة التوطين أو الدعم المالي أو كل ذلك في آنٍ معاً؟
  • هل تسبب المقابلات المتكرِّرة التململَ من البحث، وهل يمكن أنْ يؤثر تعوُّدُ الأسئلة المُكرَّر ذِكرُها شيئاً فشيئاً في نتائج البحث أو أنْ تحرفها عن مسارها؟
  • هل تساهم الدعاية في آخر المطاف في حماية المستضعفين بتعريف أوضاعهم في نطاق موسَّع، أم أنَّ المستضعفين في المجتمعات المحلية في حاجة إلى الاحتماء من الدعاية؟
  • هل تُروِّج الدعاية السياحة القائمة على الكوارث؟
  •  أيكون من الأخلاقيَّات في بعض الظروف تنظيم الوصول إلى مواقع معيَّنة، أم أنَّ حَرْسَ البوَّابة هذا غير مفيدٌ أو متعالٍ أو مانع لنشوء المعرفة، وبذلك يصير غير أخلاقيٍّ؟
  • أينبغي أنْ تُدرِجَ لجان أخلاقيَّات البحوث الإنسانية بالجامعات مبادئَ توجيهية مُضَافة في إجراءات الأخلاقيَّات ببحوثها (ومن ذلك، ضمان أنْ يُطلَعَ المشاركون في البحوث على نتائجها في الأقلِّ)، أم أنَّ الحِملُ الإداري التَّزايُدي المرتبط بضَبْطِ الالتزام الأخلاقي النَّامي بسرعةٍ قد يثقل أو حتَّى يعرقل البحوث في المستقبل؟

وإذ قد كانت الإجابة على جميع هذه الأسئلة أمراً غير ممكنٍ، فمن المحتمل أنْ يكون الإفراط في الإخبار عن جزر كارتريت قد ساهم، جزئياً في الأقل، في تقليل إدراك القوة الفاعلة المحلية. ولا لومَ على سكان الجزر أنْ افترضوا أنَّ الكم الهائل من الاهتمام الخارجي، المستمرُّ فيه من سنين، سيؤدي لا ريبَ إلى شيء من الدعم المالي أو العملي أو كليهما، وهو ما لم يحدث في معظمه. ومن هنا أنْ أثار تواتر الإخبار في وسائل الإعلام المشكلات.

التقيُّد بالأخلاقيات مِنْ أجل مَنْ هذا التقيُّد؟ عندي، من حيث أنا باحث، أنَّ الكمية الكبيرة للأعمال الكتابية التي كُتِبَت في توظيف المشاركين في البحوث من أجل دراسة التقيُّد بالأخلاقيات ومن أجل توثيقها كانت مستهلِكَةً للوقت ومرهقةً. ولقد تألَّفت استمارة معلومات المشارك وموافقته من صفحات كُتِبَتْ فيها معلومات تعالج أموراً من مثل عملية اختيار المشاركين والغرض من الدراسة، ووصفِ الدراسة والمخاطر، وسريَّة المعلومات والكشف عنها، والشكاوى والتعقيبات على أعمال المشاركين. ونظراً إلى انخفاض معدلات التعليم ومعرفة القراءة والكتابة في المنطقة المَفْحُوص عنها، فلا بدَّ من إثارة سؤال: هل المعلومات الكثيرة المطبوعة باللغة الإنجليزية هي الآلية التي ليس بعدها آلية؟ ثم إنَّه طُلِبَ إلى المشاركين الاختيار من مجموعة من الخيارات يشيرون بها إلى الكيفية التي بها تسند تعليقاتهم إليهم. ثم طُلِبَ إلى المشاركين كتابة التاريخ والاسم في الاستمارة والتوقيع فيها، كل ذلك في حضور شاهد (طلب إليه أيضاً أن يكتب اسمع ويوقِّع في الاستمارة ويبيَّن علاقته بالمشارك أو يُخبِر بمزيد معلومات عن نفسه أو كلا الأمرين).

ونُووِلَ المشاركون أيضاً استمارة إلغاء الموافقة. فأتاح لهم ذلك إنْ هم عدلوا فيما بعدُ عن رأيهم خيارَ إلغاء موافقتهم في أمر مشاركتهم. ولكنَّ استعمال وثيقة إلغاء الموافقة لكان أنشأ عقبات عملية صعبة لكلِّ ساكنٍ في الجزر راغبٍ في إلغاء موافقته السابقة، ذلك إنْ وضعها في ذهننا أنَّه حين كانت الزيارة البحثية لم يكن في الجزر المرجانية كهرباء أو بريد إلكتروني أو بنية تحتية للهواتف الذكية أو مكتب بريد أو عبَّارات منتظمةُ المواعيد. وفي هذه الحالة ما ورد إلينا من استمارات الإلغاء شيءٌ.

ونُووِلَ أيضاً استمارةٌ ثالثةُ تضمَّنت بيان حِفْظِ السريَّة للمترجمين الشفويِّين، وطلب أنْ يُكتب فيه الاسم والتاريخ والتوقيع، وذلك بحضور شاهد يكتب اسمه ويوقِّع أيضاً. فإنْ وقَّع المترجم الشفوي على الاستمارة يكون قد وافق علىالالتزام بما في [اسم الجامعة] من مبادئ توجيهية أخلاقيَّة وإجراءات. وهناك وثيقة رابعة، وهي استمارة الموافقة على الظهور في الوسائط المتعددة، فكان القصد منها التأكد أنَّ كلَّ أحدٍ صُوِّرَ بأي وسيلة في خلال البحث موافق على أنْ تُستعمَل صوره فيالمواد الترويجية والتعليمية والتحريرية، ومن ذلك المنشورات والمواد التسويقية ومقاطع الفيديو والتلفاز والبثُّ بالإنترنت. وهناك الوثيقة الخامسة والأخيرة، وهي إذن التصوير في الموقع، وهي استمارة يطلب بها إلى الموقعين عليها السماح للباحث بتصوير ممتلكاتهم بالصوَّر أو بالفيديو.

من الوجهة العمليَّة، الظاهر أنَّ الوفاء بالطلبات الإدارية لأخلاقيَّات البحث التي فرضتها اللجنة الاستشارية لأخلاقيات البحوث الإنسانية بالجامعة وقسم الإعلام في المعهد أمرٌ يُعِيقُ التفاعل بين الباحث والمشارك. وبعد أنْ أسَّست بمقدِّمةٍ بسيطة لشيءٍ من الثقة، ظهر أنَّ تصميم الاستمارات التي تحتاج إلى تشاور وشرح وفهم وتوقيعات كثيرة يُثِيرُ شكَّاً فورياً من دوافع البحث وتضمُّن الدراسة مصلحة الناس في صميمها بالحقِّ من عدمها. ولقد بدا حذر المشاركين واضحاً في نظرتهم إلى ما وراء الحاجة إلى هذا القدر من الإجراءات القانونية. وللمرء تصوُّر أنْ تكون الزيارات الإعلامية المكثَّفة السابقة قد ساهمت في زرع هذا الشك. ومن هنا ربما يكون الإفراط في الإخبار قد أسهم في جعل سكان الجزر متوجِّسين توجٌّساً خاصَّاً من الموافقة الأخلاقية المكتوبة.

وبإيجاز أقول: أثار إجراء الدراسة أسئلة عديدة. ومنها على سبيل المثال، أتصبُّ أخلاقيَّات البحوث المعاصرة جُلَّ اهتمامها قبل كلِّ شيءٍ على حماية مصالح المشاركين في الدراسات؟ أمَّ أنَّ المؤسسات الرَّاعية تستثمر في الغالب في حماية مصالحها التي لها صلة بسُمْعتها الطيِّبة، ولا سيَّما في ضوء البيئة القانونية التي يكثر اليومَ التنازع فيها تدريجياً؟ وهل يمكن أن يحصل المرءُ حقاً على موافقة كتابية خارجة عن علمفي البحوث التي تدور حول المهجَّرين، ولو كان واقع الحال ثقافةً جماعيةً القُدْرةُ فيها على القراءة والكتابة محدودةٌ والتقليد الشفوي متينٌ؟ ثم ما هي القواسم المشترك (وأوجه الاختلاف) بين أخلاقيَّات البحث وأخلاقيَّات الإعلام؟ وأخيراً، على الرغم من نشر أخبار جزر كارتريت نشراً شاملاً، يظهر أنَّه لا يوجد نسبياً إلا القليل من البحوث التجريبية المنهجية الأصلية متاحةٌ في المؤلَّفات التي استعرضها النظراء. والظاهر أنَّه نعم قد أفْرِطَ في زيارة جزر كارتريت أو في الإخبار عنها، لكنَّ القطع بأنه قد أفْرِطَ فيها البحث، إنْ طُبِّق تعريف دقيقٌ للبحث، أمرٌ مبهمٌ فيه شُبْهة.

يوهانِس لوتز jluetz@chc.edu.au

محاضرٌ رئيسيٌّ، منسِّق في الدراسات العليا ورئيس بحوث، كليَّة كريستيان هيريتِج في بريسبان www.chc.edu.au؛ وأكاديميٌّ مساعدٌ في كلية العلوم الاجتماعية بجامعة نيو ساوث ويلز في سيدني https://socialsciences.arts.unsw.edu.au

 

[i] يشكر المُؤلِّف لبونيفاس واداري مدَّ يد العون في البحث ببوغانفيل، ولِجون كونِل وبِنْ مايرز تعليقاتهما المفيدة. ويعترف المؤلِّف أيضاً بِمِنَّة جامعة ساوث إيست ويلز بسدني والمُنظَّمة الدولية للرؤية العالمية.

[ii] Luetz J M (2008) ‘Planet Prepare: Preparing coastal communities in Asia for future catastrophes’, Asia Pacific Disaster Report, World Vision

(تحضير الكوكب: تهيئة المجتمعات المحلية الساحلية في آسيا لمواجهة الكوارث المستقبلية)

www.wvi.org/asia-pacific/publication/planet-prepare

[iii] Connell J (2015) ‘Vulnerable islands: Climate Change, Tectonic Change, and Changing Livelihoods in the Western Pacific’, The Contemporary Pacific, 27(1), 1–36

(الجزر الضعيفة: تغيُّر المناخ والتغيُّر التكتوني وسُبُلُ المعيشةِ المتغيِّرةُ في غربيِّ المحيط الهادئ) https://core.ac.uk/download/pdf/32302769.pdf

[iv] See also Bronen R (2014) ‘Choice and necessity: relocations in the Arctic and South Pacific’, Forced Migration Review issue 45

(الخيار والضرورة: أوضاع الاتقال في القطب الشمالي وجنوبيِّ المحيط الهادئ)  www.fmreview.org/ar/crisis/bronen

[v] Vidal J (2005) ‘Pacific Atlantis: first climate change refugees’, The Guardian

(أطْلَنْطِسُ المحيط الهادئ: أول لاجئي تغيُّر المناخ) www.theguardian.com/environment/2005/nov/25/science.climatechange

[vi] See Luetz J M and Havea P H (2018) ‘We’re not Refugees, We’ll Stay Here Until We Die! – Climate Change Adaptation and Migration Experiences Gathered from the Tulun and Nissan Atolls of Bougainville, Papua New Guinea’ in Leal Filho W (Eds) Climate Change Impacts and Adaptation Strategies for Coastal Communities, Springer Nature, Cham

(لسنا بلاجئين وباقونَ هنا حتَّى نلفظ أنفاسنا! - التكيُّف مع تغيُّر المناخ وتجارب الهجرة المُتحصَّلة من جزر تولون ونيسان المرجانية في بوغانفيل في بابوا غينيا الجديدة) http://unsworks.unsw.edu.au/fapi/datastream/unsworks:56025/binc5ca33ab-6cc6-463a-b2ef-fb606e70ea23?view=true

إخلاء مسؤولية

جميع الآراء الواردة في نشرة الهجرة القسرية لا تعكس بالضرورة آراء المحررين ولا آراء مركز دراسات اللاجئين أو جامعة أكسفورد.