الحَيْرَةُ الأخلاقيَّة فِي التَّطوُّعِ

قد يواجه المتطوِّعون في اليونان الذين يردمون الثغرات في تقديم الخدمات مواقفَ أخلاقية معقَّدة محتملٌ أنَّ تدريبهم ودعمهم لم يُزوِّدهم بما يحتاجون إليه في مواجهتها.

أصبحت اليونان منذ عام 2015 منفذاً ومحطة عبور يستخدمها مئات الآلاف من عابري الحدودنحو أوروبا.[1] ثمَّ جاءت الاتفاقية التي أبرمها الاتحاد الأوروبي مع تركيا في عام 2016 لتضع اليونان في طي النِّسيان، وتبع ذلك بالنتيجة إجبار طالبي اللجوء على العيش في ظروف معيشية صعبة لفترة تصل لسنتين قبل إعادتهم إلى تركيا أو منحهم صفة اللجوء في اليونان أو في حالات نادرة إعادة توطينهم في بلد أوروبي آخر. وما زالت أفواج الواصلين الجدد تقدم بالمئات براً في كل أسبوع إضافة إلى عشرات الألوف من الأشخاص الذين اكتظت بهم أماكن الإيواء ضعيفة الموارد كالمخيمات والمآوي والفنادق والتجمعات غير الرسمية بل منهم لم يجد حيلة سوى افتراش الشوارع. وفي ظل ثغرة تعتري منظومة الخدمات، يتدخل جمع من المتطوعين العاملين دون أجر رغم أنَّ كثيراً منهم لا يمتلك خبرة سابقة في البيئات الإنسانية عدا عن أنَّ مشاركتهم تنحصر على المهمات قصيرة الأجل.

وفي الفترة ما بين يونيو/حزيران 2017 وأغسطس/آب 2018، تطوعت في منظمتين، الأولى في أثينا وكانت عبارة عن فريق يقدم المساعدات القانونية غير الرسمية والمنظمة الأخرى في أحد المخيمات في جزيرة ليسفوس كانت تقدم للأشخاص السكن والغذاء والدروس وتساعدهم في بناء نشاطات أعمالهم الريادية. كلتا المنظمتين كانتا تشترطان على المتطوع أن يلتزم في التطوع معهما شهرين من الزمن وذلك أطول من معدل المدَّة المعتاد عليها. وخلال ذلك الوقت، زرت كثيراً من المخيمات والمنظمات والفضاءات غير الرسمية في البر الرئيسي اليوناني وفي جزيرة ليسفوس وقابلت عمال المساعدات المدفوع لهم والموظفين الحكوميين والمتطوعين.

ردم الثغرات في الخدمات في يناير/كانون الثاني 2017، توفي رجل سوري في خيمته خلال الأسبوع الأول الذي عُيِّنَت فيه جورجيا[2] التي جاءت من شمال أوروبا وتطوعت مع مجموعة لها نشاطاتها في جزيرة ليسفوس. وبعد التفتيش في أمتعته الشخصية لم يعثر الفريق على أي معلومات للاتصال بالعائلة الممتدة لذلك الرجل فبقي جثمانه في غرفة الجثامين لأيام. فتواصلت جورجيا وزملاء متطوعون لها مع قادة الجاليات السورية في المخيم ثم نشرت صورة الرجل الموفى على الفيسبوك، وخلال بضعة أيام تحقق الاتصال بينها وبين عائلته. تقول جورجيا إنَّ المنظمات والجهات الرسمية التي كانت تتلقى المال من أجل إسكان ذلك الرجل وحمايته لم تكن قادرة على التواصل مع أسرته أما هي، المتطوعة التي لم يمض أيام على وصولها والتي تعمل دون مقابل ولم يكن لديها شيء من الخبرة الكبيرة مع هذه الفئة من الأشخاص، فقد تمكنت من فعل ذلك في ظرف أيام قليلة. وعندما جاء شقيق الرجل (الذي أعيد توطينه في شمال أوروبا) للتعرف على الجثمان، رافقه المتطوعون إلى غرفة الجثامين وساعدوه في نقل الجثمان وإعادته إلى سوريا. ما فعلته جورجيا وغيرها من المتطوعين كان ما ينبغي فعله، لكنَّ المشكلة التي ظهرت وقتها أنَّ تلك المجموعة الصغيرة من المتطوعين والمتطوعات ممن لا يطلبون أجراً أضحوا يتولون مهاماً مناطة بالأصل بكوادر الهيئات الرسمية للحماية التي تأخذ أجراً لقاء ذلك. وأكثر التبعات لذلك القصور إدهاشاً أنَّ ذوي المتوفى لم يعرفوا بوفاته إلا من خلال وسائط الإعلام الاجتماعي.

وفي أثينا، حتى هيئات الحماية الرسميةتعجز عن الوفاء الكافي بالأدوار المناطة بها، إذ يشاهد مئات (وربما آلاف) من الأطفال غير المصحوبين ببالغين ينامون في الشوارع أو في التجمعات غير الرسمية. وفي ذلك الإطار، قرر عددٌ من المتطوعين ضمن فريق المساعدة القانونية أن يبحثوا عن ملجأ لفتيين اثنين (16 و17 عاماً) ممن قضوا أشهراً يعيشون فيها بالشوارع. وطرق المتطوعون الأبواب المعتادة فاتصلوا بالمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين والتقوا بغيرها من المنظمات بل بحثوا في التجمعات غير الرسمية. لكنَّهم لم يعثروا على إسكان للفتيين، فدفعوا المال لهما ليمكثا في أحد الفنادق لبضع ليال ويستعيدوا قوتهم ويستحموا وينعموا بعض النوم الهانئ.

إلاَّ أنَّ الفتيين في أول أمسية لهما في الفندق احتسيا الكحول وأقدما على التحرش الجنسي بإحدى الساحئات النزيلات في غرفة مجاورة. فتسبب ذلك بالصدمة للمتطوعين وحاولوا العثور على السائحة لكنَّها غادرت المدينة. وتواصلوا مع منظمة لخدمة الشباب والتقت قيادتهم بالفريق القانوني وتحدثوا بالتفصيل المطول حول الفتيين. ولاحظت أنَّ كثيراً من الحوار الذي دار بين المتطوعين حول الحادثة تركز على المشكلات الأخلاقية التي وجدوا أنفسهم فجأةً في مواجهتها. وكانوا يتساءلون عن مدى مسؤوليتهم في تلك الحادثة وكيف كان من الممكن أن يخفضوا ذلك النوع من التجربة دون هجر الفتيين في الشارع، بل بدؤوا يتساءلون إن كان من واجبهم أصلاً تأمين مأوى للفتيين. كانت الأسئلة كثيرة والأجوبة قليلة غير كافية، فقد شعروا بأنَّهم يتحملون شيئاً من المسؤولية لكنَّهم كانوا مرتبكين حائرين بشأن المسارالصحيحالذي يجب اتباعه. ثم استدركوا أنَّ ذينك الفتيين ربما كانا مستخطرينوخطراًفي آن واحد.[3]

وكان بعض المتطوعين قد ذهبوا إلى أبعد من ذلك فقدموا الإيواء بأنفسهم لعابري الحدود. وتحدث أحد عمال الإغاثة في ليسوفوس عن متطوعة رأت فتىً (15 عاماً) نائماً على الأرض في مخيم موريا فدفعتها الفطرة إلى إحضاره إلى بيتها. وأعطته هاتفاً وملابس لكنَّها بعد أيام بدأت تتذمر منه ومن أنَّه بدأ يطلب المزيد. فأصابها النزق من تصرفاته وأصبح وجوده ثقيلاً لأنَّها لم تكن تتصور ما يمكن أن يحدث بعد ذلك. وعندما اكتشفت المنظمة ما فعلته، سرَّحتها من العمل معها لأنَّ ما فعلته مثَّل مخالفة لمدونة السلوك لدى المنظمة. وبدلاً من أن تساعده في الانتقال إلى مشروع آخر لتوفير السكن له، غادرت الجزيرة وتركته ليتدبر أمره بنفسه.

وهناك متطوعة أخرى في أثينا تجنَّبت التقرب الاجتماعي من العائلات التي ساعدتها خشية أن تتطور العلاقة إلى التزام من جهتها في وقت كانت تعرف أنَّها ستغادرهم بعد انتهاء عقدها. وهنا، تظهر مسألة الوعي الذاتي بالتبعات المحتملة وقد يساعد ذلك الوعي في إثراء الممارسات الجيدة إلاَّ أنَّ انتهاج ذلك المسار كان بدافع من المتطوعة ذاتها وليس من الجمعية التي كانت تعمل معها.

وفي سياقات أخرى، يلاحظ وجود تجاهل لشبكات الناس الاجتماعية وقدرتهم على الصمود ومقاومة الظروف حتى في أشد الأوضاع وطأة.

حدود المسؤولية والعلاقات بعد أن سمعت عن أشياء إيجابية حدثت حول إحدى المنظمات غير الرسمية، تطوعت معها خلال أيام تلت وصولي إلى أثينا. وتلقيت دورة تدريبية في ممارسات اللجوء القانونية وتعلمت بسرعة طبيعة المساعدات التي كانت المنظمات الأخرى تقدمها في المدينة. وتطوع الفريق القانوني (الذي كان معظم أعضائه متطوعون من دول الشمال العالمي) في مبنى كبير على مبدأ من يأتي أولاً يُخدَّم أولاً فتح أبوابه لعابري الحدود ممن يبحثون عن المساعدة المرتبطة بالوصول إلى خدمة طلب اللجوء والتدرب على مقابلاتهم في اللجوء والحصول على معلومات حول السكن والوصول إلى خدمات الصحة والأطباء أو لم الشمل مع أفراد أسرهم في بلد أوروبي آخر. وكانت القضايا كثيرة ومعقدة وتطلبت اكتساب المتطوعين لمختلف المهارات وغالباً ما تطلب العمل التعاون مع المنظمات الأخرى في القطاع ذاته. وكان من الصعب تأسيس قنوات الاتصال مع المستفيدين لذلك غالباً ما عوَّلنا على إرسال الرسائل النصية لهم باستخدام هواتفنا الشخصية.

وفي إحدى الحالات، أخبرني أحد الرجال الذين داومت على إرسال الرسائل النصية له حول معلومات تخص اللجوء أنَّه كان يفكر بالانتحار. وكان ذلك في الساعة السادسة مساءً وكانت وقتها معظم المنظمات مغلقة ولم أعرف كيف أرد. فقررت في النهاية أن أقابله في أحد المطاعم التي يطرقها الناس وتحدثت إليه لساعات باستخدام مترجم غوغل للتغلب على العائق اللغوي. وأخبرني عن المشكلات الصحية الكثيرة التي يعاني منها وعن العزلة التي يعيشها في اليونان مُخلِّفاً وراءه بقية أفراد أسرته في الخطر في بلده وأخبرني أنه لم يحصل على مكان يسكن فيه بعد. ثم التقينا مجدداً صباح اليوم التالي وتمكنت من مساعدته في حضور اجتماع طارئ مع مستشار نفسي في إحدى منظمات المساعدات المحلية. وسارت الجلسة على ما يرام، وخلال الأسابيع التالية، تبادلنا الرسائل النصية من حين لآخر إلاَّ أنَّه كان غاضباً بأنني لم أتواصل معه بطريقة أفضل وكرر لي خططه في الانتحار. شعرت وقتها أنَّني مسؤول إزاء هذه الحالة الحادة التي يعيشها الرجل، لكنني كنت متردداً في الوقت نفسه بشأن الاستمرار بالتواصل اليومي معه خوفاً من أن تنشأ علاقة العِوَل بينه وبيني في حين لم يكن لدي أي قدرة على التعامل مع الأفكار الانتحارية.

أعدته مجدداً إلى المنظمة ذاتها لكنَّهم هذه المرة لم يتمكنوا من مساعدته لأنَّ المترجم كان في إجازة. فاتصلنا مع كل منظمة كنا نعرف أنَّها تتعامل مع حالات الطوارئ الحادة الخاصة بالانتحار لكنَّ أياً منها لم تتمكن من مقابلته. فما بقي إلا خيار واحد وهو المستشفى الحكومي الذي لم يكن لديه أيضاً مترجمون وكان على الأرجح سيودعه في جناح الطب النفسي. ثمَّ قال أحد موظفي منظمة المساعدات إنَّه فعل كل ما بوسعه لكنَّ هناك كثيراً من الأشخاص الذين تخدمهم المنظمة ولم تكن لها موارد كافية. فطلب إليَّ أن أفعل ما أستطيع من أجل الرجل. فتواصلت بعدها مع أحد أفراد أسرتي الذي كان مستشاراً نفسياً وسألت المشورة منه عن كيفية التعامل مع السلوك الانتحاري.

والفكرة أنَّه من الشائع أن يتوجه عمال المساعدات من مختلف المنظمات بطلب المساعدة من المتطوعين الذين يشعرون بدورهم أنَّه مسؤولون حتى لو كان تدريبهم ضعيفاً أو كانوا يعملون من غير أجر. وبسبب الثغرات الموجودة في الخدمات، غالباً ما كان المتطوعون الملاذ الأخير لعابري الحدود اليائسين لكنَّهم أيضاً الملاذ الأخير للموظفين المناط إليهم مسؤولية الاستجابة للأزمة. والمتطوعون يفعلون ما بوسعهم ويستخدمون بوصلاتهم الشخصية والجمعية الأخلاقية للمساعدة في إرشاد عابري الحدود إلى المسار الإجرائي الصحيحالذي قد يشوبه الغموض، إلاَّ أنَّ المخاطر الواضحة تظهر عندما يجد المتطوع غير المدرب نفسه في مواجهة مواقف معقدة مفتقراً في الوقت تفسه لما يكفي من دعم وقدرة على الاستمرار.

ومن واقع خبرتي في التطوع وعلى ضوء النقاشات التي دارت بيني وبين عمال الإغاثة والمتطوعين والموظفين الحكوميين، أوصي الجمعيات حتى تلك العاملة في الإطار غير الرسمي أن تُنْشِئَ لنفسها مدونات سلوك صارمة تمنع استخدام الهواتف الشخصية وتوفر الوقت اللازم لتدريب المتطوعين بحيث يركز التدريب على قضايا الصحة النفسية والحدود في العلاقات والتفكير الناقد. إضافةً إلى ذلك، ينبغي للمنظمات أن تعمل قدماً في ترسيخ التعاون المتماسك بالتركيز على الثغرات القائمة في الخدمات وتشجيع المسارات للمتطوعين وعمال المساعدات لكي يعملوا معاً على ابتكار الحلول.

آشلي وِتْشِر ashley.witcher1@gmail.com

مرشحة لنيل درجة الدكتوراه المزدوجة في برنامج ترانس غلوبال هيلث الذي يتبع برنامج إراسموس موندوس، جامعة أمستردام، آي إس غلوبال (جامعة برشلونة) ومعهد الطِبِّ الاستوائي (أنتورب) www.uva.nl/en

[1] أٌشِيرُ هاهنا باسم عابري الحدودإلى كل ضروب المهاجرين ما لم أذكر بالتَّحديد مَنْ رفعوا طلبات اللجوء.

[2] كلُّ الأسماءِ مُستعارةٌ.

[3] Pallister-Wilkins P (2015) ‘The Humanitarian Politics of European Border Policing: Frontex and Border Police in Evros,’ International Political Sociology 9: 53­69

(السياسة الإنسانية لشرطة الحدود الأوروبية: وكالة حرس الحدود وخفر السواحل الأوروبية وشرطة الحدود في إفروس)

https://uva.academia.edu/PollyPallisterWilkins

إخلاء مسؤولية

جميع الآراء الواردة في نشرة الهجرة القسرية لا تعكس بالضرورة آراء المحررين ولا آراء مركز دراسات اللاجئين أو جامعة أكسفورد.