هشاشة الدولة، والنزوح، والتدخلات الإنمائية

لا تقتصر مميزات نهج التنمية المعني بالتصدي للنزوح على تلبية احتياجات اللاجئين، والنازحين، والمجتمعات المضيفة فحسب، ولكنه يساعد المجتمعات أيضاً على معالجة جوهر مشكلة الهشاشة المسببة للنزوح.

يعرِّض غياب المؤسسات الكفء والشرعية في الدولة المواطنين لانتهاكات حقوق الإنسان والعنف الجنائي والاضطهاد وجميعها معروف أنَّها أسباب مباشرة للنزوح ومظاهر للهشاشة سواء أكانت واضحة أم غير واضحة.[i] فمعدل الضغوط الداخلية والخارجية التي يتعرض لها المُهجَّرون وقوة "الجهاز المناعي" للدولة (القدرة الاجتماعية على التعايش مع الضغوط المتجسدة في المؤسسات الشرعية) ستحدد مدى هشاشة الدولة. وقد تكون الضغوط إما أمنية، مثل: موروثات العنف والصدمات النفسية، والغزو الخارجي، والدعم الخارجي للمتمردين المحليين، والآثار غير المباشرة للنزاعات عبر الحدود، والإرهاب عبر الحدود الوطنية، والشبكات الإجرامية الدولية، أو ذات صلة بتحقيق العدل، مثل: انتهاكات حقوق الإنسان، والتمييز الظاهري أو الضمني، والنزاعات العرقية أو الدينية أو الإقليمية، أو اقتصادي، مثل: بطالة الشباب، والفساد، والتوسع الحضري السريع، والقفزات الهائلة في الأسعار، وتغير المناخ. وعلى إثر بعض تلك الضغوط (مثل: بطالة الشباب، والقفزات الهائلة في الأسعار، والإدارة السيئة لموارد الثروة الطبيعية، والفساد) يجد الناس أنفسهم إما لاجئين أو نازحين على نحو غير مباشر. 

مثل تلك الضغوط ليست كفيلة وحدها بتوليد النزاع أو العنف. وتقل قدرة الدول أو المناطق ذات المؤسسات الأكثر ضعفاً على الصمود أمام الضغوط الداخلية والخارجية والاستجابة لها وبذلك تصبح من أكثر الدول عرضة لمخاطر العنف والاضطرابات. ومع ذلك، لا تقع مسؤولية الأوضاع الهشة بأكملها على كاهل الدولة فحسب، بل قد لا تكون في بعض الحالات العامل الأقوى في المعادلة. فمع أن بعض جوانب الهشاشة نابعة من الدولة نفسها، فبعضها الآخر متجذر في التفاعلات المجتمعية، مثل: طريقة تفاعل الأفراد والجماعات بعضهم مع بعضهم، بما في ذلك العلاقات بين الجماعات في المجتمع والدولة. ولذلك، لا ينبغي رؤية الهشاشة بوصفها مسؤولية الدولة فحسب.

وغالباً ما تتأثر المناطق المضيفة للمُهجَّرين بالنزاع وعمليات التَّهجير والنُّزوح، وغالباً ما تفتقد المجتمعات والمناطق المضيفة أيضاً القدرة المؤسسية الكافية لتوفير الحماية والمساعدة للمُهجَّرين أو حتى إدارتها.  ، ففي مقديشو، في الصومال، على سبيل المثال، نتج عن إخفاق مؤسسات الدولة في التعاون مع مختلف الجهات الفاعلة الوطنية والدولية التي تقدم المساعدة للنازحين إلى السيطرة على مخيمات النازحين من قبل ممن يدّعون توليهم مسؤولية حراسة المخيم الذين يرتبطون بأصحاب النفوذ الذين يغتصبون بانتظام بعضاً من من المساعدات التي يتلقاها النَّازحون مدَّعين أنها "بدل الاستئجار".

يعيق النزاع والهشاشة أيضاً المساعي الحثيثة لإيجاد حلولاً دائمة لمشكلة المهجَّرين. وتقوض الهشاشة الحلول الدائمة، لاسيما محاولات العودة الطوعية إلى أرض الوطن، بطرق عديدة. فبادئ ذي بدء، تُنّفر هشاشة الوطن الأم، التي تعد السبب الرئيسي للتَّهجير في المقام الأول، المهجَّرين والمؤسسات التي تقدم المساعدة من فكرة العودة. فحتى إذا خلت تلك المناطق من النزاع والعنف وصارت آمنة، مازال يصعب على العائدين الاعتماد على أنفسهم في ظل غياب المؤسسات الكفء والشرعية. فإن تعذر على المؤسسات في مناطق العودة المحتملة إدارة الأرض ونزاعات الملكية على نحو صحيح، فسيجد العائدون صعوبة في استعادة سبل كسب عيشهم أو إيجاد مأوى لهم. ويعوق غياب المؤسسات القوية والقادرة على التصدي لقضايا التمييز والتهميش العائدين من ممارسة الأنشطة المدرة للدخل بفاعلية ومن الحصول على الخدمات التي يحتاجونها.

كيف يؤثر التَّهجير على هشاشة الدولة؟

تُفاقم قضايا النزوح المهملة أو سيئة الإدارة، لاسيما تلك التي طال أمدها، النزاعات وجوانب الهشاشة الأخرى. فالآثار غير المباشرة للنزاعات عبر الحدود وما يصاحبها من تدفقات اللاجئين من بين عوامل الضغط الأمنية المسببة للهشاشة. وغالباً ما يُرى تدفق اللاجئين إلى جمهورية الكونغو الديمقراطية (زائير سابقاً) عقب أحداث الإبادة الجماعية في عام 1994 من العوامل التي ساهمت في نشوب النزاع هناك. فعادة ما يُثقل تدفق النازحين كاهل القدرات المؤسسية للمجتمعات المضيفة. فإضافة إلى إجهاد المؤسسات الضعيفة، قد يتسبب التَّهجير في إفساد العلاقات بين المهجَّرين والمجتمعات المضيفة أو في تفاقم الأوضاع السيئة بينهم.

ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أنه لا يؤدي وجود النازحين واللاجئين بالضرورة إلى نتائج سلبية، بل يمكن أن يُسفر عن نتائج طيبة أيضاً. فعلى سبيل المثال، زاد وجود اللاجئين الروانديين في تنزانيا الطلب على المحاصيل التنزانية الزراعية. وتشير الروايات التي رواها المزارعون هناك إلى تضاعف حجم الأرض المزروعة ومحاصيل الموز والفاصوليا في المتوسط من عام 1993 حتى 1996. أما في كينيا، فقد زاد كثرة عدد اللاجئين في منطقة داداب الفرص الاقتصادية في المجتمعات المحلية. وعليه، فمعيار مدى تأثير وجود المُهجَّرين يعتمد على كيفية إدارة قضية التَّهجير على نحو يخفف من الآثار السلبية ويعزز الجوانب الإيجابية.

تؤكد أبعاد العلاقة تلك بين الهشاشة والتَّهجير على الحاجة الشديدة لتآزر أقوى بين جهود التصدي للهشاشة والاستجابات الدولية لمشاكل الهجرة القسرية. وسعياً لكسر حلقات الانفلات الأمني وتقليل مخاطر تكراره، ينبغي للإصلاحيين الوطنيين وشركائهم الدوليين بناء مؤسسات شرعية قادرة على حماية المواطنين والعدل بينهم وتوفير فرص عمل على نحو مستدام. ولكن عادة ما يقف في طريق بناء المؤسسات معوقات، ومع ذلك فبناء المؤسسات في جميع الأحوال عملية بطيئة. فقد استغرقت حتى أسرع الدول تحولاً ما بين 15 و30 عاماً لرفع أداء مؤسساتها من دولة هشة إلى دولة ذات مؤسسات فاعلة.

توجب صعوبة تحول المؤسسات وبطء وتيرة ارتقائها ضرورة استعادة الثقة المحلية في العمل الجماعي أولاً قبل الشروع في التحول المؤسسي على نطاق واسع. فبناء جسور الثقة ضروري؛ لأن ضعف الثقة يعني رفض المعنيين التعاون في تقديم الدعم السياسي أو المالي أو التقني قبل أن يشعروا بإمكانية إحراز نتائج إيجابية. وتشتمل آليات بناء الثقة على قطع جميع الصلات بالماضي، مثل: القضاء على الإقصاء السياسي أو الاقتصادي للفئات المهمشة أو الفساد أو انتهاكات حقوق الإنسان، وجميعها أسباب محتملة للتَّهجير. فكما يولد العنف العنف، تتمخض جهود بناء الثقة وتحول المؤسسات عن نتائج إيجابية. وفي ذلك الصدد، نجحت تدخلات التنمية جيدة التخطيط والمعنية بالتصدي للنزوح. فعلى سبيل المثال، توفير مأوى للنازحين الروانديين وتحويلات نقدية للنازحين في تيمور الشرقية كان دلالة على اهتمام الدولة بضحايا العنف أو المحرومين من خدمات الدولة سابقاً. وتعزز تلك التدخلات مشاركة الجماعات المقصية أو المناطق التي ينبغي اتخاذ قرارات سياسية أو اقتصادية سريعة بشأنها حتى يستفيدوا من ثمار مساعدات التنمية ويُخلّفوا أخطاء الماضي وراءهم.

النهج الإنمائي في التصدي للنزوح

كانت الاستجابة الدولية لقضية النزوح ذات طبيعة إنسانية في المقام الأول. ومع أن التدخلات الإنسانية مفيدة للغاية في إنقاذ الأرواح أثناء حالات الطوارئ، فهي لا تلبي احتياجات الغالبية العظمى من اللاجئين والنازحين في العالم المكبلين في نزوح طال أمده وتجاوز مرحلة الطوارئ الأولية وساد الشعور بأنه لا وجود في المستقبل المنظور لحلول تُفّرج تلك الأزمة. وفي أحيان كثيرة، سرعان ما يزول الاهتمام الدولي بعد انتهاء مرحلة الطوارئ الأولية وتغيب من الأفق مساعي الدعم طويلة الأجل نتيجة استمرار مشكلة النزوح مطوَّلة. وفي تلك الحالات، يكون التحدي بطبيعته تنموياً أكثر منه إنسانياً. وتشتمل التحديات التنموية للتصدي لأوضاع النزوح التي طال أمدها على توفير فرص عمل، والعدالة في تقديم الخدمات، ووجود حكومة سريعة الاستجابة وتخضع للمساءلة، وذلك لضمان التصدي للقضايا التي تؤثر سلباً على المهجَّرين على نحو يراه المهجَّرون والمجتمعات المضيفة شرعياً. وفي حالات العودة إلى أرض الوطن تكون مسألة استعادة الأراضي  والإسكان والممتلكات من أكبر التحديات التي تتطلب اهتماماً فورياً إذا كانت عودة المهجَّرين حلاً دائماً لمشاكل التَّهجير.

وبتآزر جهود التصدي للهشاشة وجهود التصدي للتَّهجير، يتصدى النهج الإنمائي للآثار المشتركة بينهما، مثل: تدفقات اللاجئين الفارين من نزاعات الدول المجاورة؛ حيث تمثل تلك التدفقات عاملاً من عوامل الضغط الخارجية التي من شأنها القضاء على المؤسسات الضعيفة. ويُقصد بالنهج الإنمائي للتصدي للتَّهجير المساهمةُ في بناء المؤسسات التي تساعد على تخفيف وطأة الضغوط التي يسببها التَّهجير واسع النطاق والاستفادة من الآثار الإيجابية له.

ومقارنة بالتدخلات الإنسانية، يهدف النهج الإنمائي للتصدي للتَّهجير إلى بناء المؤسسات التي تضمن أمن المواطن وتحقيق العدالة وتوفير فرص عمل في المناطق المتضررة من التَّهجير. فإذا صُممت تدخلات التنمية ونُفذت على نحو صحيح، تساهم تلك التدخلات في تحسين سُبل العيش للمهجَّرين، وتستطيع المجتمعات المضيفة المساهمة في بناء المؤسسات من خلال التصدي، على سبيل المثال، لقوانين التمييز التي تقوِّض حق العمل وحرية الانتقال للمهجَّرين. وبالمثل، تفيد الجهود المبذولة لاسترجاع الأراضي والإسكان واستعادة المهجَّرين لممتلكاتهم في بناء المؤسسات المعنية بتطبيق العدل في البلاد. أما الجهود المعنية بثبات معدل تقديم الخدمات للجميع فمن شأنها تحسين المؤسسات التي تضمن أمن المواطنين وسيادة القانون.

ولا تقتصر أهمية الجهود المبذولة لمعالجة قضايا التهميش وانتهاكات حقوق الإنسان على تحسين حياة اللاجئين والنازحين فحسب، فهي تساهم أيضاً في التصدي لهشاشة الدولة ببناء جسور الثقة في البلاد. وإتباع النهج الإنمائي للتصدي للتَّهجير من شأنه تحسين حياة النازحين والمجتمعات المضيفة وتيسير مساعي البحث عن حلول دائمة للأزمات. وسيُساعد المجتمعات أيضاً على تخفيف وطأة أضرار النزوح والاستفادة من الجوانب الإيجابية له. ولا تقتصر أهمية نهج التنمية المعني بالتصدي للتَّهجير القسري على تلبية احتياجات المهجّرين فحسب، فهو مفيد في معالجة قضايا النِّزاع والهشاشة من خلال تعزيز جهود بناء المؤسسات التي تضمن أمن المواطن وتحقيق العدل وتوفير فرص العمل من خلال بناء الثقة في المجتمع. فالاهتمام ببناء المؤسسات من شأنه منع وقوع تَهجيرات مستقبلية.

 

يوناتان أرايا yaraya@worldbank.org  مستشار في البنك الدولي. الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة رأي البنك الدولي. www.worldbank.org

 

المعلومات الواردة هنا بشأن الهشاشة مستقاة من إصدارين حديثين للبنك الدولي: هما  تقرير التنمية في العالم:  النزاع، والأمن، والتنمية (2011)، (World Development Report: Conflict, Security and Development (2011)) والتفاعلات المجتمعية، والهشاشة (2013) (Societal Dynamics and Fragility).



[i] مثل اتفاقية الاتحاد الأفريقي لحماية ومساعدة النازحين داخلياً في أفريقيا (اتفاقية كمبالا)، واتفاقية منظمة الوحدة الأفريقية التي تحكم المظاهر الخاصة بمشكلات اللاجئين في أفريقيا لعام 1969، وإعلان قرطاجنَّة بشأن اللاجئين لعام 1984.

 

إخلاء مسؤولية

جميع الآراء الواردة في نشرة الهجرة القسرية لا تعكس بالضرورة آراء المحررين ولا آراء مركز دراسات اللاجئين أو جامعة أكسفورد.