هشاشة الدول ووضع اللاجئين و"الهجرة بحثاً عن البقاء"

تمثِّل هشاشة الدول تحديا لنظام اللاجئين، فبدلاً من الاقتصار على التركيز على ضرورة حماية الناس الفارِّين من التصرفات التي تنتهجها الدول ضد سكانها، يُطلب أيضاً حماية الأشخاص الذين يهربون من إهمال الدول سواء أكان سبب الإهمال ذاك عدم رغبة الدولة أم عدم قدرتها على توفير الحقوق الأساسية لمواطنيها.

غالباً ما يتعرض تحديد الدول على أنها "هشَّة" أو "مخفقة" للانتقاد على أنه ينقصه الوضوح ويشتمل على عدد متنوع من الأوضاع وعلى أنه يمثِّل عنواناً أغرق في استخدامه الساسة لقياس الدول وفقاً لعدد متنوع من معايير غربية مثالية للحكم. [i] ومع ذلك، يمكننا استخدام مفهوم هشاشة الدولة للوقوف على بعض الأمور المهمة المتعلقة بالطبيعة المتغيرة للتَّهجير وكفاية أو عدم كفاية استجابات الحماية الدولية عند انهيار العلاقة المفترضة بين الدولة والمواطن وعندما تصبح الدولة عاجزة أو غير قادرة على توفير الحقوق لمواطنيها.

دخلت اتفاقية اللاجئين حيز الوجود عام 1951 بعد الحرب العالمية الثانية وكان هدف المجتمع الدولي وقتها التعامل مع حقيقة إخفاق بعض الدول في توفير حقوق الإنسان الرئيسية لمواطنيها. ومع ذلك، منذ تأسيس نظام اللاجئين في خمسينيات القرن العشرين، طرأت تغيرات كثيرة على الظروف المحيطة بفرار الناس من بلادهم. ومع أنَّ كثيراً من الحوارات الحالية الأكاديمية والسياسية تركِّز على "مسببات جديدة للتَّهجير" (كالعنف العام والتغيرات البيئية وانعدام الأمن الغذائي) فإنَّ ما يحدد في نهاية المطاف ما إذا كان توفير الحماية الدولية ضرورياً أم لا هو جودة الحكم في البلد الأصل. ففي البلدان التي تتسم بضعف الحكم، قد لا يُتاح أمام الناس من سبل الحصول على الحماية سوى مغادرة البلاد.

من الاضطهاد إلى الحرمان

في حين أنَّ عدد البلدان القمعية أو السلطوية أقل الآن مما كان عليه الحال إبَّان الحرب الباردة فقد كان هناك ارتفاع في عدد الدول الهشَّة منذ نهاية الحرب الباردة. وهذا المنحى يعني انخفاض عدد الأشخاص الفارين من الاضطهاد نتيجة تصرفات الدول مقارنة بزيادة عدد الأشخاص الفارين من دولهم نتيجة حرمانهم من حقوق الإنسان لما يلقونه من إهمال في الدول الضعيفة غير القادرة أو غير الراغبة في ضمان الحقوق الأساسية.

ومع أنَّ المنشئين لنظام اللاجئين تنبؤوا بأنَّ تعريف اللاجئ سوف يتطور مع مرور الزمن إما من خلال النواحي الفقهية التشريعية في دول معينة أو من خلال إبرام الاتفاقات التكميلية، فما زال الإطار القانوني غير واضح كفاية ليحدد بدقة التزامات الدول أمام الأشخاص الفارِّين من الحرمان الذي يقعون خارج الفهم التقليدي للاضطهاد. وربما يقول البعض إنَّ اتفاقية اللاجئين لمنظمة الوحدة الإفريقية عام 1969 تغطي بعض جوانب هشاشة الدول على أنها سبب في التَّهجير العابر للحدود (تحت عنوان "الأحداث التي تتسبب باضطراب خطير في النظام العام"[ii] لكنَّ استخدام المصطلح غير الناضج وضعف الفلسفة التشريعية ما زالا سبباً في جعل التطبيق العملي لذلك المفهوم على الدول الهشَّة أمراً لا يمكن التعويل عليه. وبالإضافة إلى ذلك، ربما استُحدثت معايير تكميلية للحماية من خلال تطبيق قانون حقوق الإنسان الدولي بهدف مد رقعة الحماية الدولية، لكنَّ الفلسفة التشريعية مع ذلك بطيئة التطور وغير متكافئة في توزيعها الجغرافي. والنتيجة أنَّ حماية الأشخاص الفارِّين من الحرمان خارج نطاق الفهم التقليدي للاضطهاد أصبحت من الأمور غير الموحَّدة في فهمها وغدت مشروطة بالعوامل السياسية لا بالقانون.

وتبعاً لذلك، يلاحظ أنَّ كثيراً من الأشخاص الذين يُجبرون أو يشعرون أنهم مجبرون على عبور الحدود الدولية غير مؤهلين للجوء وفقاً للفئات التي حددتها اتفاقية اللاجئين لعام 1951، فكثير من الناس يفرّون من حرمانهم من حقوق الإنسان في دول هشة أو مخفقة مثل زيمبابوي والصومال وجمهورية الكونغو الديمقراطية وهاييتي وأفغانستان وليبيا ويَبدُون إلى درجة كبيرة على أنهم لاجئون ومع ذلك فمعظمهم يقع خارج تعريف اللاجئ ما يعني في الغالب حرمانهم من الحماية. والسبب في ذلك أنَّهم لم يفروا من تلك البلدان على أساس الخوف من اضطهاد الدولة مع أنَّ كثيراً منهم يفرون من عجز الدولة. وهم لا يفرون من البلد سعياً وراء تحسين فرصهم الاقتصادية إلا إذا اعتبرنا طبعاً أنَّ مجرد إيجاد ما يسد الرمق فحسب باعث اقتصادي للهجرة. ومع ذلك، يلاحظ أنَّ الحماية التي يتلقاها هؤلاء من حين لآخر غير مكتملة وغير ثابتة ولا يمكن التنبؤ بها وفي أحسن أحوالها تكون غير كافية إلى حد مخيف. ومصير هؤلاء اللاجئين على الأرجح اعتقالهم واحتجازهم ثم ترحيلهم بدلاً من منحهم الحماية.

من وجهة نظر الفرد، لا فرق بين أن يكون مصدر حرمان المرء من حقوق الإنسان اضطهاد الدولة له أو أي سبب آخر. فإذا كان المرء غير قادر على البقاء أو المحافظة على الشروط الرئيسية للكرامة الإنسانية دون مغادرة بلاده فعندها يصبح التمييز بين الاضطهاد وغير ذلك من الأسباب أمراً ليس ذا بال.

لكنَّ الثغرات في حماية الناس الفارين من الدول المخفقة والهشة من الأمور التي لا يمكن تجاهلها من جهة حقوق الإنسان. ومن الأمثلة البارزة على ذلك أنَّ أعداداً كبيرة من المواطنين من زيمبابوي فروا من بلادهم بين عامي 2000 و2010 (يقدر عدد من دخل منهم جنوب أفريقيا وحدها مليوني لاجئ خلال تلك المدة). هؤلاء فروا من الأوضاع البائسة في بلداهم التي اتسمت بالانهيار الاقتصادي والسياسي معاً تاركة الزيمبابويين تقريباً دون أي فرصة جيدة لكسب العيش لسد حتى أبسط الحاجات الحياتية. ومع ذلك، بما أنّ أقلية صغيرة جداً واجهت اضطهاداً من الأفراد على خلفيات سياسية، فقد أضحت الأغلبية الساحقة خارج تعريف اللاجئ بموجب اتفاقية اللاجئين (1951)، ومن هنا، بدلاً من تلقي الحماية لم يتلقَّ الأغلبية منهم سوى مساعدات محدودة في البلدان المجاورة في حين اعتُقل مئات الآلاف منهم واحتُجزوا ثم رُحِّلوا إلى زيمبابوي.

وثغرات الحماية تلك لا يمكن إغفالها أيضاً في سياق الأمن الدولي، فنحن نعلم أنَّ هناك علاقة بين التَّهجير العابر للحدود والأمن وأنه حيث كانت الاستجابات الدولية غير كافية كان هناك فرصة لأن يتسبب التَّهجير في زيادة النزاع سوءاً أو أن يتيح فرصاً لأشياء أخرى غير مرغوب بها كالتجنيد القسري من قبل الجماعات المسلحة. وبالمقابل، لم يكن هدف الدول المنشئة لنظام اللاجئين مُركِّزاً حصرياً على الحقوق بل كان أيضاً مبنياً على إدراك أنَّ الإخفاق الجماعي في توفير الحماية للأشخاص الذين أخفقت دولهم أو امتنعت عن توفير أولى الحقوق الأساسية قد يكون له آثار في زعزعة الاستقرار. وهناك منطق آخر مماثل ينطبق على الأشخاص الذين فروا هرباً من الحرمان الجسيم لحقوقهم، وفي حالة غياب العمل الجماعي المتماسك، قد يكون لموجات التَّهجير السكانية (لأسباب عدة ليس أقلها إخفاق الدول وهشاشتها) مضمونات على الأمن الإقليمي واحتمال اتساع الرقعة الجغرافية لمسببات ذلك التَّهجير.

الهجرة بحثاً عن البقاء

وراء تحديد الأشخاص على أنهم لاجئين أو مهاجرين طوعيين باحثين عن الفرص الاقتصادية لا نمتلك المصطلحات اللازمة لكي نحدد بوضوح الأشخاص الذين ينبغي أن يكون من حقهم أن لا يُعادوا إلى بلدانهم الأصلية لأسباب تتعلق بحقوق الإنسان. فالأشخاص الموجودون خارج بلادهم الأصلية بسبب تعرضهم لخطر يستهدف وجودهم وحياتهم وبحيث لا يكون لديهم سبيل في بلداهم للانتصاف أو لفض النزاع (سواء أكان ذلك نتيجة الاضطهاد أم النزاع أو التدهور البيئي على سبيل المثال) يمكن أن نشير إليهم على أنهم "مهاجرون بحثاً عن البقاء"[iii]. وليس ما يهم السبب الرئيسي لحركة الهجرة بقدر ما يهم تحديد عتبة للحقوق الأساسية التي في حالة عدم وجودها في البلد الأصلية  فإنها تقتضي على المجتمع الدولي أن يسمح للناس عبور الحدود الدولية والحصول على الحماية المؤقتة أو الدائمة. ومع ذلك، لا يوجد اتفاق على طريقة التفريق بين الحقوق المتاحة للاجئين مقارنة بما يتاح للمهاجرين الباحثين عن البقاء الفارِّين من الحرمان الخطير لحقوقهم الإنسانية. فمن الناحية النظرية، يتمتع جميع المهاجرين الباحثين عن البقاء بحقوق وفقاً لقانون حقوق الإنسان الدولي، ومع ذلك فعلى النقيض من اللاجئين، لا يوجد آليات مؤسسية تضمن توفير هذه الحقوق على أرض الواقع. وما من منظمة دولية يُعهد إليها رسمياً مسؤولية حماية الأشخاص الذين يحق لهم على أساس حقوق الإنسان أن لا يُعادوا إلى بلدانهم الأصلية في حالة لم ينطبق عليهم تعريف اللاجئ. وعشوائية التمييز بين الاضطهاد وغيره من حالات الحرمان الخطيرة من حقوق الإنسان المؤدية إلى التَّهجير أمر ملحوظ ضمنياً في نواح أخرى من ممارسات المجتمع الدولي. فعلى سبيل المثال، منذ أواخر تسعينيات القرن العشرين، وضعت الدول إطاراً تقنينياً ومؤسسياً لحماية النَّازحين داخلياً وفي حالة هذه الفئة من المهجَّرين، اختار المجتمع الدولي منهجاً أكثر شمولاً بدلاً من تقييد التعريف على الفارين من الاضطهاد.

وفي بعض الحالات، "وُسِّع" نطاق نظام اللاجئين بحيث يقدم الحماية للمهاجرين الباحثين عن البقاء لكن ذلك لم يحدث في حالات أخرى. ومع أنَّ الدول المضيفة تبنت في بعض الأحيان ووقعت على معايير مماثلة للاجئين وصادقت على بعضها الآخر، ما زال هناك اختلاف كبير بين النظرية والممارسات العملية المطبقة. ورغم أنَّ الأسباب الضمنية للحركات السكانية مشتركة في بعض الأحيان، كانت استجابة كل بلد مضيف مختلفة اختلافاً جذرياً عن استجابة البلدان الأخرى. وفي حين أنَّ جميع الاستجابات كانت معيبة من منظور حقوق الإنسان فقد كان بعضها معيباً إلى درجة أكبر بكثير من غيرها.

ففي كينيا على سبيل المثال، نُظر إلى جميع الصوماليين على أنهم لاجئين بعض النظر عن السبب الرئيسي الذي دعاهم للهروب من بلدهم. وهذا ما كان عليه الحال حتى خلال مرحلة لا بأس بها من المجاعة والجفاف الذين أصابا الصومال عام 2011. وفي تنزانيا كان هناك مقاومة من قبل الحكومة وكذلك من قبل مفوضية الأمم المتحدة السامية للاجئين في تطبيق بند إيقاف وضع اللجوء بالنسبة للكونغوليين من إقليم جنوب كيفو ليس من مبدأ أن عودتهم ستعرضهم لخطر الاضطهاد بل بسبب ضعف الحكم في جمهورية الكونغو الديمقراطية. لكن الاستجابة كانت مقيدة جداً في بلدان أخرى كما في أنغولا التي اعتقلت مئات الآلاف من الكونغوليين واحتجزتهم ورحَّلتهم بوحشية في أغلب الأحيان. وكذلك الأمر في بوتسوانا التي استمرت في أوج الأزمة في زيمبابوي بترحيل المهاجرين الزيمبابويين مقارنة بجنوب أفريقيا التي على أقل تقدير علٌّقت مؤقتاً إعمال قوانينها التي تفرض ترحيل الزيمبابويين.

وبسبب غياب الوضوح القانوني، مارست الدول قدراً كبيراً من الاجتهاد والتقدير في تحديد استجاباتها. وفي غضون ذلك، كانت أدوار المنظمات الدولية معلقة إلى درجة كبيرة على رغبة الحكومات المضيفة أو عدم رغبتها في توسيع نطاق الحماية للسكان الذين يهربون من أنواع الحرمان التي لا تُعرَّف على أنها اضطهاد.

ومن هنا، تسلط هذه التناقضات الضوء على الثغرات المهمة في الإطار التقنيني والمؤسسي الذي يحمي الناس الفارين من الدول الهشة والمخفقة. ويكمن التحدي في تحسين عمل المؤسسات القائمة بدلاً من إنشاء مؤسسات جديدة. ولهذا الغرض، لا بد من البدء بتحسين المعايير القائمة. وهذا الأمر الأخير يتطلب فهم الحوافز المحلية والوطنية السياسية التي تحدد ملامح التنفيذ. ومع ذلك، ما زال هناك ثغرات تقنينية وقد تساعد مجموعة من المبادئ الإرشادية الرسمية في توحيد فهم الجهات المختلفة لما تنطوي عليه معايير قانون حقوق الإنسان الموجودة بالنسبة للمهاجرين الباحثين عن البقاء ممن يقعون على هامش نظام اللجوء. أما في الوقت الحالي، فإنَّ الاستجابات للأشخاص الفارِّين من الحرمان الجسيم لحقوق الإنسان في الدول الهشة والمخفقة لا تعدو أن تكون استجابات تعسفية وغير موحدة إلى درجة كبيرة جداً.

أليكساندر بيتس alexander.betts@qeh.ox.ac.uk محاضر جامعي في مجال دراسات اللاجئين والهجرة القسرية في مركز دراسات اللاجئين، جامعة أكسفورد www.rsc.ox.ac.uk



[i]  يصنف مؤشر الدول المخفقة لدى منظمة صندوق تمويل من أجل السلام على سبيل المثال الدول وفقاً لعدد من المؤشرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية http://ffp.statesindex.org/

 [ii]  المقالة 1.2 www.unhcr.org/45dc1a682.html

[iii] انظر أليكساندر بيتس، الهجرة من أجل البقاء: الحكم المخفق وأزمة التهجير (Survival Migration: Failed Governance and the Crisis of Displacement)،  مطبعة جامعة كورنيل، 2013

 

إخلاء مسؤولية

جميع الآراء الواردة في نشرة الهجرة القسرية لا تعكس بالضرورة آراء المحررين ولا آراء مركز دراسات اللاجئين أو جامعة أكسفورد.