المُهجَّرون المطالوبن بحقوقهم في الدول الهشَّة

إلى اليوم، لم يحقق الأشخاص المهجَّرون في الدول الهشة والمتأثرة بالنزاع كثيراً من النَّجاح في المطالبة بحقوقهم في رفع الانتهاكات الواقعة على السكن والأراضي والعقارات. لكنَّ التفكير القانوني المبدع والتقاضي الاستراتيجي يمكنهما أن يغيرا ذلك الواقع.

ُعد الانتهاكات الواقعة على السكن والأراضي والعقارات من العوامل التي غالباً ما تتسبب في نشوب النَّزاع وإعاقة بناء السلام. ومع ذلك، هناك قصور كبير في الفقه القانوني للتصدي لتلك الانتهاكات بل نادراً ما يُخضَع مرتكبو تلك الجنايات إلى المساءلة.

وخلال العقد الماضي، شهد العالم ارتفاعاً مضطرداً في التقاضي على مستوى القضايا الجنائية الدولية مع تأسيس المحاكم التابعة للأمم المتحدة ليوغوسلافيا السابقة عام 1993 ولرواندا عام 1994 ورسخَّ ذلك التقاضي تأسيس المحكمة الجنائية الدولية عام 2002. ورغم التشكيك في الدرجة التي قدَّمت فيها المحاكم الدولية المستحدثة مؤخراً الانتصاف الفعال للضحايا وعائلاتهم فلا يمكن لأحد أن ينكر مساعيها الرامية إلى تأسيس منبر دولي للمساءلة الجنائية.

لقد أخذت بعض المحاكم المحلية زمام المبادرة اقتداءً بالأمم المتحدة فأخضعت بعض الأفراد إلى المساءلة إزاء الجنايات التي ارتكبوها، واتَّبعت تلك المحاكم مبدأً يسمى: الولاية القضائية العالمية. ويتيح ذلك المبدأ لأي دولة أن تحاكم أي متهم كان بجريمة دولية بغض النظر عن مكان ارتكابه للجريمة أو جنسيته أو جنسية الضحية. لكنَّ هذا التقدم الإيجابي في السعي وراء المساءلة الدولية قد أغفل إغفالاً رئيسياً الانتهاكات الخطيرة لحقوق السكن والأراضي والعقارات، مع أنَّ المحكمة الجنائية تنظر بالفعل في عدد من الجرائم الدولية التي تتعلق بالاعتداءات على حقوق السكن والأراضي والعقارات، كما الحال في الاختصاص والفقه القضائيين لكل من محاكم الأمم المتحدة المؤسسة حول يوغوسلافيا ورواندا.

ولما كان النَّفاذ في الدول الهشَّة إلى رد الاعتبار في الدولة التي ارتُكبت فيها الانتهاكات يكاد يكون ضرباً من المستحيل،  فقد تصبح المحاكم الأجنبية مساعداً مهماً في تمكين حصول كل ذي حق على حقه في العدالة. لكن عدا عن التحديات القانونية في التقاضي بشأن انتهاكات حقوق الإنسان على الساحة الدولية والتحديات الأكثر عمليةً، غالباً ما تكون القضايا المرفوعة مشوبة بعدم الوضوح يصاحبها حساسية سياسية وغياب للسوابق القضائية وصعوبة في التنبؤ بنتائج ذلك التقاضي. الصورة قاتمة فما الذي يمكن له أن يغيِّر الوضع؟

المطلوب من المجتمع الدولي أن يضع على سلَّم أولياته أمرين اثنين: التصدي لحالات الظلم تلك ورفع مستوى نفاذ المهجَّرين إلى العدالة. ولهذا الغرض، لا بد من إعادة النظر في الافتراض السائد الذي يقول إنَّ التقاضي غير ممكن إلا في ظل منظومة قضائية فاعلة وشيء من سيادة القانون، وكلاهما غائب عن المشهد العام في الدول الهشَّة ما دعا البعض في الاعتقاد باستحالة إجراء التقاضي فيما يتعلق بنزاعات السكن والأراضي والعقارات. لكنَّ ذلك الافتراض غير صحيح.

في كل يوم، يواجه القانون تحديات كبيرة من المحامين الماهرين في شتى بقاع العالم. فهؤلاء يعرفون كيف يستخدموا القانون بإبداع إلى درجة تحد من قدراتنا على مساءلة مرتكبي الجنايات الدوليين العابرين للحدود. لقد استُخدم القانون الدولي حقاً بإبداع لحماية الأطراف النافذة التي تضم على وجه الخصوص الشركات الحكومية والعابرة للقوميات، لكنَّ الأوان قد حان لتغيير الوضع وليكون القانون الدولي أداة لإنصاف المهجرين الضعفاء. ومع ذلك، نادراً ما يتاح للمهجَّرين الإجراء القانوني ذاته المتاح لما سواهم، فهناك عقبات منها قلة عدد المحامين الدوليين الذين هم على اتصال بالمهجَّرين، أمَّا جهات الإغاثة الإنسانية التي تحتك بالمهجَّرين فقد ترى في اللجوء إلى الطرق القانونية للمساءلة عقبة أمام قدراتها في توفير المساعدات لمن هم بأمس الحاجة إليها. وهناك خوف أخر في أن يتسبب تدخل المحامين بزيادة الوضع المعقد تعقيداً وسوءاً.

قد يكون للفاعلين الإنمائيين اعتراض مختلف على تدخل المحامين الدوليين في قضايا الاعتداءات على السكن والأراضي والعقارات فجلُّ تركيزهم إنماء القدرات المؤسسية لدولة ما وللفاعلين المعنيين بغية تنفيذ مشروعات مؤسسية بعيدة الأمد. وهؤلاء الفاعلون يعملون جنباً إلى جنب مع الدولة وقد يكونون غير راغبين في التفكير في قضايا مرفوعة ضد الفاعلين من الدول والجهات المرتبطة بها على أساس أن ذلك سوف يعيق من قدرتها على تنفيذ عملها الإنمائي. إلا أنَّ المهجرين، مع ذلك، لهم الحق في الحصول على جميع الخيارات المتاحة، ثم لهم أن يقرروا طلب رد الاعتبار أو الامتناع عن ذلك.

أين وكيف يمكن مساءلة مرتكبي جرائم الاعتداء على حقوق السكن والأراضي والعقارات؟

هناك طرق إبداعية يمكن من خلالها استخدام الإجراء القانوني في التصدي للظلم الذي يلحق بالمهجَّرين في الدول الهشة. وقد تتراوح تلك الطرق من التقاضي المدني والإداري في المحاكم المحلية واستخدام المحاكم الإقليمية كالمحكمة الإفريقية لحقوق الإنسان والشعوب إلى استخدام الملاحقة الجنائية باستخدام سلطات الاختصاص القضائية العالمية في المحاكم الأجنبية. وبما أنَّ الجناة في البلدان الهشَّة قد يحملون جنسيتين وجوازات سفر أوروبية فهذا يعني إمكانية مساءلتهم ضمن سلطة الاختصاص القضائية الأوروبية.

تقدم حالة مصادرة الحكومة للأراضي في جنوب السودان وأفغانستان وجمهورية الكونغو الديمقراطية أمثلة جيدة عن كيفية مساعدة التقاضي الدولي للمهجرين محلياً ولضحايا انتهاكات حقوق السكن والأراضي والعقارات. ففي كل حالة، صادرت الدولة الأرض وأجَّرتها للشركات العابرة للقوميات أو للكيانات التي تمتلكها دول أخرى مثل الصين والسعودية، وكانت الغاية من مصادرة الأراضي استخلاص الموارد وإقامة المشروعات الزراعية عليها دون استشارة المحليين أو تعويضهم. وكانت النتيجة التهجير القسري للأشخاص الذين كانوا يعتاشون منها.

وفي الدول الثلاثة المذكورة آنفاً، لا يوجد كثير من اللوائح الناظمة لاستخدام الأرض ولا لتحديد الحد الأدنى للعوائد للدولة على شكل أتاوات وضرائب مع أنَّه كانت هناك في العادة مكاسب شخصية كبيرة للمسؤولين الحكوميين. وكذلك شركات التعدين وغيرها من شركات استخراج الموارد الطبيعية تنتهز ضعف الحكم في البلاد لاستغلال الموارد الطبيعية دون الاضطرار للامتثال للوائح الأكثر صرامة التي يفرضها الحكم القوي. وحتى لو كان هناك قوانين تحد من أفعال شركات التعدين، فلن تنصاع تلك الشركات لها.

قد تمثل إحدى طرق التصدي لتلك الانتهاجات في استهداف شركات النشاطات الزراعية والتعدين والزيوت في بلدانها الأصلية. فعلى سبيل المثال، يجب الإعلام ما أمكن عن جميع عقود تلك الشركات مع حكومة جنوب السودان ويجب تذكيرها فيما إذا كانت قد وقّعت على مدونات اختيارية مثل مبادئ خط الاستواء لعام 2003. [i] والحكمة من ذلك أنَّ الشركات العابرة للقوميات التي تعتمد على سمعتها الحسنة في استقطاب الزبائن قد تخشى الأثر الذي قد يقع عليها فيما لو أقيمت دعوى عليها في القضاء العابر للقوميات أو فيما يمكن تسميته محكمة الرأي العام. ومن خلال المناورات المبدئية التي توحي لتلك الشركات أن ثمة إجراء قضائي على وشك أن يلحق بها، يمكن فرض المساءلة على الجهات التنظيمية بتذكيرها أنَّ الجمهور العام يتوقع منها أن تفرض على الشركات احترام معايير السلوك المقبولة دولياً. [ii]

تمثل درجة سيادة القانون في الدولة الهشة قضية رئيسية في تحديد الأهداف التي يمكن تحقيقها من خلال التقاضي المتاح بالإضافة إلى تحديد القضايا التي ينبغي التعامل معها من خلال التقاضي الدولي. فضعف سيادة القانون في دول مثل جمهورية الكونغو الديمقراطية تجعل التقاضي المحلي أمراً خطراً ومع ذلك لا يجب استثناء اتباع ذلك المنحى على أنه استراتيجية. فهناك مكاسب يمكن تحقيقها بتحدي الدولة باستخدام مؤسساتها الرسمية بل ربما على وجه الخصوص يمكن تحقيق تلك المكاسب في البلدان التي يعمها الفساد والبطالة.

وبالقدر نفسه، قد يكون من الممكن الاستعانة بالاتفاقيات الإقليمية في تحدي الدول الأوروبية أو عناصر الدولة الذين صادروا الأراضي دون وجه حق في الدول الهشة، فقد تبينَّ، على سبيل المثال، أنَّ الاتفاقية الأوروبية حول حقوق الإنسان قابلة للتطبيق على الأفعال التي يرتكبها الجنود البريطانيون في مدينة البصرة (العراق) حيث كانت القوات البريطانية تمارس بعض الصلاحيات التي تقع في العادة ضمن نطاق سلطات الحكومة ذات السيادة. ومن هنا، يمكن تطبيق هذه الاتفاقية عندما تمارس عناصر دولة عضو في الاتفاقية سلطاتها وسيطرتها ضمن أقاليم دولة أخرى حيث تمارس تلك الدولة العضو بعض الصلاحيات الحكومي، ومثال ذلك احتمال حدوث حالات لمصادرة الأراضي في أفغانستان، ففي مثل تلك الحالات يمكن تطبيق أحكام تلك الاتفاقية.

نستطيع أن نتعلم أيضاً من التقاضي الإبداعي والأحكام المبدعة الصادرة عن المحاكم الإقليمية الأخرى في الدول غير الهشة ويجب الاستنارة بضوئها في إطلاق إجراءات جديدة في الدول الهشة لأن ذلك سيفيد في توفير النَّفاذ إلى تحقيق العدالة والحماية للمهجَّرين.

ففي بوتسوانا، على سبيل المثال، اُجبرت قبائل "سان" على مغادرة أراضيهم وإعادة التوطين في المخيمات، فأقيمت الدعوى بنجاح أمام محكمة محلية والمفوضية الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب، وكلا المحكمتين أصدرتا أحكامهما لمصلحة قبائل "سان" ووجدت تلك الأحكام سبيل التنفيذ على أرض الواقع. وفي باناما، رُفعت قضية حول تهجير الشعوب القبلية إثر تشييد سد بايانو أمام مفوضية البلدان الأمريكية لحقوق الإنسان ويُؤمل من حكم تلك المفوضية أن يمنح الأمل في إنشاء حجج جديدة بخصوص حقوق ممتلكات الشعوب المهجَّرة والأصلية.

وربما يمكن أيضاً التعامل مع تأثير الفاعلين الخارجيين على الدول الهشة من خلال قضايا التقاضي حول مساءلة المانحين وفعالية المساعدات المقدمة. فسد بيرغاو في ماليزيا على سبيل المثال، وهو من السدود الكبيرة والمكلفة، حصل على تمويله من المملكة المتحدة، أي من دافعي الضرائب البريطانيين بهدف ضمان صفقة رئيسية للأسلحة. وفي هذا المثال، صدر قرار محوري بأنَّ المساعدات البريطانية لبناء ذلك السد غير مشروعة.

وقد يكون من الممكن أيضاً مساءلة دول ثالثة على خلفية انتهاكاتها للقانون الدولي في دول هشة، والحجة التي يمكن ذكرها هي أنَّ الدول الثالثة قد وقعت وصدَّقت على اتفاقيات جنيف التي تلقي عليها التزامات إيجابية بمنع انتهاك القانون الدولي. كما أنّ تلك الاتفاقيات تفرض من شروطها (على شكل التزامات سلبية) الامتناع عن دعم أي دولة أخرى في استمرارها في انتهاك القانون الدولي. وقد دخل ذلك الالتزام حيز التنفيذ في القانون الدولي العرفي كما نصت عليه إرشادات اللجنة الدولية للصليب الأحمر حول القانون الإنساني الدولي (القاعدة 144) ونظام لجنة القانون الدولية حول مسؤولية الدول الثالثة (المادتان 16 و41) وقرارات محكمة العدل العليا. وهذا ما يقودنا إلى استنتاج إمكانية إجراء التقاضي محلياً في الدول الثالثة لضمان امتثال الدولة المعنية بالتزاماتها القانونية باتخاذ الإجراء اللازمة ذد أي دولة تنتهك حقوق المهجَّرين بموجب اتفاقيات جنيف.

التقاضي الاستراتيجي ليس مجرد أداة الملاذ الأخير، وليس جمهورها في الغالب مجرد محكمة. فالتقاضي وفقاً للالتزامات المفروضة بالقانون الإنساني الولي ضد الدول الأخرى بهدف وقف انتهاكاتها أو وقف دعمها للانتهاكات قد يكون مفيداً حتى في الحالات التي تقرر فيها المحكمة أنها لا تملك سلطة الاختصاص القضائي في الفصل في القضية. فالتقاضي بهذا الطريقة قد يسلط الضوء على حقائق مهمة كما الحال بشأن الآثار الصحية لاعتداء القوات البريطانية والأريكية على مدينة الفلوجة العراقية عام 2004. فمن خلال التقاضي، حصل الناس على الوثائق التي مكنتهم من تلقي الرعاية الطبية المباشرة حتى بعد أن رُدَّت القضية التي رفعوها في القضاء.

الخطوات القادمة؟

لقد حان الوقت لإرسال إشارة قوية إلى الدول والمنظمات الدولية والشركات العابرة للقوميات والفاعلين من غير الدول بأنَّ الإفلات من العقاب من الجرائم المرتبكة على الأراضي والمنازل لن يُسمح بها بعد الآن وأنَّهم جميعاً سيخضعون للمساءلة إزاء جميع تصرفاتهم حتى في الدول الهشة.

ويمكِّن تقاضي الأثر الإبداعي للحصول على رد الاعتبار إزاء الانتهاكات الواقعة على حقوق الإنسان، وعندها يمكن مساعدة المهجرين على العودة إلى منازلهم بل يمكن منع تهجيرهم أصلاً. كما يمكن استخدام التقاضي على أنه أداة لتوفير الحماية مهما ضعفت سيادة القانون. وفي حالة انعدام المحاكم المحلية، ينبغي توجيه الجهود إلى المحاكم في الخارج. فقيمة التقاضي لا تكمن "فحسب" في فرصة كسب القضية بل تتمثل أولاً وآخرا في التقاضي بحد ذاته.

ليس ثمة تقاض خال من المخاطر لكنَّ المعاهدات الدولية تمنح كل شخص انتهكت حقوقه حق المحاكمة العادلة أمام محكمة محايدة. وهذا الحق هو ما يجب علينا جميعاً أن ندافع عنه.

 

أنتونيا مولفي mulvey@legalactionworldwide.org المديرة التنفيذية لمنظمة العمل القانوني العالمية www.legalctionworldwide.org[iii]

وباحثة زائرة في كلية القانون في جامعة كولومبيا.



[ii] انظر أيضاً "احم واحترم وأنصف" إطار عمل للأعمال وحقوق الإنسان

 (Protect, Respect and Remedy’ Framework for Business and Human Rights)

 http://tinyurl.com/UN-BusinessHRFramework

[iii] منظمة العمل القانوني العالمية شبكة من محامين ومستشارين بارزين في مجال حقوق الإنسان يقدمون المساعدات القانونية المبدعة للفئات الأقل تمثيلاً في الدول الهشة والمتأثرة بالنزاع.

 

إخلاء مسؤولية

جميع الآراء الواردة في نشرة الهجرة القسرية لا تعكس بالضرورة آراء المحررين ولا آراء مركز دراسات اللاجئين أو جامعة أكسفورد.