قضية كوريا الشمالية المثيرة للفضول

النزوح والهجرة من الأوضاع الصعبة داخل كوريا الشمالية وخارجها قد يعدَّان مؤشراً على هشاشة الدولة، لكنَّ انخفاض أعداد النازحين والمهجَّرين لا يجب أن يُؤخذ بالضرورة على أنه دليل على تحسن الظروف هناك. بل في الواقع قد يكون ارتفاع موجة الهجرة والنزوح مؤشراً إيجابياً إذا ما صاحبه ارتفاع في مستوى الحماية المقدم للاجئين وللناجين من الإتجار بالبشر والأطفال معدومي الجنسي وغيرهم من الفئات المستضعفة من البشر.

في عام 2011صنَّف مؤشر الدول المخفقة لدى صندوق السلام جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية (كوريا الشمالية) على أنَّها الدولة الثانية والعشرين من أصل 177 دولة وبدرجة 95.5 على مقياس مدرَّج تمثل الدرجة 120 فيه الدولة الأكثر إخفاقاً. ومع تدني هذا الترتيب فهو حقيقةً يُعدُّ تحسناً عن الترتيبات السابقة التي منحها المؤشر لجمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية، بل كانت تلك المرة الأولى التي تنزل فيها جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية عن الدول العشرين الأكثر إخفاقاً في العالم منذ إطلاق المؤشر عام 2005. لكنَّ هذا التحسن لم يكن ناتجاً أبداً عن تعزيز شرعية الدولة وهو مؤشر منح كوريا الشمالية الدرجة 9.9 من أصل 10 (10= الأسوأ في العالم)  ولا عن تحسن سجل الدولة في حقوق الإنسان (9.5 من أصل 10). "فالتحسينات" إن جاز التعبير لوحظت في مؤشرات "اللاجئين والنازحين" و"الأزمة الإنسانية" حيث صُنِّفت كوريا الشمالية على أنها من بين الدول ذات السجل "المعتدل" في هذا المجال.

قد يكون إحصاء أعداد اللاجئين والنازحين الكوريين الشماليين أمراً صعباً للغاية، لكن خلافاً لما عليه الحال بالنسبة لهشاشة الدولة الكورية الشمالية، لا يجوز التعويل على الأرقام وحدها في تحديد مدى تحسن أوضاعهم أو تدهورها. فالواقع المادي والجيوسياسي لكوريا الشمالية يحدده في الداخل نظام حكمٍ يميل إلى فرض الرقابة على الهجرتين الداخلية والخارجية، في حين يحدده في الخارج دولتان هما: الصين في الشمال التي تسعى إلى كبح الحركة عبر الحدود ورفض حماية اللاجئين لمن يفروا من كوريا الشمالية، وكوريا الجنوبية في الجنوب التي تبدي الحيطة والحذر في التزاماتها وتسعى للموازنة بين رغبتها بالمساعدة في رفع المعاناة عن مواطني الشمال الذين تعدهم أشقاء لمواطنيها من جهة وخوفها من تدفق أفواج الفارين من كوريا الشمالية إلى درجة خطرة تتسبب بزعزعة الاستقرار. والنتيجة ظهور حالة مثيرة للفضول تجعل من غير الممكن استخدام التدابير الاعتيادية للتعامل مع أفواج المهاجرين في الداخل وإلى الخارج على أنَّها مؤشرات على ارتفاع درجة الهشاشة أو انخفاض النزعة الطبيعية. وفي كوريا الشمالية، لا بد عند البحث عن تفسير لمعاني التهجير والنزوح الانتباه إلى أنَّ مشكلة غياب الشيء لا يعني بالضرورة غياب المشكلة.

تشير البيانات الإحصائية والوثائق الرسمية من جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية إلى محدودية الحركة الداخلية والدولية لمواطنيها ، لكنَّ الصورة غير الرسمية تشير إلى العكس تماماً وإلى أنَّ هناك حركة تنقل كبيرة جداً معظمها يحدث دون الحصول على أذونات رسمية. فقد أشارت دراسة أجريت في العامين 1998-1999 وضمت 3000 لاجئ ومهاجر كوري شمالي في الصين إلى أنَّ صافي معدل الهجرة كان 18.7% وأنَّ معظم النزوح الداخلي كان "هجرة الفرار من الأوضاع الصعبة". وفي الواقع، فإنَّ الدراسة قد غطت فعلياً العامين 1996 و1997 أيضاً لأنَّ جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية عانت وقتها من المجاعة وتعرضت إلى سوء التغذية الحاد  وارتفاع في الأمراض المعدية وتفاقم حاد في معدل الوفيات بين جميع الفئات العمرية. وفي تلك الدراسة، قال أكثر من 30% من عناصرها إنَّ السبب الرئيسي الذي دعاهم للخروج من بيوتهم كان "بحثاً عن الطعام". أمَّا الأطفال النازحون جرَّاء المجاعة والمصاعب الاقتصادية  فقد وُضعوا فيما يسمى "بمراكز 9/27" (التي اتخذت هذا الاسم من تاريخ تأسيسها بموجب مرسوم حكومي أمر بمساعدة "الهائمون على وجوههم بحثاً عن الطعام.")

وقد حدث النُّزوح ضمن إقليم دولة أظهرت منذ أمد بعيد عدم احترامها لحقوق الإنسان وفي وقت لا تمتلك فيها وكالات الإغاثة الإنسانية المعنية الحالية أي تفويض واضح (أو أي أسلوب) للتعامل مع تلك المخاوف. فالكوارث الطبيعية يبدو أنَّها الوحيدة التي يُسمح بمناقشتها علناً.

الهجرة الدولية

يعود تاريخ هجرة الكوريين إلى المنطقة الشمالية-الشرقية من الصين إلى ما لا يقل عن العقد الأول من القرن التاسع عشر. لكنَّ الحركات الأحدث تاريخاً عبر الحدود في تسعينيات القرن العشرين لكنَّها لم تبلغ ذروتها قبل عام 1998. ومنذ ذلك الحين والكوريون الشماليون يعبرون الحدود إلى الصين فراراً من نقص الغذاء والمصاعب الاقتصادية وبطش الدولة وسطوتها في بلدهم. وقد غادر معظم الكوريون الشماليون بلادهم دون أي وثائق للسفر ولا أذونات بذلك. وعليه وبما أنَّ جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية لا تتسامح مع ذلك الأمر فقد اعتبر من يسعى لتقديم الحماية لهؤلاء الكوريين الشماليين على أنهم من اللاجئين وطالبي اللجوء.  وعلى النقيض من ذلك، فإنَّ كلاً من حكومة الصين وكوريا الشمالية تسمهم على أنَّهم مهاجرين غير شرعيين.

لقد عملنا ما بين 1999 و2008 مع الشركاء المحليين والدوليين على رصد تحركات الكوريين الشماليين العابرين الحدود إلى الصين. وقد تميزت النزعات الرئيسية عبر تلك السنوات بوصول التحركات إلى ذروتها الموسمية الواضحة خلال أشهر الشتاء حين يشحُّ الغذاء والوقود في كوريا الشمالية وانخفاض القبضة الأمنية إلى حد ما على طرفي الحدود. وعلى العموم، هناك انخفاض كبير (قرابة عشرة أضعاف) في عدد الوافدين إلى الصين خلال السنوات ما بين 1998-2008.

ومن الواضح إلى درجة ما أنَّه كان هناك انخفاض حاد وجذري في عدد الكوريين الشماليين الموجودين في المنطقة الشمالية-الشرقية للصين حيث انخفض العدد من 75000 من اللاجئين والمهاجرين في عام 1998 إلى قرابة 10000 مع حلول عام 2009. لكنَّ هذا الانخفاض لا يجوز عزوه إلى تحسن الظروف المعيشية في كوريا الشمالية، فلأكثر من عقد بعد المجاعة، استمر الكوريون الشماليون يعيشون المصاعب الاقتصادية وضنك الحياة مع استمرار انتهاك حقوق الإنسان وتدهور الأمن الغذائي المزمن وتضاؤل القوة الاقتصادية وظهور الكوارث الطبيعية من حين لآخر. ولذلك، فإنَّ انخفاض أعداد اللاجئين يُعزى أساساً إلى إحكام السيطرة على الحدود وارتفاع الهجرة إلى كوريا الجنوبية وغيرها من البلدان وارتفاع في الوعي بين الناس بشأن محدودية الحماية وفرص كسب الرزق في الصين. وفي حين أنَّ الصين طرف موقّع على اتفاقية اللاجئين لعام 1951، فهي لم تُدخل أحكام الاتفاقية في تشريعاتها الوطنية بل حتى سياساتها لا تقر بحق الكوريين الشماليين بالحصول على حماية اللجوء لا بموجب القانون الوطني ولا القانون الدولي.

وازدادت القبضة الأمنية شدة على الحدود من كلا الجانبين خلال المرحلة الانتقالية بعد وفاة الرئيس الكوري الشمالي كيم يانغ-إل في ديسمبر/كانون الأول 2011، وساهم ذلك في تخفيض أعداد الوافدين عبر الحدود تخفيضاً كبيراً جداً واستمر الحال كذلك لعدة أشهر في عام 2012، فلم يزد عدد الداخلين من كوريا الشمالية إلى الصين على 1500 في عام 201 مقارنة بـ 2700 في العام الذي سبقه.ومنذ أن بدأت تحركات الكوريين الشماليين بجدية نحو الجنوب في 2002، بلغ عدد الكوريين الشماليين المستوطنين في كوريا الجنوبية 24500. وكان من الجائز اعتبار ذلك العدد إشارة على تحسن العلاقات الكورية الشمالية-الجنوبية وباستثناء التدفق الكبير الجماعي إبان الحرب أو الكارثة الطبيعية أو انهيار النظام وربما كان ذلك تحسناً في الظروف في كوريا الشمالية فيما لو كان هناك ارتفاع أيضاً في عدد الكوريين الشماليين المتدفقين على كوريا الجنوبية وعلى الدول الأخرى.

الخلاصات والتوصيات

إنَّ انخفاض أعداد اللاجئين والمهاجرين وطالبي اللجوء الكوريين الشماليين في الصين لا يمكن تفسيره على أنَّه إشارة على تحسن الظروف في جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية بل إنه في أفضل الأحوال دليل على تقييد خيارات الهجرة وفي أسوء الأحوال دليل على جهود حثيثة تبذلها الدولتان في قمع حرية مغادرة المرء لبلده والسعي للحصول على اللجوء والتمتع به في دولة أخرى. والمعدلات المتزايدة للنساء من بين الكوريين الشماليين الباقين وارتفاع أعداد الأطفال المولودين لهاتين النسوة المتزوجات من صينيين أو غيرهم تشير إلى ضرورة توسيع نطاق تركيز الحماية على الكوريين النازحين بحيث يمكن إدخال التدابير اللازمة لحمايتهم من الإتجار بالبشر وترويج الحلول الناجعة للأطفال معدومي الجنسية.

لقد أعلنت مفوضية الأمم المتحدة السامية للاجئين جميع الكوريين الشماليين في الصين على أنَّهم "أشخاص يُقلق عليهم" مع أنَّ الصين لا تعترف بصحة مطالب الكوريين الشماليين للجوء. وبالفعل، أكدَّ أحد المسؤولين الصينيين في مارس/آذار 2012 على أنَّ: "الكوريين الشماليين ليسوا لاجئين بل إنَّهم قد دخلوا الصين بصورة غير شرعية لأسباب اقتصادية....والصين تعارض محاولة تسييس موضوعهم أو تدويله."

وربما تُشجَّع كوريا الشمالية على إطلاق شيء من قبيل برنامج المغادرة المنظمة على غرار البرامج متعددة الأطراف التي بدأت في فيتنام عام 1979 والتي هدفت السماح لأفواج السكان الراغبين بمغادرة البلاد بسلامة وبنظام. بل سيكون من ذلك من مصلحة كوريا الشمالية أن تسمح للأسر التي لديها دوافع لم الشمل أو التي تسعى إلى فرص اقتصادية أكثر أو التي تسعى لمجرد البقاء، وذلك دون تعريض أي منهم لخطر معاقبتهم أو معاقبة أفراد أسرهم الذين خلَّفوهم وراءهم.

وإذا ما اتُّبع أي منهج علمي مثمر للتعامل مع قضية الهجرة الكورية الشمالية، فيجب أن يبدأ ذلك المنهج بتأطير فهم حول التحركات السكانية ضمن البلاد وخارجها بحيث لا يُنظر إليها على أنها مجرد تهديد للاستقرار. فهجرة الكوريين الشماليين في العقدين الأخيرين المنصرمين أظهرت عدداً متنوعاً مختلطاً من الدوافع منها البحث عن الغذاء والرعاية الصحية والمأوى واللجوء وتكوين العائلة ولم الشمل وفرص العمل/كسب الرزق وغيرها. لكنَّ المشكلة تتمثل في أنَّ نقاش هذه الهجرة إضافة إلى خيارات السياسات/البرامج سواء أكانت متاحة أم لا يكاد يتحدد حصراً بمسألة تحديد ما إذا كان هؤلاء الأشخاص لاجئين أم غير لاجئين.

 

كورتلاند روبنسون crobinso@jhsph.edu عضو رئيسي في الهيئة التعليمية في مركز الاستجابة للاجئين والكوارث في كليلة جونز هوبكنز بلومبيرغ للصحة العامة   www.jhsph.edu

إخلاء مسؤولية

جميع الآراء الواردة في نشرة الهجرة القسرية لا تعكس بالضرورة آراء المحررين ولا آراء مركز دراسات اللاجئين أو جامعة أكسفورد.