رفض إعادة التوطين: حالة الفلسطينيين

غالباً ما كان رفض دعوى إعادة توطين الفلسطينيين مدفوعاً بمخاوف سياسية وتوضح دراسة الحالة هذه أهمية إشراك اللاجئين مباشرة عند وضع حلول دائمة.

على مدى أكثر من سبعة عقود من التَّهجير واسع النطاق، كان مما اتفق عليه الفلسطينيون اتفاقاً جماعياً معارضتهم الثابتة لإعادة التوطين كحل دائم لأزمتهم. فقد رفضت القواعد الشعبية ومن ثمَّ منظمة التحرير الفلسطينية أي اقتراح بإعادة التوطين في بلد ثالث على أساس أنَّ ذلك الحل سيقوِّض حقوق الفلسطينيين السياسية والوطنية كشعب، ورفضت كذلك الاندماج في المشابهة الدول المضيفة.

حق العودة

يُفسَّر اعتراض اللاجئين الفلسطينيين المحموم على إعادة التوطين بتمسكهم الكبير بحق العودة الذي كان وما زال من أهم المبادئ المحورية للحركة الوطنية الفلسطينية منذ عام 1948 عندما غادر كثير من اللاجئين الفلسطينيين ديارهم معتقدين أنَّهم سيعودون إليها قريباً، ونتيجة لذلك الاعتقاد، لم يأخذوا معهم إلاَّ قليلاُ من مقتنياتهم. ومع أنَّ الأحداث على أرض الواقع قضت تماماً على هذه الخطط المباشرة، لم يفقد الفلسطينيون الأمل في احتمالية عودتهم في المستقبل. بل على العكس من ذلك، ظلت رغبة الفلسطينيين في العودة قوية مستندةً في ذلك إلى تأييد الأمم المتحدة الرسمي لحق العودة من خلال القرار 194. وتعالت الأصوات المنادية بتفعيل هذا الحق الذي أصبح محور الخطاب السياسي الفلسطيني، وما زال القرار 194 الصيحة الشعبية الفعالة التي تنادي بها أصوات الفلسطينيين اليوم. وأثارت تصريحات الرئيس الفلسطيني محمود عباس في 2012 غضب الفلسطينيين في الشتات عندما قال إنَّه على استعداد للتخلي عن حقه في العودة إلى مدينة صفد مسقط رأسه.

وينبغي أن تُفهَم معارضة الفلسطينيين لإعادة التوطين ضمن هذا السياق. فإعادة التوطين كحل دائم يتعارض ضمناً مع حق العودة. ويخشى كثير من اللاجئين الفلسطينيين، لأسباب مُحقَّة في بعض الأحيان، من وجود دوافع سياسية وراء خطط إعادة التوطين أو من أن تكون قد وُضِعَت خصيصاً لتقويض قضيتهم السياسية ’بحلها‘ نهائياً وإلى الأبد. وهكذا لم يُنظَرْ أبداً إلى إعادة التوطين على أنَّه حلٌ إنسانيٌ خالصٌ لأنّه دائماً ما يكون مصطبغاً بالصبغة السياسية. ورسّخت منظمة التحرير الفلسطينية هذا العداء واسع الانتشار في مؤسساتها إزاء إعادة التوطين وذلك باتخاذ موقف رسمي معارض لأي خطة دولية تسعى إلى إدماج اللاجئين الفلسطينيين في البلد المضيف أو إعادة توطينهم في بلد ثالث.

إخفاق إعادة التوطين

ازدادت مقاومة اللاجئين الفلسطينيين لإعادة التوطين بسبب تصورهم ارتباط إعادة التوطين بمنظومة الأمم المتحدة. فكثير من اللاجئين الفلسطينيين يشكِّكون بنوايا المجتمع الدولي على العموم والأمم المتحدة بصفة خاصة إذ ينظرون إليهما على أنهما ينحازان لإسرائيل. ولم تفلح البرامج التي وضعتها الأمم المتحدة بهدف غير رسمي يتمثل في تسهيل عملية إعادة التوطين فلم تُهدِّئ هذه المخاوف.

وفي العقد الأول بعد عام 1948، ركّزت الأمم المتحدة على محاولة إعادة توطين اللاجئين الفلسطينيين في الدول المضيفة (العربية) أو في بلدان ثالثة (عادةً ما يُتَخَيل أنَّها بلدان عربية أيضاً). وجاء هذا الحل تماشياً مع التفضيل الدولي في الفترة التي تلت الحرب لإعادة التوطين على العودة. وبالإضافة إلى ذلك، بدا أنَّ هذا الحل هو الأنسب للاجئين الفلسطينيين في ضوء رفض إسرائيل تشجيع عودتهم. وكان يُعتَقَد أنَّ عملية إعادة توطين اللاجئين الفلسطينيين في جميع أنحاء العالم العربي ستكون واضحة المعالم ومباشرة لما بينهم من علاقات وروابط لغوية وثقافية مشتركة.

وعلى الصعيد العالمي، كانت الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة تحبذان هذا الخيار وتميلان إليه. واتسم ذلك بأهمية كبيرة لأنَّ الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة كلاهما كانتا المشجعتان والممولتان الرئيسيتان لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونوروا) التي أُسِّسَت في 1949 باعتبارها هيئة متخصصة في الأزمة الفلسطينية. وفي حين كان تركيز هذه الوكالة منصباً في المقام الأول على الإغاثة، بدأت في خمسينيات القرن الماضي تركز أكثر على وضع خطط أوسع نطاقاً لإعادة توطين الفلسطينيين. وتشير كلمة ’تشغيل‘ الواردة في اسم هذه الوكالة إلى أنَّ عملها يتركز في وضع خطط عمل تهدف إلى تسهيل عملية الاندماج المحلي للاجئين والتنمية الاقتصادية. وفي عام 1952، سمحت الجمعية العمومية للأمم المتحدة للأونوروا بتمويل إعادة الدمج لغاية تحقيق الهدف المحدد وهو إعادة دمج اللاجئين الفلسطينيين خارج فلسطين.

لكنَّ هذه الخطط قُوبِلَت بالمعارضة والرفض الشديدين من اللاجئين الفلسطينيين أنفسهم. وعندما انتبه اللاجئون الفلسطينيون إلى أنَّ هذه الخطط تفترض لهم مستقبلاً خارج فلسطين، رفضوا رفضاً قاطعاً الانصياع لهذه الخطط أو المشاركة فيها. وكان تعنتهم هذا إضافةً إلى التكلفة الباهظة المترتبة على تنفيذ خطط الأونروا دافعاً لها للتخلي في نهاية الأمر عن برنامجها مُحوِّلةً تركيزها إلى التعليم وذلك في أواخر خمسينيات القرن الماضي. ومع ذلك، دام تأثير هذه الخطط واستمر أطول بكثير من مدتها، وظلَّ إعادة التوطين المصدر الرئيسي للتوتر والشك في علاقة اللاجئين بالأونوروا. وما ذاك سوى مثال مبكِّر للضرر الدائم الذي يمكن أن يحدث عندما يخفق التخطيط الإنساني في منح توقعات اللاجئين الاهتمام الكافي.

ولأسباب مشابهة، قاوم اللاجئون الفلسطينيون أيضاً جهود الأونوروا المبذولة في مجال تطوير مخيماتهم وتحقيق الاستقرار في البنية التحتية فيها في الخمسينيات ففي نظر اللاجئين أنفسهم، لا تمثل هذه التحركات سوى جزءاً آخر من الخطة نفسها لإعادة توطينهم خارج فلسطين دائماً وأبداً. ورداً على ذلك، اقتلع اللاجئون الأشجار التي زرعتها الأونوروا، وكتبوا على جدران المباني شعارات ضد إعادة التوطين بالرذاذ الأحمر، وتظاهروا، وأعلنوا الإضرابات. ونظراً لأنَّ معارضة اللاجئين لإعادة التوطين كانت شديدة جداً، لم تستطع الأونوروا تنفيذ خططها، وهذا مثال آخر للمشكلات الناجمة عن عدم إشراك اللاجئين أنفسهم بالدرجة الكافية.

ولم يكن عداء اللاجئين الفلسطينيين السبب الوحيد إزاء عدم تنفيذ إعادة التوطين أو السعي بجدية لتنفيذه، بل كانت هناك عقبة كبيرة جداً وهي معارضة الدول العربية سواء تلك التي تستضيف أعداداً هائلة من اللاجئين الفلسطينيين أم تلك التي تُستهدَف لخطط إعادة التوطين فيها كبلد ثالث. وربما باستثناء الأردن، كانت هذه الحكومات تخشى أن يجبرها إعادة التوطين ويرغمها على قبول أعداد كبيرة من اللاجئين وتجنيسهم. وكثيراً ما تحدثت الدول العربية في محافل الأمم المتحدة حول إعادة توطين الفلسطينيين وأعربت عن استيائها لذلك، وطالبت بالعودة بدلاً من إعادة التوطين كحل ملائم ومقبول. وبدون دعم العرب، لن يكون هناك فرصة كبيرة لإنجاح إعادة التوطين. وفي عام 1987 ذكر جورجيو جياكوميللي المفوِّض العام للأونوروا إنَّه رغم أنَّ الوكالة قد وضعت هدفاً في مخيلتها وهو تسهيل إعادة التوطين، جعلت العوامل المالية والسياسية تحقيق ذلك الحل مستحيلاً.[i]

إعادة التوطين الفردي

ارضت منظمة التحرير الفلسطينية بشدة إعادة التوطين مُصِرَّةً على أنَّ المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين لم تتبنَ هذا الخيار لمصلحة الفلسطينيين. وتستند منظمة التحرير الفلسطينية في معارضتها لإعادة التوطين إلى مخاوف من أنَّ إعادة التوطين ستفتت الشتات الفلسطيني وتقوض حقوقهم الوطنية الجماعية كشعب. وبحسم شديد، طلبت منظمة التحرير الفلسطينية من فرادى الفلسطينيين الامتناع عن التقدم بطلبات اللجوء في الغرب خوفاً من أنَّ أياً من هذه التحركات قد تمكن من الالتفاف على حق العودة بإعادة التوطين ’من الباب الخلفي‘.

ومع ذلك، سعى كثير من الفلسطينيين الفرديين بنجاح للحصول على إعادة التوطين في بلد ثالث، والحصول على الجنسية في بلاد مثل: أوروبا، وأمريكا الشمالية، وأمريكا اللاتينية. وفي معظم الحالات التي تقدم فيها الفلسطينيون بطلبات للجوء، ما زالوا يُعَرَّفون على أنَّهم لاجئون فلسطينيون وما زالوا يفضلون العودة كحل طويل الأمد للشعب الفلسطيني المنفي.

كما تلقت الهجرة إلى دول الغرب الدعم القانوني وذلك في عام 2012 من حكم قضائي صدر عن محكمة العدل الأوروبية التي استطاعت إيجاد سابقة قانونية يستند إليها الفلسطينيون في التقدم بطلبات اللجوء في أوروبا.[ii]وحسبما قيل، تراجعت منظمة التحرير الفلسطينية عن موقفها بشأن إعادة التوطين الفردي معترفةً أنَّ ذلك لا يتعارض بالضرورة مع حقوق العودة الجماعية.

اخذت قضية إعادة التوطين الفردي مدلولاً جديداً في سياق الأزمة السورية. فقد قدمت سوريا على مدار التاريخ بعضاً من أفضل الظروف والاستحقاقات للاجئين الفلسطينيين في العالم العربي، لكنَّ الوضع انقلب رأساً على عقب بسبب الحرب الحالية. فمنذ عام 2011، فرَّ أكثر من 100 ألف فلسطيني من ديارهم في سوريا ليصبحوا لاجئين للمرة الثانية. وبما أنَّ الأردن ولبنان كانتا من أوائل الدول التي أوصدت أبوابها أمام الفلسطينيين المُهجَّرين من سوريا، تطلَّع بعضهم للجوء في أوروبا.

وعلى العموم، ألقت أزمة الفلسطينيين الفارِّين من سوريا الضوء على بعض المشكلات طويلة الأمد التي تواجه اللاجئين الفلسطينيين الفارين منها. وقد أثَّر ارتباطهم بالأونوروا وليس بمفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين سلباً عليهم ووضعهم في وضع لا يُحسَدون عليه إذ جعلهم غير مؤهلين للاستفادة من برامج إعادة التوطين التي تنظمها المفوضية على نطاق واسع. وبدلاً من ذلك، كان عليهم أن يتقدموا بطلبات لجوء فردية، وغالباً كانوا لا يُعرَّفون على أنهم لاجئون سياسيون أو حتى معدومي الجنسية. ويعني ضعف الفلسطينيين القانوني أنَّهم قد يُحرَمون من الحماية التي تُمنَح للاجئين الآخرين بما في ذلك ما يخص إعادة التوطين.

الخلاصة

يُعَدُّ وضع اللاجئين الفلسطينيين وضعاً استثنائياً في كل الأحوال إذ تنفرد قضيتهم بطول تهجيرهم واتساع نطاقها ومأسستها. ومع ذلك، يمكن لوضعهم هذا أن يقدم لنا دروساً قيّمة لا سيما عندما يتعلق الأمر بإعادة التوطين.

وي حالة الفلسطينيين، لم يخفق حل إعادة التوطين فحسب بل لم يُنفَذّ أصلاً. وفي حين أنَّ معارضة اللاجئين الشديدة لإعادة التوطين كانت مدفوعة بمخاوف سياسية، لم تكن الأجواء مواتية بسبب إخفاق عمال الإغاثة الإنسانية الدوليين في التعامل معهم مباشرةً. وكانت النتيجة أن تملَّك اللاجئين الفلسطينيين شعور دائم بعدم الثقة والشك ما أدى إلى توتر علاقات اللاجئين بالأونوروا بصفة خاصة والأمم المتحدة بصفة عامة.

ورجع أسباب الشك الذي ساور كثير من اللاجئين الفلسطينيين نحو إعادة التوطين إلى التداعيات المتصورة من ديمومة الحل. وهذا الشعور الذي يشعر به اللاجئون الفلسطينيون ليس استثنائياً نظراً لأنَّ كثيراً من مجموعات اللاجئين ما زالت تفضل العودة على أي حلول أخرى. وفي نهاية المطاف، إذا كان اللاجئون الفلسطينيون يرغبون في العودة إلى ديارهم، فمن غير المرجَّح كثيراً أن يتبنوا التدابير التي يخشون من أن تكون سبباً في تقويض قدرتهم على عودتهم إلى ديارهم الأصلية. ومن ثَمَّ، يستحق الأمر استكشاف سبل جديدة لإعادة بناء ’الحلول الدائمة الثلاثة‘ من أجل تخفيف حدة هذا الخوف والقلق. وتوضح القضية الفلسطينية أنَّه إذا كان من الممكن وضع وتصميم برنامج لإعادة التوطين من شأنه ألا يؤثر سلباً على إمكانية العودة، فعندئذِ يمكن للفلسطينيين تقبله.

وخلاصة القول، من الجدير ذكره أنَّ المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين نفسها ما زالت تؤيد بشدة العودة الطوعية كحل دائم لجميع اللاجئين، ولا تنظر لإعادة التوطين في بلد ثالث إلا كملاذ أخير بعد استنفاد الحلين الآخرين. وبناءً على هذا، فإنَّ متطلبات الفلسطينيين تتماشى تماماً مع الأمم المتحدة.

 

آن عرفان a.e.irfan@lse.ac.uk

مرشحة لنيل درجة الدكتوراه في قسم التاريخ الدولي، كلية لندن الجامعية للاقتصاد  www.lse.ac.uk



[i] للاطلاع على المقابلة كاملة، انظر مجلة المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، سبتمبر/أيلول 1987.

[ii] نص الحكم الصادر عن محكمة العدل العليا بشأن مصطفى عبد الكريم الكوت وآخرين http://bit.ly/Curia-ElKottArret

 

 

إخلاء مسؤولية

جميع الآراء الواردة في نشرة الهجرة القسرية لا تعكس بالضرورة آراء المحررين ولا آراء مركز دراسات اللاجئين أو جامعة أكسفورد.