التصدّي للتّهريب في البلقان: دروسٌ من السياسات

تُتَّبَعُ اليومَ في العالم، شرقيّه وغربيّه، سياساتٌ في أمن الحدود تقييديّةٌ، واتّباعها محاولةٌ للتصدّي للتهريب، ولكنْ قلّما نُوقِشَ ما يحدث حقّاً عند سنّ هذه السياسات.

سنّ الاتحاد الأوربي، بعد أن صُدِمَ بمَقْدَمِ نحوٍ من مليونِ لاجئٍ ونصف المليون لاجئ بين سنة ٢٠١٤ و٢٠١٥، سلسلةً من السياسات لتأمين حدوده ومنه التّهريب. ومن هذه السياسات عسكرة الحدود البريّة في البلقان، وبناء أسوار ماديّة وغيرها من المُعوّقات، وإطلاق دورياتٍ بحرية شرقيّ البحر المتوسط، وحَجْزَ المُهرّبين. وكان إنفاذُ الأمن على طول طريق العبور في غربيّ البلقان، بين سنة ٢٠١٥ وسنة ٢٠١٧، أحدَ أصعب الأمور في التاريخ المعاصر، اجتمعت عليها جهود متعددة جنسيات باذلِيها، ويُستقى منها دروس مفيدةٌ في آثار مثل هذه السياسات.

وفي خلال تلك المدّة، أَجْرَيتُ دراسةً مشتركة، مدتها عامَين، على الطريق، من البلاد التي يُبتدأُ فيها طلب اللجوء مثل الأردن، والبلاد التي يُعبَر منها إلى غيرها مثل تركيا واليونان وصربيا، إلى البلاد التي يُقصَدُ إليها مثل ألمانيا.[i] وتقدم نتائج هذا البحث دروساً لسياقات أخرى، حيث تحاول مؤسسات الدولة تقييد الحركة عند الحدود ومنع التهريب. ومن ذلك: الجدار الحدودي بين الولايات المتحدة والمكسيك، والعمليات البحريّة الإيطاليّة قُبَالة ساحل ليبيا، وحملات كبح الهجرة في جنوب إفريقيا، وعسكرة الحدود في جنوبيّ آسيا، ومنها الحديد التي بين الهند بنغلاديش.

في الذي يقع على اللاجئين من التأثير

وأكثر من وقع عليهم أثر هذا الإنفاذ المهاجرون، لا المهرّبون الذين استطاعوا أن يحمّلوا عملاءهم اللاجئين ما يتزايد من كلفةٍ وأخطار. مثال ذلك: أنّ المهرّبين كانوا قبل سنة ٢٠١٤ يرافقون اللاجئين بانتظامٍ في عبورهم من ساحل تركيا إلى جزائر اليونان، ويعودون بعدئذٍ إلى تركيا. ولكن بعد أن زاد عليهم خطر الاعتراض والاعتقال سنةَ ٢٠١٤، توقّفوا عن مرافقة اللاجئين، وصاروا يعطونهم حاسوباً لُوَيْحيّاً، أو بوصلة، أو لا يعطونهم شيئاً، وهذا الأكثر، إلاّ إيماءةً إلى جهة ضوءٍ في الأفق يهديهم في عبورٍ يبلغ من طول المسافة ٢٤ كيلومتراً. ولمّا كان المهرّبون يعلمون أن القوارب التي يركبها اللاجئون في عبورهم ستُضْبَطُ وتُتْلَف، ابتدؤوا في استعمال سُفُنٍ لا يُعوَّل عليها، لجعل كلفة أعمالهم أقلّ ما يكون، وصاروا يجعلون السفن مكتظّةً بالرّاكبين اكتظاظاً يجاوز قدرتها، ويزيدون كلفة المقعد على ظهرها. ولكيلا تَكْشُفَ الدوريات البحريّة السفن، صاروا يُسيّرونها ليلاً، وإن كانت حال الطقس سيئة. فأدّت سُبُل التكيُّف هذه إلى عدد عظيم من حالات غرق السفن والناس، وأما المهرّبون فبقوا آمنين في البرّ.

ثم إنّ حُضُورَ الفاعلين في أمن الدولة المتزايدَ –الذين نُقِلَ أكثرهم من إدارات غير ذات صلة، لسدّ الخلل في استيعاب الأمر، فكانت خبرتهم في معاملة اللاجئين أو الأعمال الحدودية قليلة أو معدومة – أدّى إلى عددٍ كبير من حوادث التشويش بين الفاعلين في أمن الدولة، أو إلى عُنْفِ هؤلاء الفاعلين على اللاجئين، ظنّاً منهم أنّهم مهرّبون. مثال ذلك: أنّ المهرّبين كي يتجنّبوا الاعتقال يُعيّنون أحدَ اللاجئين مَلّاحاً، فحين يصل اللاجئون إلى إحدى الجزائر اليونانية، يكثر أن تغلط الشرطة فتقبض على الملّاح اللاجئ ظنّاً منها أنّه مُهرّب. فمن غير تدريبٍ على التفريق بين اللاجئين والمهرّبين، وعلى التمييز بين الجنسيات أو فَهْم القانون الإنساني الدوليّ، كانت الشرطة غير مجهّزةٍ لفهم هذه الأمور، وكثيراً ما أبقت اللاجئين في السجن شهوراً أو أكثر، وهي متردّدةٌ في أمرها، ماذا تفعل؟

ولقد أُخْبِرَ بأنّ الاتّجاه نفسه في تحويل الخطر إلى اللاجئين، مُتّبعٌ في البرّ على طُرُقِ غربيّ البلقان. فقد كان المهرّبون يرافقون اللاجئين، ولكن بعد سنة ٢٠١٤، صاروا يكتفون بتوجيه اللاجئين إلى اتّجاهٍ عام، ويخبرونهم أن يستمرّوا في المشي حتّى يصلوا إلى مدينة يعبرون منها إلى المرحلة التي بعدها. وقد تحدّثنا إلى لاجئين لم يرافقهم المهرّبون مئاتٍ من الكيلومترات في القِفَار، فعانوا الإنفلونزا، وأعراض انخفاض درجة الحرارة في الجسم، وفقدان سائل الجسم، والتسمُّم، ولَسْعَ الحشرات، والتعرُّض للبرد. وكانت أشدّ حوادث تحويل الخطر إلى اللاجئين، هي في أعمال مكافحة التّهريب التي فوضت أمرها الحُكُوماتُ الوطنيّة خفيةً إلى جَمَاعاتٍ شبه عسكرية، لها من السلاح السواطير، والأسلحة الناريّة، والكِلَاب، والمركبات المُكيّفةُ بحسب التضاريس، فكانت هذه الجماعات تعتدي بعُنْفٍ على اللاجئين، الذين إمّا أساءت الفَهْمَ فظنّت أنّهم ’مهاجرون غير شرعيُّون‘ وإما غلطت فظنّتهم مهرّبين.

فاشتدّت الكلفة واحتمال الأخطار كثيراً؛ فارتفع ثمن عبور الفرد حدّاً من الحدود، من بضع مئاتٍ من الدولارات الأمريكية، قبل سنة ٢٠١٤، إلى ١٠ آلافٍ أو أكثرَ بعد سنة ٢٠١٧. ومع ثوران هذه الكلفة، أصبح التّهريب ضرباً من الكماليّات، سبيله غير مفتوحٍ إلاّ لأثرى اللاجئين وأوثقهم صلةً بذوي الجاه. وأُنشِئَت حزم تهريبٍ غالية الثمن متقنة، مثل التهريب الذي تستعمل فيه يَخْتٌ وطاقمه، فيحاكي المهرّبون بذلك رحلة بحرية فخمة ليتجنّبوا أن تكشف الدوريات البحرية أمرهم عمد بحثها عن الزوارق الرخيصة، المنفوخة، الصلبة الجرم. ومن الخيارات الأخرى الغالية الثمن جوازات السفر المزورة وبطاقات ركوب الطائرة، والتدريب على انتحال الهوية المزيفة.

ولمّا كان آخر سنة ٢٠١٧، بدأت كلفة التهريب وأخطاره تزيد على ما يقدر على تحمّله أكثر اللاجئين، فقلّ انتشار التهريب في البلقان من حيث الأعداد المطلقة. وبعد أن تفادى المهرّبون الأخطار الحقيقية، وجد أكثرهم بيُسْرٍ عملاً آخر، أن يعيشوا على ما ادّخروه وهم يدخلون في المدن الواقعة على طريق التهريب، فيعملون جزئيّاً في أعمال البناء، أو الخياطة، أو الحلاقة، أو التجارة، أو الإقراض، ومع ذلك يحاولون أن يقتربوا من القادمين الجدد فيعرضوا عليهم العبور إلى اليونان بثمنٍ مناسب. فبقيت شبكات التهريب هذه في أكثرها خاملةً، حتّى نشأت ضغوط جديدة جعلت أخطار السفر أقل من أخطار البقاء في بلد اللجوء الأول. مثال ذلك: أنّ مئاتٍ من الكُرْد السوريِّين يظهرون كل أسبوع في مدن يونانية من أثينا إلى ثيسالونيكي، وذلك بسبب قمع تركيا الأكرادَ.

الآثار الواقعة على مَنْ يُعِيْنُ اللاجئين مِنَ المواطنين

ثم إنّ مؤسسات الدولة تكافح للوصول إلى المهرّبين المُرَاوغين المُتكيّفين بحسب الحال، وهي أيضاً تستهدف المنظمات غير الحكومية في ميدان العمل الإنسانيّ، إذ ترى أنها أول نقطة التقاء بين أعمال السوق والمباحة والمحظورة. فعلى طول الطريق في غربيّ البلقان، كانت أكثر المنظمات تضرُّراً هي المنظمات غير الحكومية الصغيرة، التي ليس لها شيء من القدرة على الصمود الذي يأتي مع الميزانيات التي ترصد لها ملايين الدولارات، أو مع المكاتب القانونية لمنظمات غير حكومية دولية أكبر. مثال ذلك: أنّ أكثرَ السلطة في جزيرة لِسْفُس اليونانية كانت غير قادرة على حَجْزِ المهرّبين رفيعي المستوى، الذي أداروا أعمال التهريب من بعد، من تركيا، مفوّضين أمر العمل المحفوف بالمخاطر في المياه اليونانيّة إلى عُمّالٍ من مستوى دون مستواهم. ونتيجةً لذلك، بدأت السلطات اليونانية في الضغط على المنظمات غير الحكومية التي اعتُقِدَ أنها تُيسِّرُ أعمال التهريب. ومن ذلك اعتقال المتطوّعين من المنظمة الدولية للاستجابة لحالات الطوارئ، بتهمة التواطؤ المزعوم بينها وبين المهرّبين وهي تحاول أن تمنع غرق اللاجئين العابرين الساحل التركيّ.

وفي بلغراد بصربيا، رَكّزَت السياسات الوطنية على تقييد حرية المنظمات المحلية غير الحكومية في عملها. مثال ذلك: أنّ إحدى المنظمات المحليّة غير الحكومية التي وصلت إلى آلاف اللاجئين، واسمها مِكْسَلِسْتَا، طُلِبَ إليها تغيير مقرّها قُربَ محطة الحافلات المركزية في المدينة، إلى موضعٍ الوصول إليه أقلُّ يُسْراً على اللاجئين المعتمدين على خدماتها. فكان لهذا السعي من الأثر ما يُفتّت المجتمع المدنيّ ويقلل العمل الإنسانيّ المحليّ، ولم يكن له إلا قليلٌ من عرقلة المهرّبين، الذين تكيّفوا بحسب الحال بيُسْرٍ. ولإبانة ذلك، أقول إنّ مع تناقص المعونة غير الغذائيّة المشروعة، التي ترد من المنظمات غير الحكومية، نشأ اقتِصَادُ سوقٍ رماديّة أو سوداء مزدهرةٍ، شملت كل شيءٍ، من حِفَاض الأطفال إلى الخِيَم، فقد رأى المهرّبون أن فرصةً قد سنحت ليبيعوا السلع التي كانت من قبلُ يُتبرّع بها للاجئين.

’الشَّفْعَةُ الإستراتيجية‘ بديلاً

وقد تُتِحُ الدول، بدلاً من أن تحاول صَدّ المهرّبين، خياراتِ هجرةٍ آمَنُ وأرخص، هجرة تحقق الربح، لكي تَعطِفَ الطلب عن الفاعلين غير الشرعيين. هذه سياسة اسمها ’الشَّفْعَةُ الإستراتيجية‘، ومن شأنها أن تحشد الموارد الوطنية، ومنها الأعمال اتجارية والصناعية المشروعة، مثل شركات الحافلات، لجَعْل سُبُلِ تنقُّل المهاجرين آَمَنَ، وأرخص، وأكثر تعويلاً عليها، من التي يتيحها المهرّبون، وبهذا ينشأ ممرٌّات إنسانية بسلطان الواقع. ومن المفيد توجيه النظر هاهنا، إلى أنّ الميزانية السنوية في الاتّحاد الأوروبيّ التي يرصدها مكافحة التّهريب، في عملية صوفيا، بلغت 11.82 مليونَ دولار. وأما المهرّبون فقد قُدِّرَ ربحهم بـ1.8 مليارٍ دولار، اجتنوها من اللاجئين في سنة ٢٠١٥.[ii] ولو قدّمت ألمانيا وسيلةً عمليّة للوصول إليها (مثل الوصول إليها بطائرةٍ، كلفة ركوبها ٢٥٠ دولاراً، وهذا متوسط ثمن بطاقة ركوب الطائرة من إسطنبول إلى فرانكفورت) مع وعدها المبهم في الهجرة، لكانت ولّدت من ذلك، بناءً على ٦٠٠ ألف لاجئ سوريّ هم في ألمانيا اليومَ، ١٥٠ مليونَ دولارٍ في الأقلّ، وهو ما يَعْدلُ كلفةَ عمليّة صوفيا التي يُعمَلُ عليها منذ عقود من الزمان. ويمكن أن تُنفَق هذه الأموال على خدمات اللاجئين الآخرين وعلى حمايتهم: اللاجئين الذين يبلغون من العجز أنهم لا يستطيعون تحمّل الكفلة المُقلّلة للوصول إلى البلاد الآمنة. وبذلك يخرج المهرّبون من المنافسة ويفقدون مصدر دَخْلهم، وهذا يمنع التّهريب من غير بذل الجهود العسكرية والشرطيّة، ويمنح اللاجئين طريقة آمنة ناجعة يصلون بها إلى اللجوء المَوْعُود.

تنزيل المنظمات الإنسانية منزلَ الحليف

من المجمع عليه أن سياسة ’الشَّفْعَةُ الإستراتيجية‘ غير محتملٍ أمرها أن يتّبعها أحدٌ من قادة الدول إلا أكثرهم نفعيّةً وتطلّعاً إلى المستقبل وتخطيطاً له. ومن السياسات المُقترحَةِ التي هي أقرب إلى الواقع، ومبنيّة على طُرُق الهجرة واللجوء غربيّ البلقان، أنَ مؤسّساتُ الدولةِ الأَمْنيةُ ينبغي أن ترى منظمات المجتمع المدني الإنسانية أحلافاً، لا أن تُجرّمها، وينبغي أن تفسح لها لتقدّم ما عندها من خدماتٍ بديلة. وقبل حملة قَمْع التي حُمِلتْ على المنظمات الإنسانية غير الحكومية في البلقان، كانت المنظمات المحليّة غير الحكومية تُوصِلُ المعلومات في وقتها إلى اللاجئين بتخبرهم بما تغيّر من سياسات الحدود، وتجعل لهم مساكن مُوَقّتة ليبيتوا فيها الليل، وتشتري لهم في بعض الأحيان بطاقات ركوب الحافلة، أو غير ذلك من وسائل النقل المشروعة. وبذلك، تقوّض المنظمات المحلية غير الحكومية خدمات المهرّبين. على أنه بعد إغلاق المنظمات غير الحكومية، اضطر اللاجئون إلى التوجه إلى المُهرِّبين ليُيَسِّرُوا لهم النُّزُولَ في منازل آمنة، قبل أن يستتموا رحلتهم إلى شماليّ أوربا. ومثل ذلك، أنّه في المدن اليونانية، كثيراً ما تتيح المنظمات الحكومية للاجئين أعمالاً مُوَقّتةً بأجرٍ، فلّما أغلقت المنظمات غير الحكومية أو قُيِّدَ توظيفها للمهاجرين، اضطر اللاجئون إلى الأخذ في الاقتصاد غير المشروع، وباعوا أحياناً المخدرات أو عملوا هم أنفسهم مُهرّبينَ لكي يجمعوا ما يطلبه منهم مُهرِّبُوهُم.

وبعد، فإن شبكات التهريب قادرة على التكيُّف بحسب الحال، شأنها في ذلك شأن غيرها من المؤسسات الخاصّة، وقادرةٌ على تحويل ما تسلّطه عليها الدول من أخطارٍ إلى عملائهم. فبإخراج المهرّبين من المنافسة، وتجنّب تجريم المنظمات الإنسانية، يمكن أن تُقلّلَ الدول طَلَبَ التهريب وتُحسِّنَ، في الوقت نفسه، سلامةَ وحُسن حال اللاجئين والفاعلين الإنسانيّين بالسَّواء.

 

تشارلز سِمْبسُن Charles.Simpson@Tufts.edu

من اتحاد بوسطن لدراسات المنطقة العربية، ومشروع اللاجئين في المدن، ومركز فِينِشْتَيْن الدوليّ، جامعة تَفْس

www.bcars-global.org; www.refugeesintowns.org

 

[i] Mandić D and Simpson C (2017) ‘Refugees and Shifted Risk: An International Study of Syrian Forced Migration and Smuggling’, International Migration

(اللاجئون والأخطار المتغيّرة: دراسة دولية لهجرة السوريّين قسريّاً وتهريبهم)

https://doi.org/10.1111/imig.12371

[ii] يستند هذا التقدير إلى 1.8 مليون مهاجر عبروا إلى أوربا سنةَ ٢٠١٥، بتقدير منخفض، يبلغ ألفَ دولارٍ أمريكيّ لكلِّ فَرْد. ومع أن هذا التقدير تقريبيّ، فإن حاصل حساب الأعداد يكفي لإثارة الأمر حول السياسات.

إخلاء مسؤولية

جميع الآراء الواردة في نشرة الهجرة القسرية لا تعكس بالضرورة آراء المحررين ولا آراء مركز دراسات اللاجئين أو جامعة أكسفورد.