آليّةُ الغربلةِ الموحَّدةُ في هونغ كونغ: تقديم الشَّكْل على المَضمُون

كثيراً ما يُستشهَد بهونغ كونغ فتُضرَبُ مثالاً حَسَناً لإقليمٍ غير موقِّعٍ أنشأ آليّةً لتقرير صفة اللاجئ بقيادة الحكومة. ولكن لمّا انتفى الالتزام العامّ  أو الاتزام ذو القيادة التنفيذيّة، كانت هذه الآليّة في غاية البُعْدِ عن المعايير الدولية.

لم تزل هونغ كونغ في القرن العشرين ملاذاً للاجئين والمهاجرين من برِّ الصين الرَّئيسِ وفيتنام. ومع أنّ الصين دخلت في اتفاقية اللاجئين وبروتوكولها سنةَ 1982، لم تبلغ الاتفاقية هونغ كونغ التي تقول حكومتها مؤكِّدةً إنَّها لا تنوي تصديقها. والتفسير الرسمي لذلك هو أنّ كثافةَ سكان هونغ كونغ، وطولَ خطوطِ سواحلها، ونظامَ سمات الدخول المتحرِّر عندها، وحالَها من حيث هي مُجمِّعٌ إقليميٌّ لوسائل النَّقْل، كلّ هذا يجعلها عرضةً «لآثار سيّئة تخلِّفها الهجرة غير الشرعية».[1]

على أنّ هونغ كونغ طرف في معاهدات حقوق الإنسان الأخرى، ومنها اتفاقية مناهضة التعذيب والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، وكلاهما يوجب التزامَ عدم الإعادة القسرية. ومنذ سنة 2004، أدتّ جملةٌ من قرارات المراجعة القضائية إلى أن تكون الحكومة مضطرةً إلى غربلة عدم الإعادة القسرية، لمعالجة المُلزَمَات بموجب اتفاقية مناهضة التعذيب ثم بموجب العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية.

وأول ما كان أنْ أجرت الحكومة الغربلةَ مع إجراء تقرير منفرد لصفة اللاجئ، أَعمَلَهُ مكتب مفوضيَّة اللاجئين الفرعيّ في هونغ كونغ. إلا أنّ طعناً آخرَ للمراجعة القضائية بلغ غايته قضية [سي وآخرين ضدّ مدير الهجرة وآخر][2] التي قضت فيها محكمة الاستئناف النهائي بأنّه عند إعمالِ السلطة لطَرْدِ امرئٍ من هونغ كونغ، يجب على مدير الهجرة أن يقرِّر مستقلّاً هل ينطبق على هذا الشخص تعريف اللاجئ كما هو واردٌ في اتفاقية اللاجئين لعام 1951؟

وقد حثَّت محاكم هونغ كونغ مرّةً بعد مرة على ضرورة مراعاة معايير الإنصاف العالية في إنفاذ سلطات الهجرة حينَ تكون «الحياة وأعضاء الجسم مهدَّدةً بالزَّوَال»[3] وحيثُ يمكن أن يؤدّي الطَّرْدُ إلى خطر التعذيب أو انتهاك حرمة حقوق مطلقة أخرى لا يجوز تقييدها. وقد نجح المدَّعونَ في قضية سي وآخرين ضدّ مدير الهجرة وآخر (الذين رفضتهم مفوضيَّة اللاجئين جميعاً بعد الاستئناف) في إلقاء الضوء على أنّ المدير كان مطلوباً إليه أن يقرِّر مُستقلّاً صحّةَ أساسِ الزعم من عدمها. وبإقرار محكمة الاستئناف النهائي بهذا الالتزام، أدخلت في قانون هونغ كونغ صورةً يسيرةً من صور الحماية من الإعادة القسرية بناءً على المادة 33 من اتفاقية اللاجئين.

وإجابةً إلى حكم المحكمة، أُطلِقَت آليّة الغربلة الموحدة في آذار/مارس 2014، لتوحِّد جوانب النظر في كلِّ مُلْتَزَمات عدم الإعادة القسرية فتجعلَها في غربلةٍ واحدة. ولعلّ هذا ممّا لم يسبق إليه: نظام لتقرير صفة اللاجئ بقيادة الحكومة قائم على اتفاقية اللاجئين ولكنه يُعمَلُ في إقليمٍ غيرِ موقِّعٍ. وبعد هذا التحوُّل إلى مسؤوليةٍ للدولة مزيدةٍ، رجعتْ مفوضيَّة اللاجئين أعمالها في هونغ كونغ، وقصرت شأنها هناك على مساعدة المطالبين باللجوء الذين وُفِّقوا بأن عُيِّنوا في آليّة الغربلة الموحدة معرَّضينَ لخطر الاضطهاد عند إعادة توطينهم في بلد ثالث آمن.

وإذ قد كانت المتحدِّيات السياسية كبيرةً في حَمْلِ الدول على تصديقِ اتفاقية اللاجئين، فكثيراً ما يُرَى تطوير آليّة الغربلة الموحدة في هونغ كونغ مثالاً للوسائل البديلة التي يمكن بها بلوغ الحماية الفعّالة للاجئين. بل من الوجهة النظريّة تُرَى آلية الغربلة الموحدة من أيّ جوانبها تُنْظَرُ نظاماً فعّالاً مفعماً بطائفةٍ من وجوه الحماية الإجرائية المُضمَّنَة. هذا، ويُزوَّدُ المطالبون باللجوء بتمثيل قانونيّ مجانيّ من هيئة المحامين المناوبين، ويضمن لهم حقّ الاستعانة بالترجمة الفورية والتحريرية. فيُعطَون فرصةً للتعبير عن مطالبهم كتابةً قبل حضور مقابلة واحدة أو أكثر يقابلهم فيها موظَّفون مدنيُّون صانعو قرار، يُعيَّنون خصوصاً لتقويم هذه المطالب وتقريرها. ثم يُعطَى المطالِبون باللجوء القرار مكتوباً مع شرح الأسباب الموصلة إليها. فإن جاء القرار بالرفض، يحق للمطالبين باللجوء الطعن فيه أمام مجلسِ استئنافٍ مؤلَّف من محكّمينَ مُستقلِّين.

ومع ذلك، منذ أن بدأ العمل بآلية الغربلة الموحّدة سنة 2014، ظل معدل الإقرار بصفة اللاجئ فيها منخفضاً على وجهٍ مُقلِق، فكانت نسبته أقلّ من 1%، وهي تكاد تكون أقلّ نسبةٍ في البلدان المتقدِّمة. وذلك إنما يدلُّ على أنّ هذا المعدل يبيِّن هبوطاً عظيماً شديدَ الانحدارِ مفاجئاً عند الانتقال من الإجراء السابق الذي قادته مفوضيَّة اللاجئين. وصحيحٌ أنّ حكومة هونغ كونغ تقول إنّ هذا المعدل هو من إساءة استعمال المطالبين باللجوء للنظام، ولكنّ بعض التَّدقيق يكشف عن سببٍ هو إلى الواقع أقرب.

فمع ما لآليّة الغربلة الموحدة من وجوهِ حمايةٍ إجرائية واضحة، هي من الوجهة الكيفيّة قاصرة في كلِّ جوانبها التشغيلية. فالنظام يكاد يُنفَّذ من غير استشارة المجتمع المدنيّ، ويعطي صانعي القرار حريّةَ تصرُّفٍ عريضٍ ووجوه سلطة واسعة في إدارة حالات اللجوء لا تعوِّضُ من آليّات فعّالة أو لائقةٍ للصراحة والوضوح والمحاسبة. وشروط الإنصاف، على أنّها مقبولة واسعاً من حيث المبدأ، تُضْعَفُ إضعافاً بسبب تردِّي صنع القرار إلى معيار خسيس في كلٍّ من المسائل الإجرائية والموضوعية.

نظام حماية ناقص

رأسُ النَّقْص في ما يسمَّى بنظام الحماية هذا أنّ آليّة الغربلة الموحدة لا تُعْمَلُ إلا لأنها التزامٌ قانونيّ سيئٌ ضيّق. إذ يظلُّ فرض هذا الالتزام بعدم الإعادة القسرية مُحدَّداً ومقيَّداً بانتفاء المشاركة العامّة أو الدعم، أو نيّة التنفيذ، أو أيّ صورة أخرى من صور الالتزام الخُلُقيّ الموسَّع، أو مصدر الشرعية. فمن سَمْتِ تطوير آليّة الغربلة الموحّدة وتشغيلها انتفاءُ كلِّ باعثٍ إنسانيّ، فأسهم ذلك كثيراً في انقلاب الحال وفي إنشاء بيئةٍ تجري فيها وجوه الإدراك السيّئ والمواقف العدائية في كلِّ طبقات المجتمع على طالبي اللُّجوء، لا رقيبَ عليها.

ويدلُّ على عداء حكومة هونغ كونغ العلني لطالبي الحماية إصرارُها المتكرِّر على أنّ اللاجئين «مهاجرون غير شرعيِّين» أو «متجاوزون مدّة الإقامة» أو «أجانب هرَّبوا أنفسهم إلى هونغ كونغ» ولا بدَّ من طَرْدهم من هونغ كونغ أوّل ما يمكن ذلك عمليّاً.[4] وهذا الأسلوب، الذي يتخلَّل كلَّ وجوه التواصل الرسميّ، قوَّت سرديّةً أوسع حَشْوُها كراهية الأجانب، تُصوِّرُ المحتاجين إلى الحماية الدولية منتهكين لحرمة النِّظام و«لاجئين زائفين»[5] ومجرمين.

وواضحٌ أن صانعي القرار في آليّة الغربلة الموحّدة ليسوا بمنأى عن المواقف الثقافية الغالبة. وصحيحٌ أن القرارات الموضوعية لإعطاء الحقّ في الحماية أو رفضه تبدو مستندة إلى التحليل القانوني، ولكن هناك حالات عديدة وجدت فيها المحاكم أن الدقّة والإنصاف الإجرائيّ يقوَّضان (لا محالة) ساعة يقف صانعو القرار عند اتِّخاذ القرار في مواقف عدائية أو يتحيَّزون أو يفترضون افتراضاً فاسداً.

والذي نلاحظه في آليّة الغربلة الموحّدة هو أنه بهذه الطريقة، على الرغم من إبداءِ ضمان الإنصاف ظاهراً، تكون كلّ آليةٍ منفردةٍ للحماية الإجرائية داخلَ النظام قاصرةً في الواقع العمليّ. مثال ذلك: أنّ مع زيادة تعقُّد الإجراءات القانونية، يُسرِعُ تناقص احتماليّة نَيْلِ التمثيل القانوني وسهولته؛ فمع أنّ التمثيل القانوني إلزاميّ ابتداءً، يصبح تقديريّاً من مرحلة الاستئناف فصاعداً. ومع أنّ الاستئناف المستقلّ ممنوح في الحقوق، تُعقَدُ جلسات الاستماع فيه بخصوصيّةٍ فلا يحضرها إلا المعنيُّون بها، ولا تُنْشَرُ قرارتها، ويُمنَحُ المحامون ذوو الصلة بالأمر (بعد حدٍّ أدنى من التدريب) حريّةَ تصرُّفٍ غير لا رقيب عليها في استمرار إتاحة التمثيل من عدمه (فكانت النتيجة أنّ 92% إلى 95% من المُستَأنِفينَ غيرُ ممثَّلين). ومثل ذلك، أنّه مع وجود الحق في طلبِ الحصول على المعونة القانونية على التمثيل القانونيّ للمراجعة القضائية في القرارات الرافضة، رُفِضَ أكثرُ من 90% من هذه الطلبات. ومن طالبي اللجوء عددٌ قليلٌ يُجَابُ طلبه، في حين أنّ مَنْ ينجح طلبه في ذلك لا يُعطَى صفةً قانونيّة؛ فتظل أوامر طرده نافذةً مدّةً غير محدَّدة حتّى يُعادَ توطينه في بلد ثالث آمن أو يُغادِرَ هونغ كونغ لأسباب أخرى.

وعلى الرغم من هذه الإخفاقات البنيوية الواضحة، تستمرُّ الحكومة في تجنُّب التحسُّن. هذا مع إثارةِ المجتمعِ المدني مقلقاتٍ متكرِّرةً والمحاكمِ والتوصيات المتكرِّرة لهيئات المعاهدات المعنيّة بالأمر. فبدل أن تعالج الحكومة وجوه القصور هذه، أصدرت في نيسان/أبريل سنة2021 مرسومَ الهجرة (المُعدَّل) لعام 2021 الذي يريد إدخالَ التعديل على آليّة الغربلة الموحّدة التي يكثر أن تُرَى متقهقرةً.[6] ومن وجوهِ التعديل السَّماحُ للحكومة بزيادة استعمال حَجْز المهاجرين، وتقييد تقديم أدلّةٍ جديدةٍ في الاستئناف، وتقصير الإطار الزمني للإشعار بجلسات الاستماع، وتولية لغة إجراءات اللُّجوء. والغرض المُعلَن عنه في مسوّدة القانون هو في الظاهر استعجال الغربلة، لكنّ المجتمع المدني أخبَرَ مراراً بقلقه، وبأن مقلقاته لا تقتصر على أنّ هذه المقترحات تزيدُ خطر تقويض الإنصاف الإجرائي وإجراءات حقوق الإنسان الوقائيّة، بل تتعدّى إلى أنّه لا شروطَ سياسيّةً قائمةً على الأدلة أو لا حاجةً إلى زيادة المناسبة في نظامٍ تكون فيه التأخير الرئيس في الواقع تأخيرٌ في اتِّخاذ قرارات الحكومة والمحاكم.

وإذ قد كانت الإرادة السياسية منتفية، فمن المستبعدِ إِجراءُ إصلاحٍ شامل لآليّة الغربلة الموحّدة في المستقبل القريب. ولمعالجة المعدَّل المرتفع للرفض والافتقار إلى حلول دائمة، تُعِينُ بعض منظّمات المجتمع المدنيّ اللاجئينَ في هونغ كونغ على الأخذ في مسالِكَ متمِّمة (كالبرامج الخاصّة في تكفُّل المجتمع المحليّ) ليهاجروا إلى بلدان ثالثةٍ آمنة. وبمعاونة حِلْفٍ من المجتمع المدنيّ وهو شبكة مصلحة اللاجئين، يشارك مركز العدالة في هونغ كونغ في حوار بنّاءٍ مع راسمي السياسات، وهو يجمع المعطيات المتّصلة بالشأن وينشرها، وويناصر للإصلاح بوسائل الإعلام المطبوعة ووسائل التواصل الاجتماعي، ويُدرِّب ويعمل مع مزاولين قانونيِّين لتعيين القضايا التي لها بُعْدٌ إستراتيجيّ والمقاضاة فيها.

ومهما يكن من شيءٍ، فمَرسومُ الهجرة (المعدَّل) لعام 2021 علامةٌ لتَدَاعِي نظام الحماية من الإعادة القسرية في هونغ كونغ؛ فهو نظامٌ لا تزال فيه وجوه المسؤوليّة القانونية التي تفرضها المحكمة تضطرب من غير أن يدعمها التزامٌ خُلُقيّ واضح، ومن غير أُسُسٍ معيارية من اتفاقية اللاجئين. ولذا كان مغزى هذه الأحدوثة تحذيرَ مناصري التحوُّل إلى أنظمةٍ لتقرير صفة اللاجئ تقودها الحكومة في ولايات قضائية أخرى، وهي أحدوثةٌ تؤكِّد الحاجة إلى التوافق السياسيّ وإلى طريقة مقاربةٍ تشتمل على المجتمع بأسره.

 

راشيل لي

موظَّفةُ بحوثٍ وسياسةٍ عامّة

 

إسحاق شافر Isaac@justicecentre.org.hk @IsaacShaffer

رئيسُ الخدمات القانونية

 

لِنِت نام Lynette@justicecentre.org.hk @LynetteNam

ناصحةٌ قانونيّةٌ رئيسة

 

مركز العدالة في هونغ كونغ

 

[1] See Human Rights Committee, Fourth period report submitted by Hong Kong, China under article 40 of the Convenant, CCPR/C/CHN-HKG/4

(التقرير الدوريّ الرابع المرفوع من هونغ كونغ في الصين بموجب المادة 40 من اتفاقيّة اللاجئبن)

https://digitallibrary.un.org/record/3856300?ln=en

[2] C and Others v Director of Immigration and Another (2013)

(سي وآخرون ضدّ مدير الهجرة وآخر)

www.hklii.hk/eng/hk/cases/hkcfa/2013/22.html  

[3] Secretary of Security v Sakthevel Prabakar (2004)

(أمين سرِّ الأمن ضدّ سَكْتِفِل برَابَكَر)

www.hklii.hk/eng/hk/cases/hkcfa/2004/43.html

[4] هذا هو مسار سياسة الحكومة الرسميّ. انظر على سبيل المثال:

 www.immd.gov.hk/eng/press/press-releases/20201217.html

[5] هذا مصطلح يزداد دورانه على ألسنة بعض السياسيِّين ووسائل الإعلام، يقصدون به الذين يَرَوْنَهم يطلبون الحماية من الإعادة القسرية في هونغ كونغ ليصيبوا منافعَ الرعاية الاجتماعية أو ينخرطوا في التوظيف غير القانونيّ.

[6] انظر:

 https://hongkongfp.com/2021/04/28/hong-kong-lawmakers-approve-changes-to-immigration-law-prompting-fears-of-exit-bans/

إخلاء مسؤولية

جميع الآراء الواردة في نشرة الهجرة القسرية لا تعكس بالضرورة آراء المحررين ولا آراء مركز دراسات اللاجئين أو جامعة أكسفورد.