البحث عن الحقيقة والعدل والالتئام النفسانيّ في زمن الجائحة

قد زادتِ الجائحة المُتحدِّياتِ التي تتحدَّى الأسرَ المهاجرةَ الفاقدةَ وهي في حُزْنها على موت عزيزٍ لها أو اختفائه، ولكن الأمر لا يخلو من طُرُقٍ لمساندتها.

من حقِّ الأسر الفاقدة أن تبلغ الحقيقة والعدالة والالتئام النفسانيّ. وهذه الحقوق هي من الأسس التي قرَّرَها قانونُ حقوق الإنسان الدوليُّ وأوجبَها، فأُدخِلَت تحت الحق في الكرامة، والحق في العيش، والحق في أن يكون للمرء أسرة، والحق في حرمة الحياة الخاصة.[1] فلا أقلَّ من أن تضمن الدول للأسر المهاجرة الفاقدة أن تُبلَّغَ مصيرَ مفقوديها أو أمواتها والنواحي التي انتهوا إليها، فإن هي علمت ذلك طالبت بنقل جثامينهم إلى أوطانهم، حتى تُوَارَى في الثَّرَى (جاء هذا في إعلان مَيْتَلِينِي سنة 2018[2]).

على أنّ استجابات الأوطان لجائحة الحُمَة التاجية (كوڤيد 19) كان لها آثار أضرّت بأخذِ الأُسَر المهاجرة الفاقدة الحقوقَ المذكورة. فأكثرُ ذرائع الحَصْر التي اتُّخذت لمَنْعِ الحُمَة (الفيروس) من أن تنتشرَ لم تراعِ حاجات الأسر المهاجرة الفاقدة خاصّةً، وزادت في المعوِّقات القانونية والعملية. وقد أخذنا أمثلةً من تجارِب مهاجرينَ في ثمانية بلدان (هي اليونان وألمانيا وفرنسا وإيطاليا والمكسيك وجنوب إفريقيا والولايات المتحدة وزمبابوي) في زمن الجائحة، لنبيِّن أنّ من الطُّرُقِ طُرُقاً عمليةً وواقعيةً إن سلكتها الدول –مع أدائِها واجباتِها الدولية– أمكنها مساندة الأسر المهاجرة الفاقدة من غير إضعافٍ لاستجابات الصحّة العامّة.[3]

فهم سبب الموت

ثم حين يرد خبرُ موتِ عزيزٍ، سواء كان مثبتاً أو مظنوناً، تثار حولَه أسئلةٌ فيمرّ الزمن ولا يجاب عنها، وتنعقد عليه شكوك فلا تقطع، فيَثقُل ذلك على من بقي من الأسرة. حتى أقرَّ قانونُ حقوق الإنسان الدوليُّ بأنَّ ما تصبر عليه الأسر من ألم النفس والكُرْبة قد يبلغ إلى حدِّ المعاملة المُهينَة التي لا إنسانية فيها. ولذا وجب على الدول أن تستثبت في الوَفَيَات المُرِيبة، وأن تحاسب المسؤولين عنها، وأن لا تقطع الأخبار في ذلك عن الأُسَر.

هذا، وكان من غموضِ طبيعة الحُمَة (الفيروس) الجديدة وانتشارِ نَظَريَّات المؤامرة أنِ اشتدَّت الحَيْرة بين جماعات المهاجرين. وأوَّل الأسباب أنَّ المعطيات الرسمية التي تُبيِّن معدلَ انتقال مرض الحُمَة التاجية (كوڤيد 19) ومعدل الوَفَيَات به فيما بين المهاجرين لا تكاد توجد. فلا ينشر كثيرٌ من الدول، ومنها معظم الدول الأوربية والولايات المتحدة، ما عنده من إحصاءات مرض الحُمَة التاجية (كوڤيد 19) مُفصَّلةً بحسب جنسية المصابين، ولا يفرد لأحوال المهاجرين التقارير.

وتتفاقم الحَيْرة، وليس سبب تفاقمها واحداً هو اختلاف الطرق التي تُحَقَّقُ بها الوفيات بمرض الحُمَة التاجية (كوڤيد 19)، وإنما لذلك سببٌ آخر وهو قَدْرُ المعلومات التي يُخبَرُها أقرب الأقارب. فسبب الوفاة، في بعض البلدان (مثل ألمانيا)، يُجعَل سرّاً مطويّاً في شهادة الوفاة التي تُسلَّم إلى مكتب الإحصاء، ولكنها لا تُجعَلُ سهلة المُتَناوَل لأقرب الأقارب بسبب القوانين التي تحمي المعطيات الشخصية. أمَّا في نيويُرك، فقد كان نصيب شهادات الوفاة التي تقول إنَّ سببَ وفاة أصحابها هو مرض الحُمَة التاجية (كوڤيد 19) أنْ تَلَقَّتْها أُسَرٌ كثيرةٌ بسوء الظنّ، ولا سيما إذا كان المُتوفَّى معافىً من قبلُ وكان السبيل إلى السجلَّات الطبية أو إلى مزيد المعلومات عن سبب الوفاة مقطوعاً. وأما الأُسَر التي في خارج البلد الذي تُوُفِّيَ فيه المُتَوفَّى، فقد يكون استعلام أحوال الوفاة عليها أصعب؛ وذلك بسبب القيود التي على السفرِ وعلى تعيينِ صاحب الحقِّ في الوصول إلى ما له صلة بالأمر من الأعمال الكتابية من تقارير ومراسلات واستئمارات.

وقد اعترضَ المهاجرينَ –وبخاصةٍ الذين لا يحملون وثائق رسمية– مصاعب ما انفكَّت تشتدُّ في وصولهم إلى الرعاية الصحية لأسبابٍ عدّة منذ تفشَّت الجائحة. فلم يُعلَم عدد ما لم يُعالَج من حالات المصابين بمرض الحُمَة التاجية (كوڤيد 19) وغيرها من الحالات الطبية، ولم يُعلَم عدد مَن لم يُشخَّص من الوفيات التي أدركها الموت خارج المستشفيات. فإن أُطلِقت معطياتٌ رسمية واضحة صريحة عن معدل انتقال المرض ومعدل الوفيات فيما بين المهاجرين كان ذلك مُعِيناً على قطع الشكِّ والنَّظر، ومُسَانداً للأُسَر التي تطلب الحقيقة والعدل والمحاسبة.

وهذه المكسيك مثلاً تنشر السلطات فيها كلَّ يومٍ معطياتٍ تامّةً مباحةً عن مرض الحُمَة التاجية (كوڤيد 19) من مصابين ومستشفين ووفيات. ثم إن المكسيك لا تقصر معطياتها على تتبُّع المتغيرِّات كالسِّنِّ والجِّنس والموضع ووجوه الاعتلال المُشتَرَك (comorbidities)، وإنما تورد إلى ذلك معلوماتٍ عن الجنسية وصفة الهجرة والبلد المُغَادَر. ويُضَافُ إلى هذا، أنّ المكسيك أطلقت تقارير في علم الأوبئة كلَّ أسبوعٍ أدارتها حول مرض الحُمَة التاجية (كوڤيد 19) بين المهاجرين، ومن ذلك مَجموعُ حالاتِ الإصابة المُثبَتَة والمظنونة والبلدانِ الأصليّة والمُستشفِين والوفيات. وصحيح أنَّ الإحصاءات الرسمية لا تُفسِّر ما بلغ إليهِ عدد الوفيات (والمكسيك إحدى أقلِّ البلدان معدَّلاً في الاختبار)، ولكنّ الحكومة هناك اتَّخذت مسلكاً مهمّاً إلى تمامِ إباحة المعطيات الرسمية للناس وجعلها في نسقٍ مفتوحٍ يحتملها مِن الشابكة مَن شاء.

فينبغي أن يَسْهُلَ طَلَبُ شهادات الوفاة وتحصيلُ مزيد المعلومات عن أحوال الوفاة، وينبغي في ذلك مراعاة ما تجده الأسر الفاقدة المقيمة في الخارج من صعوبة زائدة. ويمكن لمنظمات المجتمع المدني ورابطات المهاجرين وفرق الدعم أن تعين الأُسَر الفاقدة على معرفة سبيلها في الإجراءات الإدارية؛ فمن الواجب أن تظل هذه الجهات الفاعلة عاملةً سهلة المأخذ في أثناء الجائحة.

هذا وتوسيع المدارك أمرٌ محتاج إليه، لا لحَصْر انتشار الحُمَة (الفيروس) فحسب، بل وللإخبار بمعلوماتٍ شاملةٍ سهلة المتناول عن السبيل إلى الرعاية الصحية، وعمَّا يحتمله أمرُ مَن أُثبِتَتْ بالتَّشخيص إصابتُه، وعن الأسباب الموجبة لأن يكون لتدبير الحَصْر أثرٌ مُباشِرٌ في حيثُ يتجمَّع المهاجرون. ثم إن إشراك اللاجئين والمهاجرين والمنظمات الشعبية وغيرها من فرق الدعم في نشر هذه المعلومات طريقةٌ ناجعةٌ في التغلُّب على ما رَسَخَ في النفس من سوء الظنّ بالسلطات.

المُوَاراةُ في الثَّرَى

يُقِرُّ القانون الدولي بحقِّ الإنسان في أن يدفن مَن يُتوفَّى من أقاربه ويكرمه. على أنَّ ضمان احترام ما يُفضَّل في الجنائز والشعائر قد صَعُبَ في أثناء الجائحة خاصةً بعد أن قُيِّدَ الحضور والقيام بشأن الجثث. وأيضاً فقد تفاقم بالجائحة الإلزامُ الزمنيّ والمالي؛ فلمَّا كانت المشارح ما تزال تضيق بالاكتظاظ، أُسرِعَ في الجنائز، فقُيَّدَ خيار الأسر المعوزة التي تحتاج إلى مزيدِ وقتٍ لجمع المال، وحصرت عن نقل الجثامين إلى مواضعَ أُخَر. ثم قُيِّدَ السفر بين البلدان بشروطٍ فزادت المعوِّقات. ويكثر تعقُّد الأمر حين لا تُعرَف هويّة الجثمان أو تشكُّ الأسرة في صحَّتها.

وينبغي أن تتناول بروتوكولات الطبِّ الشرعيّ صراحةً طُرُقَ جَمْعِ المعطيات وحفظها قبلَ الوفاة وبعدها لِمَا له بتعرُّف الهويّة في المستقبل صلة. ومن الأمثلة المهمَّة على ذلك ما تأخذ فيهِ المكسيك من بروتوكولات الطبِّ الشرعيّ لمرض الحُمَة التاجية (كوڤيد 19) في القيام بشأن الجثامين التي لا يُعرَف أصحابها. فتصف هذه البروتوكولات ما ينبغي من كيفيّة القيامِ بشأن الجثث وجَمْعِ المعطيات وخَزْنها في زمن الجائحة. وأيضاً فهذه البروتوكولات تمنع حَرْقَ الجثامين التي لا يُعرَف أصحابها. وإن احتيجَ إلى القيام بشأن كثرةٍ مجتمعةٍ من الجثث، وجب أن تدفن كلُّ جثَّةٍ مصابةٍ بمرض الحُمَة التاجية (كوڤيد 19) لا يُطالِب بها أحدٌ –سواء عُرِفَ أصحابها أم لم يُعرَفوا– في قبرٍ على حدتها، ووجب على مكتب الوكيل وخدمات الطب الشرعيّ تسجيل موضع الدَّفن.

ثُمَّ يمكن أن تُدخَل المعونة على نفقات الجنازة تحت المعونة المالية التي تُعطِيها الدول لتخفِّف آثار الجائحة. وقد خطا برنامج الإعانة على الدفن بمدينة نيويُرك في هذا النَّحْوِ خطوةً مهمةً؛ ففتح السبيل للأسر المهاجرة أن تستعين به ولو لم تحمل وثائق رسمية.

ويعدُّ إِنشاءُ سمةِ دُخُولٍ وطنيَّةٍ لإجراء الجنازة أو تعرُّف المُتوفَّى أو كليها وسيلةً فعّالةً وعمليةً في مساندة الأُسَر المهاجرة الفاقدة العائشة في الخارج. وهذه ألمانيا مثلاً تُجوِّز سمة دخول الأسرة فيها –وهي سمة استمرَّت في أثناء الجائحة– لأَفرادِ الأسرة، ومنهم أفراد الأسرة المُمتدَّة، أنْ يزوروا ألمانيا زيارةً مُوَقَّتةً ليحضروا الجنائز.

وينبغي أن يُظهَرَ اللِّين في بروتوكولات الخدمات في المستشفيات والجنائز فتستوعب شعائر الجنازة ما استُطِيع. ومع أن ألمانيا لا تجوِّز لذوي القربى نقلَ الجثمان إلى وطنه، فهي تجوِّز لهم في بعض الأحوال أو الأمكنة أن يشيِّعوا الجنازة في غرفةٍ من المستشفى. وأما في زمبابوي، فيتيسَّر بثُّ الجنائز بثّاً شابكيّاً مُباشِراً للأُسَر (وغير الأسر من أفراد المجتمع المحليّ) العاجزة عن الحضور بنفسها.

نَقْلُ الجثمانِ إلى وطنِ صاحبِه

لا يتمُّ للأسرة الفاقدة الالتئامُ النفسانيّ إلا بإعادة قريبها المُتوفَّى إلى وطنه. على أنَّ إعادة رفات الناس إلى أوطانها لم تزل من قبلِ الجائحة أمراً مُعقَّداً وغاليَ الثَّمن. وزاد غَلَاءُ ثمن هذه الإجراءات ووُجُوهُ البِيرُقراطيَّةِ فيها منذ حدوث الجائحة، إذ زاد كثيرٌ من الدول في القُيُود لتجنُّب العَدوَى. هذا مع ما سبَّبه تَعلِيقُ الخدمات القنصلية في كثيرٍ من البلدان وقُيُودُ السفر من اشتداد صعوبة الأمر على الأسر العائشة في الخارج. فليس نادراً أن تمتنع الأسر المهاجرة الفاقدة عن طَلَبِ نقل الجثمان إلى الوطن أو أن تلتمس إلى تحقيق ذلك مسلكاً أعوج. ومثال ذلك في اليونان أنَّ كثيراً من الأسر المهاجرة تكتفي بإعادة العظام، فهناك يُجوَّز لأقرب الأقارب أخذ العظام بعد أن يمرَّ على دفن صاحبها ما بين ثلاث سنين وخمس سنين. وأما في نيويُرك، فقد تختار الأسر المكسيكية حَرْقَ جثَّة قريبها على خلاف معتقدها؛ ذلك أنَّ إعادة رفاته إلى الوطن أسهل من إعادة جثّته. وبعدُ، فكل هذا يثقل على من بقي من الأسرة. لذا تُلِحُّ الحاجة إلى تحسين اللوائح الوطنية والتنسيق الدولي لتُيَسَّرَ إِجراءَاتُ إعادة الجثامين إلى أوطان أصحابها تيسيراً أَفعَلَ.

فلا ينبغي أن تُترَكَ الأسر المهاجرة الفاقدة في الحداد وحدَهَا. وليست المعونة المناسبة واجباً خُلُقيّاً فحسب، إنما هي إلى ذلك التزامٌ قانونيٌّ تُعَضِّدُهُ معايير في حقوق الإنسان ثابتة.

 

دَانَاي أَنگِلِي Danai.angeli@bilkent.edu.tr

بروفيسورةٌ مساعدة، في جامعة بِلْكِنْت، ومستشارةٌ في مشروع آخِرِ الحقوق (Last Rights)

 

[1] Last Rights (2019) Extended Legal Statement and Commentary

(آخر الحقوق)

 https://drive.google.com/file/d/1P7RGtTQw95gFL-o6iBzxmVRsDngxpHHc/view

[2] هو إعلان مَيْتَلِينِي في إكرام كلِّ المفقودين والمُتوفَّين –وأسرهم– بسبب رحلات الهجرة، أُقِرَّ في 11 أيار/مايو 2018.

http://lastrights.net/LR_resources/html/LR_mytilini.html

اقرأ نصّه بالعربية من هنا:

https://docs.google.com/document/d/1LcoUSaLW4-jcDCCaPztKHT4UCegFDbFjedcXA4W0Pvs/view

[3] Last Rights (2021) Every Body Counts: Death, Covid-19 and Migration. Understanding the Consequences of Pandemic Measures on Migrant Families

(لا يُغفَلَنَّ أحَد: الموت والحُمَة التاجية (كوڤيد 19) والهجرة: فَهْم عواقب ما اتُّخذ لتدبير الجائحة على الأُسَر المهاجرة)

  https://drive.google.com/file/d/1f3QRFCcQmeI5AmhAug38JVTRmfccQyHA/view

إخلاء مسؤولية

جميع الآراء الواردة في نشرة الهجرة القسرية لا تعكس بالضرورة آراء المحررين ولا آراء مركز دراسات اللاجئين أو جامعة أكسفورد.