العمل مع جماعات ’الماكثين‘: التعلُّم من إريتريا

قد يكون في التوسُّع في فهْمِ آراء الناس وظروف معيشتهم، في المجتمعات المحلية التي سيعود إليها العائدون، ما يُسهِّلُ على مَن يعود مِن حيث كان مهجَّراً، اندماجه فيها.

في الحال التي عليها إريتريا، أوْلت المنظمات الدولية والحكومات والأكاديميون، كَثيْرَ اهتمامٍ بعِظَمِ الشأن في إشراك الجماعات التي في الشتات في بناء صَرْحَي الدولة والسلام، وأوْلت عودةَ الأهالي مثل ذلك الاهتمام من حيث هي باعث من بواعث التنمية. ويُنظَر إلى الحالة التي عليها الاقتصاد والسياسة يومَ العودة، على أنها عاملٌ حاسمٌ في تقرير عودة الجماعات التي في الشَّتات ونجاحها في إعادة اشتراكها في سياسة البلد الذي نشأت فيه. وجاء من وثائق الأمم المتحدة، ما ينصر عودة المواطنين المؤهَّلين إلى إريتريا، فبدَّأت تلك الوثائق من المقاربات ما يَجْعَلُ من رضوان الذين في الشَّتات أعظم ما يكون، وما يَضْمَنُ لهؤلاء أنْ تستوعبهم المؤسسات التي تُدِيرُها الدولة، وكل هذا مُؤَيَّدٌ بما كشفته أحاديث أدَرْتُها بيني وبين موظفين يعملون على إنجاح مشاريع كهذه في البلد. على أنَّ هذه الوثائق لا تكاد تنظر إلى مسألتين هما: كيف تؤثِّرُ المقاربات التي تدعو إليها إن هي أثَّرت- في السكَّان القاطنين بإريتريا؟ وكيف تُشكِّلُ الحَالُ الاجتماعية حيث سيَقْدَمُ القادمون، وطَبِيْعَةُ العلاقة بين مواطني إريتريا داخلها وخارجها إن هما شكَّلتا- نَجَاْعةَ عمليات العودة؟

كثيراً ما يُنظَر إلى هذه الجماعات القاطنة على أنها واسطةٌ ليس غير. فكيف مثلاً تُبْعَثُ على أنْ تُسلِسَ للعائدين إعادة إدماجهم؟ وكيف تُحَضُّ على أنْ تَجْعَلَ للعائدين، أي اللاجئين والنازحين داخلياً، فُسْحةً حتى يخوضوا في بناء السلام، وفي إعادة البناء والمصالحة الوطنيتَين؟ ثم كيف تُرَى أنَّ بين نجاح العائدين ونجاحها علاقةً، إذ نجاح هذه يؤثر في نجاح هؤلاء تأثيراً حسناً والعكس صحيح؟

فإعادة هذه الفئة من السكَّان، إلى البلد، مُقْتَضٍ أولاً الأخذَ بأطُرِ عملٍ تعترف بكلِّ الجهات الفاعلة الخائِضة في عمليات العودة، على كثرة هذه الجهات واختلافها. وقد أبرز العمل القائم على التجربة والمعاينة أن إعادة إدماج العائدين -في الغالب- مُتوقِّفةٌ على نجاح مفاوضتهم هم والممسكون بزِمَام الأمور المحليُّون، في الشرعية والحقوق والفرص وقبول الاندماج.[i] ذلك أنَّ مقدرةَ المواطنين جميعاً على إتيان هذه العملية إتياناً حسناً ورغبتهم في ذلك، أمرٌ حاسم.

ثم من البحوث ما بحث في دَعْمِ المجتمعات المضيفة للاجئين، كيف يكون ولِمَ يكون؟ وتشير هذه البحوث إلى أن الهموم الإنسانية التي محورها التَّهجير والتنقُّل، يجب ألاّ يُفصَل، عندَ النظر فيها، بينها وبين جداول الأعمال التنموية التي هي أوسع نطاقاً، والتي جرت على جَعْلِ فسحة أكبر لوجهات النظر الاجتماعية والمُجْتمَعية. إذ المجتمعات المضيفة، في هذا المجال، كُتَلٌ ذات شأنٍ قائمةٌ بنفسها.

التحديات السياسية والعملية والأخلاقية
لقد أُوْلِيَ الماكثونالإريتريون اهتماماً ليس بقليل، في تسعينيَّات القرن العشرين وأوَّل العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، فإذ ذاك عاد مئات الآلاف من اللاجئين الذين كانوا قد فرُّوا في أثناء ما جرى في البلد من مغالبةٍ من أجل التحرير، ونزاعٍ في الحدود بينها وبين إثيوبيا بين عامي 1998 و2000، وكان أكثرهم بلا عونٍ دولي. فقد عادوا إلى المناطق التي فيها أعظم العنف والدمار، وبقي أهلها بين ذخائرَ غير منفجرة، وأراضٍ زراعية مُتلفَة، وبنيةٍ تحتية معظمها مدمر. إلا أنَّ إعادة إدماج العائدين سارت سيراً حسناً من غير توتُّر خطير.[ii] والسبب في ذلك أنَّ العائدين ما عابوا على الماكثين سلوكهم ولا عاب الماكثون على العائدين سلوكهم، سواءٌ كان ذلك في القتال أو في العودة. وكانت أحبال وصال التناصُرِ وحُسْنِ النيَّة بينهم وثيقة، كما كانت رؤية الجماعتين، فكلُّ جماعة رأت في الأخرى مَجْلبَة للفرص. ولقد رُكِّزَ الانتباه في إصابة حاجات السكان الباقين في إريتريا، لسببين، أحدهما وَعْدُ حكومة ما بعد التحرير أنْ تُحقِّقَ الأمن البشري لجميع الإريتريين، وثانيهما جماعةٌ من أهل الفكر جرَّ عملها في إريتريا كثيرَ اهتمامٍ بهذه الدِّيناميَّة التي يكثر إهمالها.

على أنَّ بحوثاً أُجْرِيَت حديثاً على إريتريين في عاصمتهم أسمرة وعلى إريتريين في الشتَّات، تكشف عن مجموعة من العوامل التي قد تُصعِّب العودة في المستقبل، وتلقي الضوء على الأسباب السياسية والعملية والأخلاقية المُوجِبة لإيلاء الحال التي عليها الجماعات الماكثةمزيد اهتمام.[iii] ومن ذلك، أولاً: أنَّ الإريتريين المقيمين خارج إريتريا مُتألِّفون من جماعات تختلف تواريخها اختلافاً عريضاً، فمنهم لاجئون ومهاجرون لم يعودوا إلى إريتريا حين استقلَّت، وإريتريُّون من الجيل الثاني والثالث، وأفرادٌ طلبوا اللجوء في مرحلة ما بعد الاستقلال. ولتعاطفهم السياسيِّ، المُخْتَلِف بأحواله، أثرٌ عريضُ في العلاقة بينهم وبين إريتريا وحكومتها، وفي كيفية اتِّصال الساكنين داخل البلد -الذي هو نفسه فيه تباينٌ سياسي- بهم.

ثم إنَّ في أغلب الناس بأسمرة آمالٌ خائبةٌ خيبة شديدةً، خيَّبها الحزب الحاكم في البلد والأفراد المستمرُّون في تأييده. فعند هؤلاء الناس أنَّ أفعال مَن يُؤيِّد الحكومة من الذين في الشتات أعانت على إطالة عمر هذا النظام الحاكم، ومن هذه الأفعال تنظيم التجمُّع دولياً لنصرة حزب الجبهة الشعبية من أجل الديمقراطية والعدالة، وهو الحزب السياسي الحاكم في إريتريا، وإرسال المال إلى الحكومة من طريق ضريبة تُوجِبُها على الذين في الشتات، اسمها ضريبة الشتات.[iv] وكشفت مقابلات في أسمرة أنَّ الأفراد مهمومون من عودة مؤيدي الحكومة الذين في الشتات، بسبب آراء العائدين السياسية التي -كما يرى هؤلاء الأفراد- لا يعدلهم عنها شيء.

ثانياً: وإذ قد تنبّه الناس في أسمرة إلى أنَّ عودة الذين في الشتات ربما تجلب بعض المنافع الاقتصادية والسياسية والوجدانية، فقد كان فيهم بعض خوفٍ من أن تُبنَى هذه المنافع على خُسْران طبقة أصحاب الأعمال المُعتَمِلين التي في البلد إذ ذاك. وإنْ نظرنا إلى القيود التي قُيِّدت بها حرية تنقُّل الباقين في إريتريا (ومنها صعوبة الحصول على تأشيرة الخروج التي لا بدَّ منها للانتفاع بالمنح الدراسية والوظائف خارج البلد)، نرى بوضوح في الوصول إلى الخدمات، تدرُّجاً في الرتب بين الناس، فلا يستوي في ذلك الذين في داخل البلد والذين في خارجه. وشعر مَن استطلعتهم أنَّ ما يُمنَح للذين في الشتات من فرص وموارد -ومنها المال المُدَّخر والصِّلَات التجارية، والتعليم العالي الجيِّد- قد تُتِيحُ لِمَن في المنفى احتكار أكثر الوظائف والفرص رِبحاً في إريتريا المتحرِّرة.

ثم هناك همٌّ معارضٌ لما سبق لكنَّه يوازيه، له صلة بسؤال: كيف سيستوعب البلد، اقتصادياً واجتماعياً، بعضاً من جيل اللاجئين الإريتريين الجديد إنْ هم اختاروا العودة؟ فلقد رحل كثير من الناس لتجنُّب الخِدْمَة العسكرية الإلزامية، وهذا يعني أنهم رحلوا عن إريتريا قبل أن يُتِمُوا التعلُّم في المدرسة. وحتى أصحاب المِهَن الماهرون عانوا مَشَقَّة في إيجاد عملٍ يتناسب هو ومؤهلاتهم، وذلك بسبب السياسة المُقيِّدة للهجرة وسياسة اللجوء في المنفى. ثم إنَّ الإبهام يعتري مسألة، هي: كيف سيستوعب البلد هؤلاء الناس الذين عوَّق المنفى نُموَّ ثرواتهم وملامحهم التعليمية؟

بِناءُ السَّلامِ والمُصَالحَةُ
يُضَافُ إلى ذلك، أنَّ الفئات المعارضة بين الذين في المنفى، ظاهرٌ أنها أتت بأفكار للمستقبل السياسي في البلد، تؤيِّد مَن في داخل البلد في آراءهم وتجاربهم المختلفة، لكنْ ليس بالضرورة أن تشتمل عليها. وبعَقِب اتفاق السلام عام 2018 بين إريتريا وإثيوبيا، وإخفاقه في تحقيق إصلاح سياسي، أُوقِدَت نار الحماسة من جديد في صدور المعارضين الذين في الشتات ليشرعوا في التخطيط لِنَقْلِ إريتريا إلى ما بعد حزب الجبهة الشعبية من أجل الديمقراطية والعدالة. وناقشت هذه الجماعات كيف يكون إسراع هبوط الحزب الحاكم؟ وكيف يكون الاستعداد لمدة انتقال سياسية تلي ذلك؟ ولقد دُعِيَ إلى إقامة نقابات مهنية، لتُصَاغَ فيها قوانين تسند البلد في المرحلة الانتقالية ثم تصير هي القوانين المتقدِّمة في نظامٍ قضائي جديد، ويُعيَّن مِن الأفراد الذين في الشتات مَن يمكنهم تولِّي مُهمَّات قيادية في النظام السياسي الذي في مرحلة ما بعد حزب الجبهة الشعبية من أجل الديمقراطية والعدالة.

على أنَّ ما يَتحدَّى ذلك سؤال: كيف يُوفَّقُ بين ما تطمح إليه هذه الجماعات المعارضة التي في الشتات وبين ما يطمح إليه أولئك الباقون داخل حدود الدولة؟ ثم إنَّ تصورات المواطنين الإريتريين الغَالبةَ في أنهم معزولون عن المناقشات السياسية والتعليم العالي الجيِّد، قد أسهمت في استشعار إمكان السكان داخل البلد أنْ يُهيِّجوا النُّفوسَ سياسياً لكنْ ليسوا بالضرورة قادرين على الإتيان ببرنامج سياسيٍّ بديل. فكان أنْ بدت بعض مبادرات الذين في الشتات بعيدةً عن أفكار المواطنين داخل إريتريا وعمَّا يطمحون إليه من تغيير سياسيٍّ، وما في الطريق إلى ذلك من مُهمَّات يرغبون في تولِّيها. وإذ قد غَلَبَ على عمليات العودة أنها تَرْكُزُ همَّها في دَعْمِ الحقوق السياسية -ولا سيَّما حق الانتخاب- وضَمانِها للاجئين العائدين إلى وطنهم، فهي إلى ذلك تُسلِّم أنَّ للماكثينتمثيلاً سياسيّاً ليس بالقليل. إنَّ هذه المقاربة، في بلدٍ كإريتريا، قد تضاعف التهميش الذي هو واقع أصلاً على مَن هم داخلَ البلد.

هذا، وفي تقديم آراء العائدين وتجاربهم على آراء الذين بقوا وتجاربهم، إحباطٌ لإنشاء ظروفٍ يجري فيها الحوار والاندماج واحترام كل فريق الآخرَ، فكل ذلك جزء لا يتجزَّأ من إنجاح بناء السلام والمصالحة. فينبغي لبرامج العودة ضمان أنْ لا تنشئ تدرُّجاً في الرتب بين الناس، وذلك بتخصيص موارد للفريقين، لا تُبنَى إلا على فئاتٍ من المستضعفين مُمَأْسَسَةٍ، كفئة اللاجئين أو العائدين. ومن الوجهة العملية، يَكْثُرُ شيئاً فشيئاً ميل المنظمات الدولية والمانحين إلى مقاربات يطلق عليها اسم مقاربات المجتمع كله، وذلك بسبب اعترافٍ بأنَّ آثار التهجير غير مقصورٍ تأثيرها على المتنقلين، بل تؤثِّر فيهم وفي غيرهم. ولذا يُتَاحُ الدعم والمساعدة للمجتمعات المضيفة وللمهجَّرين أيضاً، ويؤمَلُ من ذلك إنْهَاضُ فرص التنمية العامة، وتقْلِيلُ ما قد يكون من خلافٍ وجدل، وإسْرَاعُ الاندماج. فإنَّ اتِّخاذ مثل هذه النماذج، في البلد الأصلي، لَربَّما يأتي له بمثل ما فيها من فوائد يومَ العودة.

جورجيا كول gc389@cam.ac.uk

زميلة باحثة، في مركز مارغرت آنستي للدراسات العالمية، الذي يتبع كلية نيونهام، في جامعة كامبردج

www.margaretansteecentre.org/dr-georgia-cole

 

[i] Polzer T (2009) ‘Negotiating Rights: The Politics of Local Integration’, Refuge, 26(2), 92–10
(المفاوضة في الحقوق: سياسة الاندماج المحليّ)
https://refuge.journals.yorku.ca/index.php/refuge/article/view/32081

[ii] Kibreab G (2002) ‘When refugees come home: the relationship between stayees and returnees in post-conflict Eritrea’, Journal of Contemporary African Studies, 20(1), 53–80
(
حين يعود اللاجئون إلى بلادهم: العلاقة بين الماكثين والعائدين في مرحلة ما بعد النّزاع في إريتريا)
www.tandfonline.com/doi/pdf/10.1080/02589000120104053?casa_token=AQ2OB19JEz8AAAAA:rvyDdPtI1Z6SKZ61lW1An1nFW8sYJa0bSSK64HMMshtgIRJ2x-D4U-vmK2NzwY346t0SmDcvqw

[iii] انظر، على سبيل المثال:

 Cole G (2019) ‘Systemic ambivalence in authoritarian contexts: The case of opinion formation in Eritrea’, Political Geography, 73, 28–37

(جمعٌ بين النقائض شاملٌ في المقامات الاستبدادية: حالة تكوين الرأي في إريتريا)

www.sciencedirect.com/science/article/pii/S0962629818304360

[iv] يُوجَبُ على الإريتريين المقيمين خارج البلد 2 بالمئة من دخلهم يؤدُّنها إلى الحكومة الإريترية لتفتح لهم ما عندها من خدمات.

إخلاء مسؤولية

جميع الآراء الواردة في نشرة الهجرة القسرية لا تعكس بالضرورة آراء المحررين ولا آراء مركز دراسات اللاجئين أو جامعة أكسفورد.