أماكن الصُّمود: إعادة النظر في الحماية

تبْرُزُ المقاربات التعاونية في بناء قدرات النَّازحين داخلياً الحضريِّين والمجتمعات المضيفة الحضرية، من حيث هي وسائل أنْجَعُ من غيرها في التصدِّي للتَّهجير الذي يطول أمده وللتَّهجير الذي يقع مرةً ثانيةً، في المستوطنات غير الرسميَّة في كولومبيا.

يغلب على النُّزوح الداخلي في كولومبيا النَّاجم عن النِّزاع المسلَّح أو عن العنف المُعمَّم، أنْ يتبعه مزيْدُ نزوحٍ إلى المدن حيث تلتمس الأُسَرُ العونَ، والحمايةَ، والفرص الاقتصادية. ونحوٌ من 87% من هؤلاء النَّازحين داخلياً آتونَ من الأرياف، ويبحثون عن المأوى في الأماكن التي لا يستطيعون الوصول إلاّ إليها، وهي المستوطنات غير الرسمية.[1]

"لقد هجَّرتني القوات شبه العسكرية من منطقة السهول الشرقية (Llanos Orientales) إلى تشوكو في عام 2005. وبعد ثلاثة أعوام فررنا إلى المناطق الحضرية في بوينافِنتورا، ثم في عام 2012، لمَّا عمَّ العنف فررنا مرةً أخرى إلى بوغوتا. وفي عام 2012، بدأنا نبني بيتنا على هذا التلِّ، بسبب علوِّ تكلِفَةِ العيش في المدينة." (هذا ما قالته يوميرا، وهي تعيش مع زوجها وأطفالها الثلاثة، في ألتوس ديلا فلوريدا، بكولومبيا).

وألتوس ديلا فلوريدا هو حيٌّ من أحياء سواتشا، وهي بلديَّةٌ يبلغ سكَّانها نحواً من مليون نسمة، وهي أكبر من كلِّ المُدُن التي تجاوِرُ بوغوتا. وعند السلطات المحليَّة، أنَّ ثمانياً وأربعين بالمئة من البلديَّة غير قانونيَّةٍ‘. وحتَّى عام 2018، كانت سواتشا تستضيف نحواً من 50 ألفَ نازحٍ داخلياً ولقد زاد أيضاً على عدد المهجَّرين مذ ذاك 12 ألفاً و300 فنزويليٍّ على الأقلِّ، فرُّوا من الأزْمَة التي أصابت بلدهم. ثم إنَّ المساكن والخدمات والبنية التحتية في ألتوس ديلا فلوريدا رديئةٌ، فنحوٌ من 73% من أُسَرِهَا -أي 1011 أسرةً، فيهم 3657 فردٍ على التقريب- تعيش في ظروف الفقر الهيكليِّ.

مخالفة الأصول الرسميَّة: سببٌ أصليٌّ للتَّهجير في المناطق الحضرية
عرَّفت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي المجتمع المحليَّ في ألتوس ديلا فلوريدا أنَّه مستضعفٌ، وذلك لطبيعة الحيِّ غير الرسميَّة‘. إذ تفتقر الأسر هناك إلى ضمان الحيازة، فلا شيءَ بين أيديهم يُثبِتُ ملكية مساكنهم (ولا شكَّ أنْ وقع في الحيِّ محاولات إخلاء). وافتقار ألتوس ديلا فلوريدا إلى الخدمات الأساسية والبنية التحتية يزيد استضعاف الناس فيه. فلا يحصل على الماء إلا القليل من الناس، ويفتقر نحوٌ من 300 طفلٍ إلى الدخول في روضة الأطفال، وليس في الحيِّ مراكز رعاية صحية. وتحدُّ الطبيعة غير الرسمية لهذا الموقع الحضري ممّا يمكن أن يُفْعَلَ لتقليل مواضع الضعف فيه، وفوق ذلك، يرفض مخططو المدينة السماح بهذه المستوطنة قانوناً، من طريق تصديق المنازل التي قد بُنِيَت، ومن طريق إدراج الحيِّ في تخطيطهم الحضري.

ويُضَافُ إلى مخالفة الأصول الرسميَّة، موقع المستوطنة الذي ليس فيه سلطات محليَّة، وهذا يجعل من المستوطنة هدفاً للجهات الفاعلة المسلحة التي لا تتبع دُوَلاً. ومعدَّل جرائم القتل مرتفعٌ، والعنف في المستوطنة تحدٍّ عظيمٌ. ثمَّ إنَّ عُدْم الإرادة السياسية، ومواضع الضعف البنيوية في المجتمعات المحلية التي في هذه المناطق الحضرية غير الرسمية، وانعدام الأمن فيها، كلُّ هذا، إنَّما يقود إلى مزيدٍ من التَّهجيرٍ الحضريٍّ، في داخل المناطق الحضرية وبينها. إذ يُقْسَرُ النَّازحون داخلياً من المناطق الحضرية على الفرار من المستوطنات غير الرسمية، بسبب العنف الحضري، فلا يجدون أنفسهم إلا في مستوطنةٍ أخرى غير رسميةٍ، وفيها من التهديد الأمني ما يشبه الذي كان في التي قبلها. أي أنَّ المستوطنات غير الرسمية هي أماكن يفرُّ منها الناسٌ من جهةٍ، ويلجأ إليها المهجَّرون من جهةٍ أخرى. وفي حيِّ ألتوس ديلا فلوريدا المُنْفَصلِ اجتماعياً ومكانياً، تقع نسبة النَّازحين داخلياً بين 30% و40% من عدد سكَّانه.

المعونة الدولية: تقويض الصمود
في السنوات الأخيرة، زادت الجهات الفاعلة في المجال الإنساني والتنموي وإحلال السلام اهتمامها بالاستجابة في الحالات الحضريَّة. ولكنَّ قِلَّةَ خبرتها في الاستجابة للتحدِّيات الناشئة في المناطق الحضرية، ما تزال تقوِّض التدخُّلات الإنسانية والتنموية، وحول هذا أدرنا بحثنا في ألتوس ديلا فلوريدا.[2]

وفي هذه المستوطنة، أدَّت الاستجابة الطارئة المطوَّلة منذ عام 2001 إلى التعويل المُفْرطِ على العون الخارجيِّ. نعم، المساعدة الطارئة ضرورةٌ، ولا سيَّما عند الأسر التي تصل حديثاً، ولكنَّ إتاحةَ المعونة المطوَّلة تأخذ محلَّ المشاركة المجتمعية، وتزيد اتّساع الفجوة بين العمل الإنسانيِّ والتنموي. فقد قُوِّضَ التماسك الاجتماعي، وتُنْقِصُ قِلَّةُ المشاورة وانعدام التنسيق هناك قدرةَ كلِّ تدخُّلٍ على الإتيان بما هو مطلوب. وقد وجدت التقييمات التي سبقت المشروع أنَّ "التعاون الدولي غير كافٍ ولا بدَّ من تدخُّلَ الدولة لتُكمِّلهُ".[3] ولا بدَّ من زيادة التعاون كثيراً بين قطاع العمل الإنساني والسلطات المحليَّة، إن أُرِيدَت معالجة أسباب قلة الاندماج وما تلا ذلك من تهجيرٍ ثانٍ، وهذا يقتضي إرادةً سياسيةً متينةً، محليَّةً ووطنيَّةً.

أماكِنُ الصُّمود: مقاربةٌ حمائيَّةٌ
يجب على الجهات الفاعلة في المجال الإنساني والتنموي وإحلال السلام، في المستوطنات الحضرية غير الرسميَّة، أن تعمل بين حدَّي بيئةٍ اجتماعية مُضْعَفَةٍ وقليلة التماسك، وزاد في سوء حالِهَا هذه العنفُ. وفي ذلك تحسينٌ للاستجابات القصيرة الأمد والمقاربات المعزول بعضها عن بعض. إذ إنَّ في الاستجابات التي يكون تكاملها رديءٌ، قدرةً ضعيفةً على معالجة الأزْمَات الحضريَّة المُعقَّدة. فلا بدَّ أن تكون التدخُّلات تعاونيَّةً ومتكاملةً، وينبغي أن تهدف إلى إنقاص مواطن الضعف الطويلة الأمد عند النَّازحين داخلياً والمجتمعات المضيفة على السواء.

وينبغي أن يُلتَزَمَ في المعونة الإنسانية بأن تدعم الناس حتَّى يعيشوا عيشةً كريمةً، بعد أن تدعمهم على البقاء في قيد الحياة. ولقد جيءَ بأماكن الصُّمودفي ضِمْنِ مقاربةٍ تكميليَّةٍ حمائيَّةٍ، إذ جُمِعَ فيها العَوُن والانتعاش، لا بمعالجة الحاجات الماسَّةِ فحسب، بل بذلك وبتقوِيَةِ القدرات المحليَّة. ويجمع الإطار بين مقاربةٍ حمائيَّةٍ تنازليَّة، أي من الأعمِّ إلى الأخصِّ، وبين مقاربةٍ لبناءِ القدرات تصاعديَّةٍ، عن طريق ثلاثة مجالات من التدخُّل: إتاحة فرص في التعليم والاقتصاد والعمل، وتقوية التماسك الاجتماعي، ودّعْم القدرات القيادية. ولقد استعملت مقاربات كهذه في مشاريع مختلفة في ألتوس ديلا فلوريدا، فأدَّى ذلك إلى إنشاء مكانَي صمودٍشعبيِّيَن في هذه المستوطنة غير الرسمية: كوميتي دي إمبولسو، وهو اجتماع نِصْف شَهري بين قادة المجتمع المحلي، والسكان، وجمعيات النَّازحين داخلياً، والعاملين في الجال الإنساني، وهناك فلوريدا خوفونيل، وهي منظمة مجتمعيَّة للشباب، أنشأتها جماعات الرَّقْص والمسرح وكرة القدم في الحيِّ.

ويعمل كوميتي دي إمبولسو على بناء التَّآزر بين المنظمات، والمجتمع المحلي، والسلطات، والقطاع العام، لجعل الاستجابة الإنسانية أكثر استدامةً. ثم إنَّ اجتماع القادة المحليِّين في اللجنة، وتمكين المجتمع المحليِّ من معالجة مسائل الحيِّ، هما جزءٌ قائمٌ بنفسه في بناء الصُّمود. وأمَّا منظمة فلوريدا خوفونيل -التي تقول مقاربتها إنَّ الحماية تأتي بالتمكين- فقد نشأت من مبادرةٍ من منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف)، ولا يزال الدعم يرد عليها من المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، ومن مؤسسة كايرُس، ومن الجمعية اليسوعية لخدمة اللاجئين. وقادة منظمة فلوريدا خوفونيل شبابٌ من الحيِّ، بدؤوا طلاباً مع مجموعة رقصٍ (اسمها فريق 180 "180 Crew" والرقم هو عدد الشباب الذين في المنظمة).[4]

ذلك، وقد بَرَزَ الصُّمود من حيث هو أقوى الاستجابات للصَّدْعِ الذي بين المجال الإنساني والمجال التنموي، ودعوةٌ إلى طريقةٍ عملٍ جديدةٍفي لَأْمِ هذه الصَّدع. ثم إنَّ العمل في ألتوس ديلا فلوريدا المشترك بين الجهات الفاعلة في المجال الإنساني والمجال التنموي، بالتعاون مع نظرائها المحليِّين والوطنيِّين، إنَّما يَقْصِدُ إلى تقليل احتمال الخطر ومواطن الضعف في الأمد القصير والمتوسط (أي من ثلاث سنوات إلى خمس سنوات). والهمُّ هنا مركوزٌ في ثلاثة معايير، يزداد الاعتراف بها وعدُّها ضرورةً في الاستجابة الحضرية للتَّهجير، وهي: التكامل والقدرة على الاتصال والاستدامة.

وتعمل الجهات الفاعلة الدولي في ألتوس ديلا فلوريدا على تقوية النُّظُم المحليَّة والوطنيَّة، لا على إبدالها بغيرها. فلقد سعت إلى التعاون مع مُتِيحي المعونة المحليِّينَ والوطنيِّينَ، وإلى إشراك السلطات المحلية والبلديات في التخطيط والبرمجة، وتعمل هذه الجهات الفاعلة الدولية أيضاً على تمكين قادةٍ للمنظَّمات غير الحكومية المحلية والوطنية وللمنظمات الأهلية، وذلك عن طريق تنمية قدرتهم على القيادة والإدارة والتنسيق، وعن طريق إعانتهم على استعمال أدوات التواصل الاجتماعيِّ بالإنترنت، لكي يناصروا مع السلطات المحليَّة. إذ كلٌّ من الاستدامة والصُّمود معتمدٌ على هذه القدرة على التعاون، ومعتمدٌ أيضاً على تقوية القدرات المحلية والوطنية. وتقوم المقاربة التي في ألتوس ديلا فلوريدا على أساسٍ من الصُّمود، مُتَّخذةً إيَّاه وسيلةً للحماية. وهذه الحماية، من بعدُ، إنَّما هي عاملٌ رئيسٌ في معالجة الأسباب الأصليَّة للتَّهجير الحضري.

بابلو كورتِس فِرناندِز pablo.ferrandez@idmc.ch

باحثٌ، في مشروع الاستعداد والصُّمود لمعالجة مواطن الضعف في المناطق الحضريَّة، الذي يتبع برنامج أُفُق 2020؛ وباحثٌ مشاركٌ، في مركز رصد النزوح الداخلي www.internal-displacement.org

 

[1] CNMH (2010) Una nación desplazada. Informe nacional del desplazamiento forzado en Colombia’,  p38 bit.ly/29uyNzv

 (أمة مُهجَّرة. تقريرٌ وطنيٌّ عن التَّهجير في كولومبيا) 

[2] استندت هذه المقالة إلى مشروعِ بحثٍ أجْرِيَ بين عام 2015 و2018 في ألتوس ديلا فلوريدا، واشتمل على 211 دراسةً استقصائيةً للأسر المعيشية، و98 لقاءً مُتعمَّقاً، وثلاث مناقشات توضيحيَّةٍ، وثلاث مناقشات جماعية مُركَّزة. ولقد ورد على المشروع تمويلٌ من برنامج البحث والابتكار الذي يتبع برنامج الاتحاد الأوروبي: أُفُق 2020، عن طريق اتفاقيَّةِ منحةٍ من برنامج ماريا سكلادوسكا-كوري، رقمها 691060.

[3] Econometría Consultores (2016) ‘Evaluación externa del programa “Construyendo Soluciones Sostenibles-TSI”’, Econometria SA, p19

إخلاء مسؤولية

جميع الآراء الواردة في نشرة الهجرة القسرية لا تعكس بالضرورة آراء المحررين ولا آراء مركز دراسات اللاجئين أو جامعة أكسفورد.