خياراتٌ ناشئةٌ لحلولٍ دائمةٍ في دارفور

ما يزال النّازحون داخلياً في دارفور يواجهون صعوباتٍ في إيجاد حلٍّ دائمٍ لنزوحهم. ولقد يجد بعضهم في الأحداث الأخيرة أملاً جديداً، ولكنَّ التحدِّيات المعقَّدةَ باقيةٌ.

أدَّى النِّزاع الذي اندلع في دارفور عام 2003 إلى انتهاكات واسعة النِّطاق لحقوق الإنسان، وإلى تهجير عددٍ كثيرٍ من الناس في كلٍّ مكانٍ في المنطقة. ودمَّر النِّزاع البنية التحتية، وأضرَّ التماسك الاجتماعي والاستقرار المجتمعي، ونقَّصَ الوظائف وسُبُلَ المعيشة تنقيصاً خطيراً. ومع اضمحلال الثقة بحال البلد، قلَّ الاستثمار أيضاً في التنمية التي يُحتَاجُ إليها احتياجاً ماساً في المنطقة. وجاء في اللمحة العامة عن الحاجات الإنسانية في السودان لعام 2018[1]، أنَّ نحواً من 1.6 مليون نازحٍ داخلياً في دارفور يعيشون في المخيَّمات. وتُقدِّر الأمم المتحدة وشركاؤها أنَّ 500 ألف نازحٍ غيرهم يعيشون في المجتمعات المضيفة والمستوطنات.

ولقد أحْرِزَ تحسُّنٌ في الحال السياسية بالتوقيع على وثيقة الدوحة للسلام في دارفور[2] في شهر مايو/أيار من عام 2011، بين الحكومة السودانية وبعض جماعات المعارضة المسلحة. ومع ذلك، ما يزال التحسُّنُ في أمر العودة وغيرها من الحلول الدائمة في جميع أنحاء دارفور قليلاً، بسبب استمرار الأعمال القتالية وانعدام الأمن، ثم إنَّ ما نشأ بسبب ذلك من تهجيرِ عدد كثيرٍ من النَّازحين داخلياً، إنما يُثِيرُ تحدِّياً مستمراً لإجابة حاجاتهم الأساسية والحفاظ على مستوى معيشةٍ لائق، ويضغط على البنية التحتية الحضرية ضغطاً شديداً. فلا بدَّ من ازدياد استكشاف الحلول الدائمة للتَّهجير، تلك الحلول القائمة على مبادئ الطوعية، والأمان، وصَوْن الكرامة، التي تَركُزُ همَّها في تعزيز قدرة المجتمعات المحلية على الاعتماد على النَّفس، ودَعْمِ فُرَصِ المعاش في مناطق العودة الطوعية، ومعالجةِ العبء الواقع على القدرة الاستيعابية الحضرية والريفية.

وعلى السلطات الوطنية المسؤولية الرئيسية عن وضع إستراتيحيةٍ للحلول الدائمة وعن تنفيذها. ففي شهر ديسمبر/كانون الأول من عام 2015، أعلن نائب الرئيس السوداني حسبو عبد الرحمن عَزْمَ الحكومة على إنهاء التَّهجير في دارفور قبل عام 2017، مُقترِحَةً أن يختار النّازحون داخلياً بين خيارَين اثنين: إمَّا العودة إلى مناطقهم الأصلية، وإمَّا الاستقرار في المناطق التي هُجِّروا إليها، فتُحوَّل حينئذٍ مخيمات اللاجئين إلى مناطق سكنية. ثم أعلن سياسيُّون آخرون رفيعو الشأن ما يشبه ذلك، ومنهم الرئيس عمر البشير في شهر نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2017. وفي شهر أغسطس/آب عامَ 2016، أشارت تقارير إلى أنَّ مفوضية العون الإنساني (وهي جزءٌ من وزارة الشؤون الإنسانية في السودان) وزَّعت استقصاءَ نيَّةٍ بين المهجَّرين، مُتِيحةً لهم خياراً ثالثاً، وهو إعادة التوطين في مكانٍ ثالث.[3]

وقد عبَّر النّازحون داخلياً في كلِّ دارفور عن رفضهم خُطَطَ الحكومة لإغلاق مخيَّمات النَّازحين داخلياً، والحجة في ذلك أنَّ العودة الطوعية إلى مناطقهم الأصلية غير ممكنةٌ في ظلِّ غياب اتِّفاق سلامٍ شاملٍ، يُتِيحُ الأمن والاستقرار والعدالة والحصول على الخدمات الأساسية، وعلى التعويض عن أضرارهم، وعلى حقوقهم في الأرض. وأكَّد النّازحون داخلياً أنَّ الظروف ليست مناسبةً ليستطيعوا بَدْءِ عَيْشٍ جديدٍ في مناطقهم الأصلية أو ليستقرُّوا في مناطق أخرى استقراراً مستداماً. فضلا على ذلك، صار اليومَ كثيرٌ من النَّازحين داخلياً معتادين العيشَ في بيئةٍ حضريةٍ، ويتوقَّعون أن يجدوا في مناطقهم الأصلية مستوىً من الخدمات شبيهاً.

ومهمٌّ أن يُفْهَمَ في هذا السياق أنَّ العمل على إيجاد حلولٍ دائمةٍ يعني التقليلَ التدريجيَّ للحاجات ومواضع الضعف في المجتمعات المحلية المتأثرة بالتَّهجير، مع تقوية قدراتها وإحكام مهاراتها وتعزيز صمودها. ويُحدِّدُ إطارُ الحلولِ الدائمةِ لمشكلة النَّازحين داخلياً الذي وضعته اللجنة الدائمة المشتركة بين الهيئات، ثلاثةَ خياراتٍ لتحقيق هذه الغاية، تَدْعَمُها مبادئ الطوعيَّة، والأمان، وصَوْن الكرامة، وعدم التمييز، وهي: 1) عودة النازحين إلى مناطقهم الأصلية أو مناطق إقامتهم المعتادة، 2) والاندماج المحلي في المناطق التي لجأ إليها النازحون، 3) والاستقرار في أماكن أخرى في البلد.[4] ومع ذلك، ليس مجرَّدُ العودة أو الاندماج المحلي أو استقرار النَّازحين داخلياً في أماكن أخرى في البلد حلولاً دائمةً بالضرورةِ. إذ يجب أن تكون الخيارات ممَّا يُمْكن تنفيذها، ويُحتمَل لها الاستمرار، ويَطُول دوامها.

والرَّاجِحُ أن يكون دَوْرُ البعثة المشتركة للاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة في دارفور والجمعيات الإنسانية، قبل كلِّ شيءٍ، هو دَعْمُ النَّازحين داخلياً ليتَّخذوا قرارات طوعيةٍ صادرةٍ عن علْمٍ لمستقبلهم. ومع ذلك، لا يمكن أنْ يختار النازحون خياراً طوعياً، صادراً اختياره عن علمٍ، إلاّ بفَهْمٍ مُحْكَمٍ للظروف التي في الواقع، وفَهْمِ الآثار المترتبة على كلِّ خيارٍ. ومن هذا القبيل أيضاً، أنَّ البعثة المشتركة للاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة في دارفور والمنظمات الإنسانية لا تستطيع أن تُخطِّطَ لدَعْمِ النَّازحين داخلياً دَعْماً ناجعاً من غير فَهْمِ بعضٍ من نيَّاتهم. ولذا، الحصول على مزيد معلوماتٍ حول نيَّات النَّازحين خطوةٌ أولى أساسية في دَعْمِ إيجاد حلولٍ دائمةٍ دَعْماً نافِذَ المفعول.

الخيار 1: العودة
جاء في اللمحة العامة عن الحاجات الإنسانية، أنَّ نحواً من 386 ألفَ عائدٍ، عادوا طوعياً إلى مناطقهم الأصلية في جميع أنحاء السودان، ومن ذلك دارفور. وكانت حالات العودة تلك مزيجاً من تنقُّلٍ دائمٍ وموسميٍّ، إذ عاد بعض الناس إلى مناطقهم الأصلية مؤقتاً قاصدين سُبُلَ المعيشة.

ولكنَّ تجربة الناس الذين عادوا عودةً دائمةً، إلى الآن، تفتح سبيلاً إلى الشكِّ في استدامة حالات العودة عموماً. فقد قال كثير من الناس إنَّ تحدياتٍ شديدةً تحدَّتهم في إعادة بناء عَيْشهم، ومن ذلك الافتقار إلى ما يكفي حاجاتهم من خدماتٍ أساسيةٍ وفُرَص معيشةٍ. وفضلاً على ذلك، كان التنازع في ملكية الأراضي عند بعض الناس مسألةً خطيرةً، ففي بعض المناطق التي وقعت فيها حالات العودة، عاد العائدون ليَجِدوا غيرهم استقرُّوا في مساكنهم منذ أن حدث التَّهجير الأصلي.

الخيار 2: الاندمَاجُ المحليُّ
أقام أغلب النازحين في مخيماتٍ شبه حضرية أو مخيماتٍ حضريةٍ أو في أماكن تشبه المخيَّمات، وذلك منذ اندلاك النِّزاع، فأصبح أغلب النازحين (ولا سيمَّا الشباب) يتحضَّرون أكثر فأكثر. وما يزال الاندماج المحليُّ يحدث من السنوات القليلة الماضية على الرغم من غياب الدعم الخارجيِّ المباشر. وما تزال المساعدة الإنسانية تَرِدُ على الناس، غير أنَّهم يشاركون أيضاً في سوق العمل المحلية، وفي الاتِّجار في الأسواق التجارية، وفي الحصول على الخدمات الأساسية كالتعليم أو الرعاية الصحية، لأنفسهم أو لأطفالهم، ويستعملون البنى التحتية المجتمعية الأخرى، مثل المحاكم. وهذا حدا السلطات المحلية في عدة مواقع على إدراج السكان النازحين في تخطيطها الحضري، كما هي الحال مثلاً في نيالا، جنوبيَّ دارفور.

وعلى الرغم من التركيز السياسي في حالات العودة، فالاندماج المحليُّ هو واقعٌ عند كثير من النازحين، بأدلَّةٍ تشير إلى أنَّ الأُسَرَ ستستمرُّ في الاندماج في المجتمعات المحلية لأنَّها تتطلَّع إلى سُبُل المعيشة الحضرية، وإلى العَيْشِ قُرْبَ الخدمات الأساسية التي بين يديها، بالقياس إلى تلك التي في المناطق الأصلية. وإذ قد كان الأمر كذلك، فمحتملٌ أن يكون بين حالات العودة والاندماج المحليِّ شيءٌ من السلاسة، فلقد تُقرِّرُ الأسر أن تمضيَ في الأمرين معاً في الوقت نفسه. هذا، وستساعد المعلومات المُحسَّنة والتوصيف المُحدَّث لمخيَّمات النَّازحين داخلياً والمقيمين فيها على التنبُّؤ بالميل المستقبلي وعلى الإرشاد عند وَضْعِ البرامج.

الخيار 3: إعادة التوطين
ما سُجِّلَ من حالات إعادة التوطين في دارفور أقلُّ من حالات العودة أو الاندماج المحلي. وإلى الآن، المبادرة الرئيسية الوحيدة لإعادة التوطين هي في ساكالي، جنوبيَّ دارفور، حيث كانت تُخطِّطُ وزارة التخطيط العمراني ومفوَّض نيالا، لتخصيص قطعٍ من الأرض للنازحين داخلياً الذين نزحوا من سالكالي واليومَ يقيمون في ضواحي مدينة نيالا. ولقد خصَّصوا أيضاً أراضٍ لـ1614 أسرةً من مخيم الصريف للنَّازحين داخلياً، وأدمجوا الأُسَرَ في المجتمعِ المحليِّ في نيالا. وسيُمْنَحُ 1800 نازحٍ داخلياً غيرهم قطعاً من الأرض. وفي الواقع، يُحتمَلُ أن يكون في جزءٍ من هذه الحالات -التي قد تبدو في الظَّاهر حالات عودةٍ أو اندماجٍ محليٍّ- صورةٌ من صُوَرِ إعادة التوطين. ونظراً إلى مسائل الأراضي المذكورة آنفاً، هاجر بعض العائدين إلى المناطق العامة المجاورة التي كانوا يوماً فيها يقيمون، ولكن ليس إلى مساكنهم الأصلية أو قراهم الأصلية. وفي الوقت نفسه، يغلب على النازحين الذي مضوا في الاندماج المحلي أنْ ينتقلوا إلى خارج المخيمات، إلى ما يحيط بها من مناطق حضرية أخرى.

وقد بنت الحكومة وبعض الجهات المانحة الثنائية مساكنَ للعائدين في ما تسميه ’قرى العودة النموذجية‘، من خلال التزاماتٍ ماليةٍ أساساً، لمرةٍ واحدة. ومثال ذلك، أنَّ مثل هذه القرى أنشأت في فاشا وبابا جنوبيَّ دارفور، وموَّلت إنشاءها الكويت وقطر، وفي كورتي وآرو في وسطَ دارفور، وموَّلت إنشاءها المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، وفي حبيلة كناري وبورتا في غربيِّ دارفور، وموَّلت إنشاءها جامعة الدول العربية والمملكة العربية السعودية. ومع كلِّ ذلك، أثارت تجربة هذه المشاريع أسئلةً حول استدامتها، ولا سيَّما في مسائل ملكية الأراضي واستمرار الاستثمار والصيانة. ويجرُّ المفهوم البديل ’لمراكز الخدمات‘ الانتباه، حيث تُبنَى منشآت ومرافق مشتركة قُرْبَ المجتمعات المحلية للعائدين، لتُتِيحَ الحصول على الخدمات الأساسية على مقربةٍ من مكان إقامة العائدين، ومن ثمَّ الاستفادة من وفورات الحجم.

المُضِيُّ قدماً
في ظلِّ الإطار الإستراتيجي المتكامل بين عامي 2017 و2019، اتفق كلُّ من البعثة المشتركة للاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة في دارفور وفريق الأمم المتحدة القطري على أنَّ التخطيط للحلول الدائمة للمهجَّرين، إنَّما ينبغي أن يجري خلال مقاربةٍ قائمةٍ على مراعاة المناطق. ففي البدء، رُكِزَ العمل المشترك في ثلاث مناطق تجريبية: أبو شوك والسلام في شماليِّ دارفور، من حيث هما نموذجان للحلول الدائمة للنّازحين داخلياً في المناطق الحضرية، وأم دخن في وسط دارفور، التي ينصب الهمُّ فيها على العائدين من نازحين داخلياً ولاجئين، في سياقٍ ريفيٍّ. ولقد ساعد الفريق العامل في الحلول الدائمة، الذي فيه البعثة المشتركة للاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة في دارفور والفريق القطري للعمل الإنساني، على وَضْعِ أدواتٍ لرصد الحلول الدائمة، ومن ذلك الجوانب التي لها صلةٌ بالجندر وحقوق الإنسان، واستدامة اندماج المهجَّرين وإعادة إدماجهم. ولكنْ على الرغم من الجهود التي تبذلها البعثة المشتركة للاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة في دارفور، بالتعاون مع المؤسسات الوطنية ذات الصلة بالأمر، فالحكومة السودانية هي التي تتحمَّل المسؤولية الأساسية عن معالجة النُّزوح الداخلي، وذلك عن طريق حماية النَّازحين داخلياً وإعانتهم، وعن طريق تهيئة الظروف المُؤدِّيةِ إلى حلولٍ آمنةٍ، دائمةٍ، طوعيةٍ، في دارفور.

هذا، وتنصُّ خطة الاستجابة الإنسانية للسودان لعام 2019[5] على أنَّ نحواً من 1.86 مليونَ إنسانٍ في السودان، وفيها دارفور، إمَّا سيستمرون في العَيْشِ في حالةٍ من النُّزوح الداخلي الذي يطول أمده، أو سيُهجَّرون من جديد. وكما في السنوات الأخيرة، يُتوقَّع من بعض حالات العودة والاندماج المحليِّ للنازحين أن تستمرَّ. وفي أثناء ذلك، قال مسؤولون رفيعو المستوى من الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي، في شهر أغسطس/آب من عام 2019، لمجلسِ الأمْنِ إنَّ في تنصيب حكومةٍ انتقاليةٍ جديدةٍ في السودان فرصةٌ لإعادة الاستقرار الطويل الأمد في دارفور.[6]ولكي تتحقق هذه الغاية، لا بدَّ أنْ يُفْهَمَ أمرٌ، وهو أنَّ حلَّ النُّزوح الداخلي (ومَنْعَ وقوع التَّهجير في المستقبل) إنَّما يرتبط برابطٍ لا ينفكُّ عن تحقيق السلام والاستقرار الدائمين. فمن جهةٍ، قد تكون المشكلات غير المحلولة سبباً لعدم الاستقرار، ومن ثمَّ تهديداً بأن تصير جهود بناء السلام هباءً منثوراً. ومن جهةٍ أخرى، لا يمكن تحقيق حلولٍ دائمةٍ، ولا سيَّما في العودة، للنّازحين داخلياً ما دام الأمن معدوماً، والأملاك غير ممكنٍ استردادها، وظروف الحلول المستدامةٍ غير واقعةٍ.[7]ولذا، سيكون على السلطات السودانية الجديدة مهمةٌ صعبةٌ ومعقدةٌ، لأنَّ الدَّعْمَ المزداد ازياداً كثيراً للحلول الدائمة في دارفور، سيقتضي توسيْعَ الخدمات الأساسية، وتعزيْزَ الأمن وحُكْم القانون في المناطق التي يعود إليها العائدون، وفتْحَ طريقٍ مستدامةٍ إلى المتضررين، ومُعَالجةَ أسباب النِّزاع الأصلية.

زوراب إلزاروف zelzarov@yahoo.com

رئِيسُ مركز العمليات المشتركة، في البعثة المشتركة للاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة في دارفور (اليوناميد) https://unamid.unmissions.org

كلُّ ما ورد من آراءٍ في هذه المقالة هي آراء كاتبها وقد لا تستوي هذه الآراء وآراء البعثة المشتركة للاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة في دارفور.

إخلاء مسؤولية

جميع الآراء الواردة في نشرة الهجرة القسرية لا تعكس بالضرورة آراء المحررين ولا آراء مركز دراسات اللاجئين أو جامعة أكسفورد.