النّازحون داخلياً في شرقيِّ بيروت ضدُّ السُّلطة اللبنانية

تأتي في هذا العام الذكرى السنوية الثلاثون لاتفاق الطائف الذي أنهى رسمياً الحرب الأهلية اللبنانية التي دارت رحاها بين عامَي 1975 و1990. ولكنْ بعد ثلاثة عقود، ما تزال بعض الجماعات نازحةً داخلياً بسبب أفعال الدولة.

الطرَفُ الشرقيُّ من بيروت، المعروف باسم الكرنتينا، هو حيٌّ منخفض الدَّخلِ، يُتاخِمُه من الشرق نهر بيروت، ويُحِيطُ به من الغرب والشمال الميناء. وفي أواخر القرن التاسع عشر، نزلت قبيلةٌ بدويَّةٌ سُنيَّةٌ من رعاة الماشية العرب في الكرنتينا، فافتتحت مسلخاً إلى جانبِ أسواقٍ أسبوعية للمواشي واللحوم (وذلك على الرغم من أنَّ ملكية الأرض لم تكن قانونيةً إلا أيامَ كان الانتداب الفرنسي بين عامَي 1920 و1943). ولمَّا كان هؤلاء المُقِيمونَ مربوطون بهذه التجارة، صاروا يُعْرفون باسم عرب المسلخ.

ثم احتاج المسلخ وما فيه من صناعاتٍ ثانويةٍ إلى توظيف العمَّال سريعاً، فتدفَّق العمال المهاجرون واللاجئون إلى المنطقة بحثاً عن سُبُل المعيشة. حتَّى إذا جاءت السنوات التي سبقت الحرب الأهلية اللبنانية، صار للحيِّ سُمْعةُ حيٍّ فقير، إذ عاش فيه نحوٌ من 30 ألفَ عاملٍ في أكواخ مَزحُومةٍ من خشبٍ ومن قصدير. وكان من بين ساكني الحيِّ الفقير خليطٌ من اللاجئين الأرمن والأكراد والفلسطينيِّين، عاشوا قُرْبَ العمال المهاجرين الريفيين، اللبنانيين والسوريين. وقد حوَّلَتْ إضافة هؤلاء السُّكان الجدد إلى عرب المسلخ، على مرِّ السنين، الحيَّ إلى حارةٍ للمسلمين غالباً داخلَ شرقيِّ بيروت المسيحيِّ.

ولقد كان تهجير سكَّان الكرنتينا أوَّل إبعاد عامٍّ قسريٍّ يقع في الحرب الأهلية اللبنانية. إذ هاجمت ميليشْيات مسيحية يمينية، بدوافع طائفية وسياسية، الحيَّ في شهر يناير/كانون الثاني من 1976، وكان ذلك الهجوم جزءاً من خطة أوسعَ لتقسيم البلد والعاصمة إلى مناطقَ طائفيةٍ مُنفصِلةٍ. فكان يُرَادُ لشرقيِّ بيروت أن يصبح مسيحياً، ولكنْ وقف في الطريق إلى ذلك هذا الحيُّ الذي أغلب سكَّانه من المسلمين. وعُرِفَ هذا الحدث من بعدُ باسم مجزرة الكرنتينا، فقد أدَّى إلى قتل ألفٍ وخمس مئة إنسانٍ وإلى تهجير مَنْ بقي حياً. ولمَّا كان موقع حيِّ الكرنتينا إستراتيجياً، حُوِّلَ إلى مقرٍّ عسكريٍّ للميليشْيات المحلية، وأغلب المباني التي يملكها السكان الأصليُّون إمَّا دُمِّرت وإمَّا جعلتها القوات المُحْتلَّة قواعد لعمليَّاتها. وقد قدَّر السكان المحليُّون أنَّ عدد الأسر التي تأثَّرت بالتَّهجير يقع بين 500 و600 أسرة.

وقد تمكَّنت اليومَ نسبةٌ قليلةٌ من هؤلاء السكَّان، الذين لم تُدمَّر ممتلكاتهم تدميراً كاملاً أو لم تُحوَّل إلى قواعد خلال الحرب، من العودة إلى مساكنهم (أي نحوٌ من 40 عقاراً). وقالت معظم هذه الأسر إنَّ التعويض المحدود الذي دفعته وزارة المهجَّرين لم يكن كافياً واقتضى أموالاً شخصيةً إضافية. وأمَّا الباقون من السكان، وهم 80%، فلم يستطيعوا العودةَ بسبب بعضِ عقباتٍ فرضتها الدولة.

تهجيرٌ طال أمده وأغمضت عنه الدولة

على الرغم ممَّا في اتفاق الطائف من بيانٍ واضحٍ لحقِّ كل مواطنٍ في العودة من المكان الذي هُجِّرَ منه، أخفق نصُّ الاتفاق في معالجة سيناريوهات محدَّدة كحالة الكرنتينا. إذ يحول اليومَ دون عودة جماعة عرب المسلخ عودةً تامة، أولاً، استمرار وجود الجيش اللبناني في أملاك هذه الجماعة، وثانياً، قانون مجلس النواب الذي رقمه 322 الصادر في عام 1994، الذي استبعد المدن من استثناءٍ خاصٍّ لقواعد البناء للنّازحين داخلياً.

وأمَّا الجيش اللبناني، الذي يُمثِّلُ الدولة، ففي محاولةٍ لإعادة تأكيد سيادته أرضَ لبنان، سيطر على قواعد الكرنتينا، بيد أنَّه لم يُبْدِ نيَّةً، مع مرور الوقت، لنقل قواته من هناك. فواجه السكان المحليُّون من بعدُ حملاً ثقيلاً، ألا وهو المفاوضة مع كيانٍ من السُّلطة اللبنانية في استرداد الأملاك. إذ قال أحد المتحدِّثين بلسانهم: "لقد تحوَّل حالنا من سيناريوهٍ فيه احتلالٌ مخالفٌ للقانون يرتكبه أفراد ميليشْيات، إلى احتلالٍ قانونيٍّ تفرضه الدولة".[1] وبعد ثلاثة عقودٍ، ما يزال الجيش يدير القواعد على 75 عقاراً من الأملاك الخاصة، فمَنَعَ هذا هؤلاء الناس من المطالبة بأرضهم.

وفي ختام الحرب، تعاملت وزارة المهاجرين مع المدنيين، ومع الأملاك المُسْتحَلَّة، بدَفْعِ تعويضاتٍ للأُسَرِ المُستحِلَّة من أجل إخلاء الأملاك الخاصة، والسماح لأصحابها الحقيقيِّين بالعودة إليها.[2] ولكنْ لم يُتَّخذ شيءٌ من هذه التدابير لمعالجة كَوْنِ الجيش اللبناني هناكَ. ولم يجرؤ أيُّ سياسيٍّ أو شخصيَّةٍ معروفةٍ على اتِّخاذ موقف رسمي، ومن ثمَّ اضطُرَّ عرب المسلخ إلى محاولة الدخول في مهمة دقيقية، ألا وهي المفاوضة بينهم وبين جهازٍ يتبع الدولة اللبنانية، ولكنْ على غير طائل.

ولقد كان يُقصَدُ من قانون مجلس النواب الذي رقمه 322 إلى تنظيم إعادة الإعمار من جهة، ولكنْ من جهةٍ أخرى، إلى جَعْلِ الوصول إليه أيسر، عن طريق تخفيض رسوم تصاريح البناء وغير ذلك من التكاليف القانونية، غير أنَّ البند الأوَّل من المرسوم يستثني سُكَّان المُدُن من هذه المنشآت الجديدة.[3] فكان لذلك أثرٌ في كلِّ النازحين داخلياً في بيروت، ولا سيَّما مَن بقي من عرب المسلخ. وفي مواجهة الكلفة الباهظة لتصاريح البناء وغيرها من الرسوم التي لها صلة بها، اضطُرَّ الذين لم تُدمَّر مبانيهم، بالقصف أو بالقتال، إلى أن يعودوا ويستقرُّوا في ظروف دون السويَّة المقبولة (40 عقاراً)، ولكنْ لم يستطعْ كثيرون غيرهم العودةَ بسبب أضرارٍ لا يمكن إصلاحها أصابت أملاكهم، أو دمارِ أملاكهم دماراً تاماً (50 عقاراً).

وكلما طال أمد الوضع الراهن، زادت التحدِّيات. فمنذ أن نشأت هذه الحال، قبل 30 سنة ونيِّف، والأسر المتضررة تنمو وتتضاعف، وهذا أنشأ شبكةً من المطالبين بحقوقهم أكثر تعقيداً. واليومَ، قد تُوُفِّيَ كثيرٌ من مالكي الأراضي الأصليين في الكرنتينا، تاركين عشرات الورثة ليشتركوا في ملكية أرض واحدة أو يتقاسموا الجزء الذي يصغر أكثر فأكثر من قيمة العقار.

أسباب سَلْبِ أملاك لاجئي الكرنتينا وعمَّالِها المهاجرين متعدِّدةٌ، وتُضاعِفُها المصالح الاقتصادية في الأملاك المرغوب فيها والباهظ ثمنها. وكلُّ الأطراف، نعم كلُّها، مسؤولةٌ عن حال عرب المسلخ اليومَ التي يُؤْسف لها، والتي هي في حالة نزوحٍ داخليٍّ طال أمده، وطالت فيها خيبة الأمل في العودة.

ديالا لطيف diala.lteif@mail.utoronto.ca

قسم الجغرافية والتخطيط المدني، في جامعة تورونتو www.utoronto.ca

 

[1] اتصالٌ خاصٌّ، في ١٨ يناير/كانون الثاني من عام ٢٠١٩.

[2] انظر:‘معالجة قضيَّة التَّهجير الناجم عن الحرب في لبنان’، جرجس عسَّاف ورنا الفيل، نشرة الهجرة القسرية، العدد ٧، ٢٠٠٠

www.fmreview.org/ar/land-and-property-issues

[3] قانون رقم 322، صادرٌ في 24/3/1994، المادة 1. يمكن قراءة نصِّ القانون باللغة العربية فيما يلي:

www.ministryofdisplaced.gov.lb/Cultures/ar-LB/Programs/buildingpermits/Pages/Law322.aspx

إخلاء مسؤولية

جميع الآراء الواردة في نشرة الهجرة القسرية لا تعكس بالضرورة آراء المحررين ولا آراء مركز دراسات اللاجئين أو جامعة أكسفورد.