إعادة الإدماج السياسي والاقتصادي: مفتاح العودة الناجحة

يقتضي أمْرُ اللاجئين والنازحين داخلياً من الجهات الفاعلة الوطنية والدولية بذلَ جهود متضافرة لضمان إعادة إدماجهم إدماجاً ناجحاً في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في بلادهم الأصلية.

تُظهِرُ بواعث التَّهجير غالباً انقطاعاً في العلاقة بين الدولة ومواطنيها، وهذا يدلُّ على عجز الدولة عن الوفاء بالتزامها حمايةَ مواطنيها من النِّزاع العنيف. وإصلاح هذه العلاقة أمرٌ عظيمٌ شأنه، وإعادة الإدماج السياسي للاجئين والنازحين داخلياً هو أساس نجاح إعادة الإدماج. ويشتمل هذا على إشراك الأفراد في الوضع السياسي لبلادهم الأصلية، وذلك من خلال تمكينهم من التفاعل مع الحكومة، وإشراكهم في اتِّخاذ القرارات، لا أنْ يُتجاهَل وجودهم أو يُمنَعُوا من الوصول إلى السلطات المحلية.

العودة أمرٌ صعبٌ، ولا سيَّما إذا كان اللاجئون في المنفى زمناً طويلاً أو وُلِدُوا في التَّهجير. فخلال مدَّة تهجيرهم، تكون الظروف والبنى قد تغيَّرت أو جُدِّدت في البلد الأصلي. وفي بعض الحالات، ترى المجتمعات المحلية الأصلية اللاجئينَ أجانبَ. أمَّا النازحون داخلياً، فيمكن أنْ يواجههم من إعادة الإدماج تحدٍّ مختلفٌ قليلاً. وعلى الرغم من أنهم لم يخرجوا من حدود أرضهم الوطنية، جُعِلوا غالباً غير مرئيين، أو نُظِرَ إليهم في بعض الأحيان على أنهم غير مرغوب فيهم، فهُمِّشوا. وهم يعيشون في أحوال تشبه الأحوال التي فيها اللاجئون، وأحياناً في أحوال أسوأ منها، ويسكن قلوبهم الخوف من الاستغلال والعنف وانتهاكات حقوق الإنسان. وتواجه كلتا الفئتين في كثير من الأحيان التمييز والاستبعاد من المجتمعات المضيفة، وتفعل هذا بهم أيضاً السلطات المحلية والوطنية.

إنَّ انتهاكات الدولة على مواطنيها، ولا سيَّما التي يرتكبها جهازها الأمني، يُنشِئ فقدان الثقة عند الشعب، ومن بينهم العائدون. إذ اضطهاد الدولة (في سياقٍ تكون فيه ضعيفةً خصوصاً) هو في الغالب السبب الأوَّل لفرار الأفراد والأسر والمجتمعات المحلية من أرضها. ويقتضي نجاح عودة اللاجئين والنازحين داخلياً وإعادة إدماجهم تغييرَ العلاقة بين الدولة والمواطن وتحسينها، وذلك كي يستعيدوا مكانتهم من حيث هم أفرادٌ في المجتمع بكل ما تحمله الكلمة من معنى، مع المساواة في الحصول على الحقوق والخدمات الأساسية كما هو حالُ غيرهم من المواطنين.

ولَيَجِدُ المرء في بوروندي والسودان مثالَين جيِّدَين في معالجة هذه التحدِّيات التي تتحدَّى عودة اللاجئين والنازحين داخلياً.

بوروندي
منذ أن استقلَّت بوروندي عام 1962 وهي تشهد سلسلةً من العنف العرقي، تُدارُ مرةً بعد مرةٍ، بين الهوتو وهم السواد الأعظم في البلد وبين التوتسي وهم أقليَّةٌ فيه. ومع إرساء الاستقرار عقب اتفاق السلام الذي تُوصِّلَ إليه عام 2000، وإعادة انتخاب بيير نيكورونزيزا رئيساً عام 2010، عاد عددٌ كثيرٌ من اللاجئين البورونديِّين من البلاد المجاورة، أكثر من نصف مليون لاجئ بين عامي 2002 و2011. ولكنْ زعم العائدون عند عودتهم أنَّ عيون السلطات لا تراهم. وشعروا أنَّهم لا وجود لهم في الوضع السياسي، وأنَّ هذا، إلى جانب إساءةِ بعض مَن في السلطة استعمال سلطتهم، كان له تأثير في سبل معيشتهم ووصولهم إلى أراضيهم. وواجهت النساء خصوصاً تحديات صعبةً، إذ لا يحقُّ لهنَّ في ظلِّ القانون أن يرثن أرضاً.[1]

وفي عام 2015، ساء الحال في بوروندي وكاد البلد أن يعود إلى النِّزاع العنيف. إذ قال الرئيس بيير نيكورونزيزا إنه سيدخل الانتخابات لنيل ولاية ثالثة، فاختلف في الأمر فئات مختلفة من الشعب. ثم كان من ذلك أن استهدفت القوات الحكومية مَن عارض الرئيس، فانتشرت انتهاكات حقوق الإنسان، وفرَّ من البلد أكثر من 400 ألفِ بورونديٍّ منذ عام 2015 (وأكثر ما فرُّوا إليه تنزانيا ورواندا وأوغندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية).[2] وما تبيِّنه الحال البورونديَّة أنَّ على الرغم من انتخابات عام 2010، العملية السياسة في البلد غير مُكمَّلة. فقد أعرب العائدون عن شعورهم بأنَّ وجودهم مُتجاهَلٌ، وبأنَّ أصواتهم لا تُسمَع ولا هم يستطيعون التحدث إلى السلطات، وبأنَّ الفرص، ولا سيَّما الفرص الاقتصادية، معتمدةٌ على الانتماء السياسي. كلُّ ذلك كان يدلُّ على أنَّ المكاسِبَ السياسية التي اعتقد البورونديُّون، وفيهم العائدون، والمجتمع الدولي أنها حُقِّقتْ، كانت غير مستدامة.

السودان
جرت منطقة دارفور في غربيِّ السودان على أن تكون أرضاً واسعة تتعايش فيها جماعات الرحَّلِ والمزارعين وتتفاعل
. وكان من جرَّاءِ الهجرة السكانية وتغيُّر المناخ أنْ أصبحت العلاقة بين الجماعات المختلفة متوتِّرةً ومعرَّضة لأن تتحوَّل إلى نزاع، ويزيد ذلك شيئاً فشيئاً. ومع مرور الوقت، كان من هيمنة القبائل العربية في شماليِّ البلد، التي تزيد شيئاً فشيئاً، على الحكومة في الخرطوم، أنْ تفكَّكت الآليات الإدارية المحلية وزاد قمع القبائل غير العربية التي تعمل في الزراعة.

بدأ النزاع في دارفور عام 2003، فكان سبباً لنزوح داخليٍّ جماعي. ثم أعيد تقسيم دارفور في سياقٍ حضريٍّ غالباً، إلى ثلاث مدنٍ رئيسية وهي: الفاشر والجنينة ونيالا. فهذه نيالا، على سبيل المثال، وهي المدينة الثالثة كِبَراً في السودان، قد تضاعفت مساحتها ثلاثة أضعاف، بسبب النزوح الجماعي. ولقد بذلت السلطات السودانية بعض الجهود -بدعم من المجتمع الدولي- لدعم عودة النازحيين الداخليين وإعادة إدماجهم في مناطقهم الأصلية، لكنَّ احتمال العودة من حيث هي حلُّ دائمٌ نطاقُه مُوسَّعٌ كان ضيِّقاً دائماً، وذلك بسبب تغيُّرِ الواقع المرتبط بندرة الموارد الطبيعية، وتغيُّر علاقات القوة أيضاً، وهيمنةِ جماعات تدعمها الحكومة في الخرطوم.

ويُضافُ إلى ذلك، أنَّ طول مدة النزوح إلى جانب ضيق احتمال العودة وغياب سُبُل المعيشة التي يمكن العيش بها في الريف، كل ذلك عنى أنَّ عند اللاجئين المهجَّرين والعائدين فرصاً قليلةً، غير اتِّخاذِ الحضريِّ من أساليب حياةٍ وسُبُل معيشةٍ. وإذ قد كانت السلطات لا تبذل إلا قليلاً من الجهد لإحداث فرص اقتصادية حول المدن، فقد انتهى الحال بمعظم النازحين إلى القطاع غير الرسمي، وغَدَوْا لا يمكن تمييزهم عن فقراء الحضر غالباً. ولعل الدعوات الأخيرة إلى العدالة الاجتماعية والإدماج تُثِيرُ ما تحتاج إليه حال هؤلاء النازحين من اهتمامِ السلطات المحلية والوطنية.

التوصيات
يوضِّح مثالا بوروندي والسودان أنَّ عودة اللاجئين والنازحين داخلياً هي عملية متعددة الأبعاد، تقتضي اهتماماً بما للعودة وإعادة الإدماج من جوانبَ اقتصادية واجتماعية وسياسية ونفسانية. ونجاح العودة مرتبطٌ بالعمليات السياسية. ثم ليس في إجراء الانتخابات وشبه الاستقرار ضمانٌ لعودةٍ مستدامة ما لم يُسمَع صوت النازحين. وعظيمٌ هو شأْنُ التركيز في ضمان تحقيق أن تكون إعَادَةُ إدماج اللاجئين والنازحين داخلياً، السياسيَّةُ والاقتصاديَّةُ، عاملةً في بناء السلام وبناء الدولة، بعد انتهاء النِّزاع. وينبغي عدُّ عودة اللاجئين والنازحين داخلياً مرتبطةً في أساسها بالعلاقة بين الدولة ومواطنيها، ولذا ينبغي أن تقع العودة مع حوار اجتماعي ووطني لإرساء المصالحة والإدماج والمشاركة.

هذا، وينبغي أيضاً منح الأفراد منصةً متينةً ليُعبِّروا عن مظالمهم في جوانب مثل تخصيص الخدمات والفرص ببعض المؤيِّدين السياسيين. ثم ينبغي أن يكون بناء الثقة بين جهاز أمن الدولة والشعب هو المحور الذي يدور حوله الاهتمام وإنعام النظر. وينبغي إنشاء آليات للعدالة الاجتماعية، وذلك لضمان تحقيق المساءلة عن الجرائم المرتكبة، ومنها العنف الجنسي والجندري. وينبغي أن يكون في مثل هذه الآليات مرفقٌ للمُهَجَّرين ليطلبوا ردَّ حقوقهم (ومن ذلك العقار والأرض). وينبغي للمجتمع الدولي أن يضمن أنَّ الجهود المبذولة في سبيل تنسيق العمل الإنساني والإنمائي لتحقيق نتائج جماعية، لا تتجاهل عناصر بناء السلام. ويقتضي نجاح إعادة إدماج العائدين ألاّ تنصبَّ عملية السلام والعملية السياسية على العمليات السياسية الرسمية والمؤسسات فحسب، بل ينبغي أن تنصبَّا أيضاً على العائدين والمجتمعات المحلية.

باربارا لوكونكا barbralukunka@gmail.com

موظَّفةُ شؤون السلام والأمن في المنظمة الدولية للهجرة www.iom.int

بيتر دي كلِرك phjdeclercq@yahoo.com

بروفيسورٌ زائرٌ، في كلية الحوكمة، بجامعة وِتواترسراند www.wits.ac.za

كلُّ ما ورد من آراءٍ في هذه المقالة هي آراء كاتبَيْها وقد لا تستوي هذه الآراء وآراء المعاهد التي يعمل فيها كاتبا المقالة.


[1] لمزيد معلومات عن تحديات عودة اللاجئين في بوروندي، انظر:

 Lukunka B N (2018) ‘“They Call Us Witches”: Exclusion and Invisibility in the Burundian Returnee

Reintegration Process’, Peace and Conflict: Journal of Peace Psychology

("يُسمُّوننا سحرة": استبعاد العائدين البورونديِّين وتجاهل وجودهم في عملية إعادة إدماجهم) https://psycnet.apa.org/record/2018-39059-008 and Lukunka B N (2017) ‘The Romance of Return: Post-exile Lives and Interpersonal Violence over Land in Burundi’ in Buckley-Zistel S and Krause U (Eds) Gender, Violence, Refugees

(رومانسيَّةُ العودة: العيش في مرحلة ما بعد المنفى والعنف بين الأشخاص من أجل الأرض في بوروندي) www.berghahnbooks.com/title/Buckley-ZistelGender

[2] Human Rights Watch ‘Burundi: Events of 2017

(بوروندي: أحداث عام 2017)

www.hrw.org/world-report/2018/country-chapters/burundi

إخلاء مسؤولية

جميع الآراء الواردة في نشرة الهجرة القسرية لا تعكس بالضرورة آراء المحررين ولا آراء مركز دراسات اللاجئين أو جامعة أكسفورد.