شبه لاجئة تتحدث من القاهرة

دفعت الاضطرابات الناشئة في شمال أفريقيا والشرق الأوسط بالعديد من الناس إلى ترك منازلهم ودولهم. ومن هؤلاء سيدة، تتمعن في الخيارات المتاحة أمامها وهي توشك على مغادرة القاهرة.

"وأنا أحزم أمتعتي، وألقي بألعاب ولديّ الصغيرين في الحقائب، انتابني فجأة شعور بالقلق والخوف. ماذا لو انتهى بحثنا عن الأمان خلال هذه الأيام العصيبة التي تشهدها القاهرة بأطول مما نتوقع؟ ماذا لو لم نتمكن من العودة للوطن؟

ومع تصارُع الأفكار في ذهني لتحديد وجهتنا وماذا سنفعل حال حدوث الأسوأ، تذكرتُ أولى أيام عملي مع المفوضية العليا للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين عام ١٩٩٨. وقد مست قراءة دليل الإجراءات والمعايير الواجب تطبيقها لتحديد وضع اللاجئين، كجزء من التدريب على وظيفتي الجديدة كمساعد حماية في مكتب المفوضية بالقاهرة، وتراً حساساً داخلي. لقد أحسست دائماً أن الحاجة لترك الوطن والسعي لطلب اللجوء في بلد آخر ليست احتمالاً غريباً عن العديد من الناس في الشرق الأوسط؛ ذلك لأن الأمور لم تكن مستقرة ولا يمكن الاعتماد على آليات التعامل مع المصاعب المتأصلة، كأقل ما يقال. وشعرت كذلك بصلة قوية تربطني بطالبي اللجوء في مصر والتعاطف معهم. وليس ذلك لأنني واجهت مثل هذا الموقف؛ وإنما، وببساطة، لأنني عشت في الشرق الأوسط وأعلم أن ذلك يمكن أن يحدث لمن شاءت أقداره أن يعيش هناك في أي وقت.

عندما قامت ثورة ٢٥ يناير/كانون الثاني ٢٠١١ في القاهرة وعدد من المدن المصرية الأخرى، كان من الصعب التنبؤ بما ستؤول إليه الأمور؛ إذ ازدادت أعداد وأحجام التظاهرات والاحتجاجات العامة خلال السنوات الأخيرة، لكن لم تشهد البلاد حراكاً شعبياً بمثل هذا النحو. لقد كان مدهشاً وملهماً ومفعماً بالحياة. ثم ومع بدء البلاد في ركوب موجة الابتهاج التي صاحبت التنفيس عن كل هذا الغضب الذي طال كبته وفرصة التعبير عن الرأي بصوت عالٍ، حدثت الفاجعة يوم ٢٨ يناير/كانون الثاني، عندما أطلقت الشرطة الرصاص الحي على المتظاهرين المسالمين لتقتل ما يزيد عن ٣٠٠ شخص وتصيب حوالي ٦٠٠٠ آخرين. ثم تلت ذلك سلسلة من الأحداث التي أدت إلى حدوث الفوضى العارمة، حيث فُتحت السجون وخرج ما يقرب من ٢٣٠٠٠ سجين. أيضاً، ترك الضباط أقسام الشرطة وسُرقت منها الأسلحة والذخيرة. واختفت الشرطة تماماً من شوارع القاهرة، وسرى الخوف بين جنبات المدينة مع انتشار البلطجية والمجرمين ونهبهم وتخريبهم للممتلكات العامة والخاصة، مما أدى إلى ظهور لجان الدفاع الشعبية في كل مكان لحراسة الأحياء السكنية طوال الليل للمحافظة على أمن وسلامة المنازل والعائلات بعد فرض حظر التجوُّل.

وقد كان من المتوقع أن يتعرض حيّنا السكني للتخريب والعنف نظراً لأنه يضمّ عدداً كبيراً من المسؤولين الحكوميين ورجال الأعمال الذين يعيشون به. وخلال هذا الوقت، قررت أسرتي الرحيل إلى حي آخر أكثر اكتظاظاً؛ حتى ننصهر وسط الزحام الأكبر، وهذا ما يعيدني إلى حزم أمتعتي.

ومع حزمي للأمتعة، شعرت بدقات قلبي تتسارع والدم يتدافع إلى رأسي بالأفكار حول أمن ولدينا الصغيرين: فكيف لنا أن نترك البلاد؟ وإذا فعلنا ذلك، فأين سنذهب؟ ولأي بلد لدينا تأشيرة دخول صالحة؟ وكيف أترك والديّ وحدهما هنا؟ كيف نؤمّن منزلنا فور المغادرة؟ وكم من الوقت سنبقى بعيداً؟ كيف سنحصل على مواردنا الحياتية ونحن بعيدون؟ والسؤال الأخير، لكن الأهم: إذا تفجّر الوضع للأسوأ ولم نستطع العودة، هل سنحصل على وضع اللجوء؟

توقفت للحظة ثم ذهبت بهدوء إلى رفّ الكتب وأخذت نسختي القديمة والممزقة من دليل الإجراءات والمعايير الواجب تطبيقها لتحديد وضع اللاجئين، فقد أحتاجها؛ إذ أنها التي وجّهتني كثيراً في تقييم حالات طالبي اللجوء الذين التقيت بهم من بعض الدول التي مزقتها الحروب كالسودان والصومال وإثيوبيا وإريتريا والعراق. والآن، قلت لنفسي، قد ينطبق الحال عليّ وعلى أسرتي.  

وقد استمر عدم استقرار الأمن والوضع السياسي وعدم القدرة على التنبؤ بهما حتى تنحي الرئيس المصري في ١١ فبراير/شباط. وبعد مشاهد الفرح الشديد والابتهاج التي سادت ميدان التحرير، بدأ النظام والشعور بالحياة الطبيعية يعودان بصورة نسبية على الرغم من ردود الأفعال المختلفة التي اجتاحت العالم مع سقوط النظام المصري السابق. والحمد لله، لم تتحقق مخاوفي حول الانهيار التام ولم أحتج الدليل. لكن في ليبيا، حيث قوبلت الانتفاضة الشعبية بالعنف الشديد، فرّ الآلاف إلى مصر وتونس خوفاً على حياتهم، وهما بلدتا اللجوء اللتان ألهمتا الحراك الشعبي الليبي وهما أيضاً اللتان تفتحان حدودهما أمام لاجئي ليبيا رغم ما بهما من ثورات وانقلاب اجتماعي شامل.

لذلك، وفي النهاية، لم أحتج الدليل. لكن هذه التجربة، وليس غيرها، علمتني درساً في التواضع. ما واجهناه، وهو حقيقي جداً، لا يمكن مقارنته بخبرات الأشخاص الذين واجهوا الحروب أو فقدوا أفراداً من أسرهم أو هُوجموا شخصياً أو من سافروا لأيام لإنهاء معاناتهم والوصول إلى بر الأمان، وربما لم يتم لهم مرادهم. تخيلوا أنفسكم يا سادة كلاجئين ليوم أو أسبوع أو حتى لدقيقة، فإن من المؤكد أنكم لن تعتبروا أمنكم وحقوقكم وآمالكم المستقبلية حقيقة دائمة."

تعمل شادن خلاف (skhallaf@aucegypt.edu) بالتدريس في مركز دراسات الهجرة واللاجئين بالجامعة الأمريكية بالقاهرة (www.aucegypt.edu/GAPP/cmrs/).

تمت كتابة هذا المقال بصفة شخصية، وهو لا يعكس آراء أو توجهات منظمة الأمم المتحدة أو الجامعة الأمريكية بالقاهرة.

إخلاء مسؤولية

جميع الآراء الواردة في نشرة الهجرة القسرية لا تعكس بالضرورة آراء المحررين ولا آراء مركز دراسات اللاجئين أو جامعة أكسفورد.