الصحة العقلية في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان

تواجه الوكالات الصحية تحدياً مزدوجاً يتمثل في أمرين: فأولاً لابد من إقناع سكان المخيم والمجتمع الدولي بأنَّ الاضطرابات الصحية العقلية تستحق العلاج كبقية الأمراض الأخرى، وثانياً لابد من بناء القدر الكافي من الثقة لتشجيع الناس على طلب ذلك العلاج.

تعد آفاق مستقبل المقيمين في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان آفاقاً قاتمة، فالحصول على الوظيفة أمر في غاية الصعوبة كما أنَّ معظم اللاجئين يعانون من ظروف معيشية وأوضاع اقتصادية صعبة للغاية. وفي مثل هذه البيئة، يؤثر الاكتئاب على ثلث المرضى الذين عاينتهم منظمة أطباء بلا حدود في حين يعاني الباقي من القلق (22%) والذهان (14%) والاضطرابات ثنائية القطبية (10%) واضطرابات الشخصية.

والمرض العقلي في مجتمع اللاجئين الفلسطينيين موصوم بل إنَّ المصطلح المتعارف عليه للدلالة على ذلك المرض هو "الجنون" ويعود ذلك أساساً إلى انعدام الوعي بطبيعة الأمراض العقلية وكيفية علاجها. كما أنه نادراً ما يتحدث الناس هنا عن اضطرابات الصحة العقلية ومن غير المألوف طلب المساعدة بشأن أمور الصحة العقلية. أما الأشخاص الذين يعانون من أمراض عقلية حادة، فغالباً ما يقعون ضحية للتمييز والعزل عن المجتمعات المحلية التي يعيشون فيها بمن فيهم عائلاتهم.

ويزداد الوضع سوءاً بعدم توافر خدمات الصحة العقلية على العموم في مخيمات اللاجئين، فخدمات الصحة العقلية لا يُنظر إليها على أنها من الرعاية الصحية الأساسية على عكس خدمات الصحة الإنجابية وصحة الأطفال، وهذا الأمر بحد ذاته يعزز من مشاعر الخوف والوصم المحيطة بالصحة العقلية. ولم تلق الصحة العقلية قدراً أكبر من الاهتمام إلا مؤخراً حيث بدأت منظمة الصحة الدولية وغيرها من المنظمات بالتركيز على الصحة العقلية والعمل على تحسين الوصول إليها على مستوى الرعاية الصحية الأولية في جميع أنحاء العالم.

التغلب على التحديات

عادةً ما ينظر مجتمع اللاجئين الفلسطينيين إلى مقدمي الخدمات الصحية العقلية بعين الشك خاصة عندما يقدم تلك الخدمات أناس من خارج مجتمع المخيم. ونظراً لغياب الفهم العام لعلم النفس وبما أن الطب النفسي يرتبط في أذهان الناس بإعطاء المريض عقارات طبية قوية، فإن ذلك يقود إلى ظهور مخاوف حقيقية حول "تطبيب المجتمع" من خلال هذه الخدمات. ولا يوجد أيضاً فهم جيد بالطرق المستخدمة في علاج المرض العقلي وهذا ما يقود إلى حد ما إلى التخوف من تلك الطرق وهذا بدور يقود إلى ظهور حالة من انعدام الثقة في مقدمي الخدمات. وعندما بدأت منظمة أطباء بلا حدود برنامجها في الصحة العقلية في مخيمات اللاجئين في لبنان، كانت المخاوف الرئيسية تدور حول الرغبة في عدم اعتبار الفلسطينيين على أنهم أشخاص يعانون من مستويات مرتفعة من المرض العقلي في بلد يفرض مصاعب جمة على الفلسطينيين. وكان التحدي بالنسبة لنا تثقيف السكان حول الصحة العقلية وتوفير النفاذ إلى الخدمات ذات الجودة العالية التي سوف تحدث الفرق والتي يمكن الوثوق بها.

وهنا يمثل الدِّين والقادة الدينيون دوراً مهماً في سلوك السعي للعلاج في مخيمات اللاجئين في لبنان على اعتبار أنَّ كثيراً من الناس يطلبون المساعدة من الشيخ أولاً قبل أي شخص آخر. فإن لم يكن القائد الديني على درجة كافية من الوعي في المقام الأول فلن يتمكن من أن يخطب في المسجد لنصح المصلين بضرورة طلب المساعدة من أشخاص مجهولين لهم أصلاً للحصول على العلاج الذي قد يسبب لهم خوفاً كبيراً.

ومن الأمور الصعبة حصول الفلسطينيين على الخدمات الحساسة من غير الفلسطينيين أو ممن ينتمون إلى عقائد وأديان مختلفة، فالحكومة اللبنانية تفرض قيوداً على العمل تمنع الفلسطينيين من امتهان الطب، ومن هنا، يكمن التحدي الأول في كيفية بناء الثقة الكافية بين الفلسطينيين لكي يبدأوا بالتفكير في طلب الخدمة. ولعل عنصر النجاح الأهم في كل ذلك إشراك الفلسطينيين في فريق رفع الوعي المجتمعي لتجسير الهوة الثقافية وتقديم المشورة لمنظمة أطباء بلا حدود وطمأنة المجتمع نفسه حول الخدمات المقدمة. وقد مثل فريق رفع الوعي المجتمعي دوراً حاسماً في النظر في أسئلة عدة بل الإجابة عليها أيضاً مثل: كيف ينظر الناس إلى الصحة العقلية؟ وكيف يتعاملون مع الاضطراب العقلي؟ ولمن يلجأ الناس إذا شعروا بآلام نفسية؟ ومن يقرر متى وكيف يجب على الفرد المريض عقلياً أن يبحث عن العلاج؟

هناك توثيق جيد للآثار النفسية المعقدة الناتجة عن الحرمان من الوطن أو الشعور بالانتماء لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل يمكن للفلسطيني حقاً أن يؤمن أنّ غير الفلسطيني يمكنه أن يفهم هذا الشعور أو يفهم كيفية ارتباط ذلك الشعور بتحديات الحياة اليومية؟ فما يُمكن تفسيره على أنه مشورة أو معلومات استعلائية أو متفضلة عندما يقدمها شخص من خارج المجتمع يمكن أن يُفسر بطريقة مختلفة إذا ما قدم تلك المشورة أو المعلومات شخص ينظر إليه الآخر على أنه قريب جداً منه. وفي حين أنَّ فريق رفع الوعي المجتمعي كان مسؤولاً عن التثقيف بالخدمات في المجتمع والترويج لها فقد كان فريق الإدارة مسؤولاً عن مقابلة القادة السياسيين والدينيين لبناء الثقة والتعاون.

أما التغذية الراجعة من المجتمع المحلي حول كيفية تحسين الوصول إلى الخدمات فقد كانت متباينة. فمن جهة، قال كثير من الفلسطينيين إنَّهم غير قادرين على مغادرة المخيم وبذلك كانوا بحاجة إلى الحصول على الخدمات ضمن المخيم. ومن جهة أخرى، كان هناك تعبئة قوية من المجتمع لفتح باب الخدمات خارج المخيم وتوفير نوع من الحس بالسرية للحفاظ على خصوصية المريض وعدم الكشف عنه لغيره من المقيمين في المخيم.

وللتأكد من القدرة على الوصول إلى الخدمات للجميع، بُدءَ بنقطتي وصول في المخيم كما أقيمت نقطة أخرى في المناطق المحيطة مباشرة بالمخيم. ومن خلال نقطة الوصول في المركز الصحي التابع لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أنروا) ونقطة الوصول الأخرى في مستشفى الهلال الأحمر الفلسطيني، تمكن المرضى من الحصول على الخدمات تحت غطاء الخدمات الصحية الأخرى عند الضرورة. ومنذ بدء عام 2009 لغاية منتصف عام 2010، بلغ عدد المرضى الذين طلبوا الاستشارات الطبية من الاختصاصيين والأطباء النفسيين لدى منظمة أطباء بلا حدود 2158 مريضاً غالبيتهم كانوا من النساء (60%) من الفئة العمرية بين 25 إلى 49 عاماً.

بالنسبة للرجال فقد كان الوصول إليهم أكثر صعوبة خاصة في سياق المخيمات الفلسطينية في لبنان، ذلك أنَّ الرجال ينظرون إلى القضية الفلسطينية التي لم تُحل بعد على أنها السبب الرئيسي لجميع مشكلاتهم التي يعانون منها ومن هنا فإنهم أقل رغبة في طلب المساعدات الطبية على اعتبار أنها لا تعالج قضيتهم الجذرية.

وعلى غير ما هو متوقع، ثبت أن الرجال الذين يطلبون المساعدة أكثر حرصاً على مراجعة اختصاصية نفسية أنثى ويعزى ذلك إلى الثقافة المحلية وإلى أن الرجال يرفضون إظهار "ضعفهم" لغيرهم من الرجال. ويبدو أن الفئة السكانية الذكورية في المخيم الفئة الأكثر هشاشة في المجتمع الفلسطيني لأنهم من الناحية الثقافية لا يملكون "الحق" في إظهار ضعفهم ومعاناتهم مع أنهم يتولون المسؤولية المنفردة في إعالة الأسرة وغالباً ما يبقى الوفاء بتلك المسؤولية قاصراً لشدة القيود التي يواجهها الفلسطينيون في لبنان.

ومعظم الاستشارات يقدمها الاختصاصيون النفسيون على أساس فردي ومع ذلك فقد ثبت نجاح العلاج الجماعي بالنسبة للمرضى الذين كانت لهم الشكاوى ذاتها (الشعور بالبعد عن المجتمع والتعرض للعنف الأسري الخ) بشأن سبب معاناتهم النفسية. وبالإضافة إلى ذلك، بالنسبة للمستفيدين من ذوي المشكلات العائلية بذل المعالجون النفسيون محاولات لجمع أفراد العائلة كافة في جلسات العلاج وقد ثبت نجاح ذلك في عدة حالات لأن تلك الجلسات أعادت تنشيط العرى المفقودة وأطلقت الحوار بين أفراد العائلة.

ويبقى السؤال الذي نطرحه كثيراً في حملاتنا لدمج مناصرة الرعاية الصحية العقلية في خدمات الرعاية الصحية الأولية في المخيمات الفلسطينية في لبنان: "هل يستحق الأمر العناء علماً أنك لست قادراً على تحسين الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي تمثل الأسباب الجذرية للأمراض العقلية أو التي تزيد من سوءها؟" هذا السؤال يثير واحدة من أهم قضايا العوائق الماثلة أمام الرعاية وهي عدم توافر فهم أهمية موضوع الأمراض العقلية. فالمرضى الذين يعانون من مشكلات في الجهاز التنفسي يتلقون العلاج لكنهم بعد ذلك يعودون للعيش في ظروف الرطوبة والقذارة وكذلك مرضى الإسهال يعالجون لكنَّ مصادر المياه تبقى ملوثة. وبالمثل لابد من النظر إلى الصحة العقلية على أنه من الأمور التي لا تقل أهمية عن الظروف الطبية الأخرى.

 

فابيو فورجيوني msfch-lebanon-hom@geneva.msf.org رئيس بعثة أطباء بلا حدود إلى لبنان www.msf.org

 

أعراض الاضطراب

"الأوضاع المعيشية هنا صعبة للغاية فالبيوت مكتظة بساكنيها كما أنه مبنية بحيث يلاصق بعضها بعضاً. أما الأسقف المصنوعة من الصفيح فتزيد من الحرارة في الصيف وتخفضها في الشتاء. والبنية التحتية تكاد لا تكون موجودة والناس يفتقرون إلى الخصوصية في حياتهم وكل ذلك يؤدي إلى احتداد أمزجتهم وطباعهم لدرجة أنه حتى لو قال لك أحدهم "مرحباً" فقد تفكر في افتعال شجار معه."

تعرفت إلى منظمة أطباء بلا حدود بمحض الصدفة عندما كنت أراجع عيادة الأنروا. وكان أعضاء المنظمة يوزعون وقتها منشورات تشرح الأعراض المرتبطة باضطرابات الصحة العقلية. وذُكر في المنشور: إذا كانت لديك أي من تلك الأعراض فينبغي لك مراجعة الاستشاري المختص للعلاج. عندما قرأت المنشور ضحكت على نفسي لأنني اكتشفت أنني أعاني من جميع تلك الأعراض."

بعد أن تحدثت إلى العاملة الصحية المجتمعية، أشارت إلي بمراجعة مركز أطباء بلا حدود وحددت لي موعداً فذهبت. وكانت صدمتي كبيرة جداً لا تقل عن قلقي إزاء خطورة مرضي. لو أنني استمريت في تلك الظروف ولولا مساعدة أطباء بلا حدود لربما كنت على وشك أن أقتل نفسي وبناتي أيضاً" [حكيم]

إخلاء مسؤولية

جميع الآراء الواردة في نشرة الهجرة القسرية لا تعكس بالضرورة آراء المحررين ولا آراء مركز دراسات اللاجئين أو جامعة أكسفورد.