يسعدني أن تتاح لي هذه الفرصة لكي أذكر فيها ما أؤكد به الدور المحوري لباربارا هاريل–بوند بصفتها مرشدة شخصية وعضوة مؤسسة لواحد من الميادين التي تمد الجسور بين الدراسة والعمل الناشط والممارسة وكذلك بصفتها ممن شارك في تأسيس مشروع قانون اللاجئين في عام 1999 وهو مشروع تواصل مجتمعي لكلية القانون في جامعة ماكيريري في أوغندا التي أكتب مقالتي منها الآن.
وقد يكون كتاب فرض المساعدات – المساعدات الطارئة للاجئين العمل المكتوب الأكثر شهرة لهاريل بوند بل هو الذي يفرض نفسه بقوة على القارئ بفضل محتواه الغزير الذي يُبيِّن أهمية البيانات والتحليل ومجالات التعقيدات والتعاون والإقرار بالإنجازات. والآن بعد مرور عقدين من تأسيس مشروع قانون اللاجئين، يسترعي الأمر منا التفكير والتأمل في مشروع قانون اللاجئين بصفته مؤسسة قائمة في منطقة دول الجنوب العالمي ودوره في توضيح بعض المبادئ والرسائل التي انطوى عليها كتاب فرض المساعدات. وعندما أحلل ما يتردد صداه في ذهني وما سعينا إلى توضيحه في السنوات التالية للكتاب، تظهر أمامي سبعة أمور.
أولاً وقبل أي شيء آخر، علينا أن نفهم أنَّ اللاجئين وغيرهم من المُهجَّرين قسراً هم جهات فاعلة وأصحاب مصلحة معنيون، وأنَّهم بعيداً عن التعبيرات الطنانة والأساليب البلاغية في الخطاب عند الحديث عنهم كما الحال عند استخدام عبارات من قبيل ‘الاعتماد على الذات’، قد يكونوا في حاجة إلى المساعدة أو قد يبدون رغبتهم بالحصول على المساعدة إلاَّ أنَّهم قد لا يحتاجون إلى مساعدات تُفرَضُ عليهم فرضاً أو قد لا يرغبون فيها.
وثانياً، إذا كنت في وضع يمكنك به تقديم شيء من الدعم، وإذا كنت ملتزماً بالتغير الاجتماعي والسياسي، فعليك الاستعداد للمشاركة في عملية تحتاج إلى نفس عميق. وهذا ما ضربت باربارا المثل به. وكان أول ما سمعت عنها عندما كنت طالباً في عام 1991 ثم قابلتها شخصياً في البرنامج الصيفي لدراسات اللاجئين في عام 1994، ثم أصبحت أعمل تحت إشرافها المباشر في عام 1996. وكانت مشاركة في معهد ماكيريري للبحوث الاجتماعية في عامي 1998-1999. واستضافتني في بيتها عندما كانت في الجامعة الأمريكية في القاهر في أوائل العقد الأول من القرن الحالي. وفي كل مكان، أُعِدَّ مكان عملها بالطريقة ذاتها فكان مكتبها مطابقاً لما تعودت عليه في السابق ولم يختلف كذلك شيء في مزاجها وروحها. ويشهد ذلك عندي لقدرتها الفريدة في التكيف مع السياق الذي تعمل فيه مع محافظتها في الوقت نفسه على ثبات الشواغل والمقاربات الرئيسية.
وثالثاً، تمكنت باربارا من قول الحقيقة لأصحاب الشأن في السلطة مع محافظتها في الوقت نفسه على علاقات مثمرة مع الناس والمؤسسات الذين تحدثت إليهم. ويعيدنا ذلك إلى مسألة النفس العميق الذي ذكرته آنفاً، فعندما يكون أصحاب السلطة والنفوذ، وعلى الأخص منهم من هو في المؤسسات البيروقراطية الوطنية والدولية، ممن يستحوذون على السلطة مدى الحياة، يجب على من يتولى دور تحدي أولئك الأشخاص انتهاج عنادٍ مختلف بالتوازي مع صلابة المذكورين.
وهنا تظهر مسألة العلاقات التي تقيمها مع أشخاص ومؤسسات لا تتفق بالضرورة معهم، فتلك العلاقات هي مفتاح الحياة بالنسبة لما أنظر إليه على أنَّه المبدأ الرابع الذي يتجسد في أعمال باربارا، وهو تحديداً محورية الأطر العامة للقوانين والسياسات الضرورية لمساءلة أصحاب الواجبات. ودون إقامة علاقة عمل مثمرة، لا مجال لمساءلة الحكومة إزاء نص القانون في دستورها أو قانونها ولا يمكن دفع منظمة متعددة الأطراف للوفاء بالوعود التي قطعتها على أنفسها في مواقف سياساتها (ويخطر ببالي هنا على سبيل المثال سياسة المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين حول بدائل المخيمات). لكنَّني إن قلت إنني تعلمت مبدءاً واحداً من باربارا، فربما هو أنَّ مثل تلك العلاقات ليست من العلاقات التي يمكن تحقيقها مباشرة، وهنا يأتي المبدء الخامس وهو أنَّه إن غابت مساحة العمل اليوم أو إن كانت المساحات المتاحة ليست كما ينبغي، فعليك إذن أن تُنشِئ مساحات جديدة.
والمُطَّلع على سيرة حياة باربارا المهنية لن يجد صعوبة البتة في تقفي الأمثلة العظيمة التي تجسد ذلك المبدأ، فماذا من مثال أوضح من مشاركتها في تأسيس برنامج دراسات اللاجئين (مركز دراسات اللاجئين حالياً) ضمن جامعة أكسفورد، وتأسيسها للمجلس الدولي للبحوث والاستشارات الذي أصبح فيما بعد يُعرَف بالجمعية الدولية لدراسة الهجرة القسرية، ومشاركتها في تأسيس مشروع قانون اللاجئين ومن ثمَّ برنامج مساعدات اللاجئين في أفريقيا والشرق الأوسط ومقره مصر ثم البرنامج الدولي لذلك الغرض (سابقاً في المملكة المتحدة) وشبكة المساعدات القانونية للاجئين الجنوب وموقع برنامج الحقوق في المنفى على الإنترنت. كل جهد من تلك الجهود كان أساسياً من ناحية أنَّه أنشأ مساحة لم يسبق وجودها من قبل، ولم يكن ذلك مجرد زيادة عدد في المؤسسات الجديدة إلاَّ أنَّه مثَّل نقلة تحولية في الوضع الراهن وأعاد تعريف معطيات ميدان جديد ناشئ للممارسة والعمل الأكاديمي.
ثم إنَّ مركز دراسات اللاجئين، في أولى أيامه بعد التأسيس، أخذ على عاتقه نقل الهموم التي تشغل واقع الحال في العالم لتصبح في صلب رسالة الجامعة التي كانت تمثل بنظر كثير من الناس برجاً عاجياً وحالةً من الانفصام عن الواقع. وها هو قسم المصادر في المركز قد أرسى قاعدة لا يضاهي لها مثيل في مقتنيات ما يُسمَّى بالأدبيات والدراسات الرمادية التي يعود تاريخها إلى ما قبل حقبة الإنترنت، تساعد الباحثين في النظر عن قرب في الممارسات الإنسانية الفضلى، ثم تبع ذلك تأسيس نشرة شبكة مشاركة اللاجئين الإخبارية التي أصبحت فيما بعد نشرة الهجرة القسرية، لتؤدي ذلك الغرض نفسه. وكلا النتاجين مثَّلا تحدياً أمام ما افترضته جموع الأكاديميين من قبل من أنَّ القيمة الأساسية للمعلومات لا يمكن أن تُرجَى إلا في المجلات الأكاديمية المُحكَّمَة.
ومن الجمعية الدولية لدراسة الهجرة القسرية، تعلمت شخصياً أهمية عقد اللقاءات الرسمية والدورية التي تجمع من لديه اهتمام في تقديم المساعدة في تعريف حقل الدراسة وتطوير المعارف المتصلة به ضمن إطار مؤسسي وجمع مكنز من الأعمال الفكرية في المجال. وهنا مجدداً نجد مشروع قانون اللاجئين (الذي يهدف إلى توضيح أهمية وإمكانية تقديم المساعدة القانونية للاجئين في دول الشمال العالمي) الذي أنشأت باربارا من خلاله مجدداً فضاءً لم يسبق له مثيل. وأكثر من ذلك ما حدث في أوغندا من تطبيق لذلك الفضاء، فأوغندا حتى في أواخر التسعينيات كانت قد حظيت بسمعة طيبة لكرم سياساتها المرحبة باللاجئين، ومع ذلك تحدثت باربارة إلى السلطات هناك وأخبرتهم بالحقيقة وهي أنَّ الأطر العامة وإن كانت جيدة، لم تُتَرجَم كما ينبغي في الممارسة العملية. فهي بذلك قرعت جرس الذاكرة في أذهاننا بأن لا نأخذ الأمور على أنها حقيقة من النظرة الأولى لها.
وسادساً، كان لتأسيس مشروع قانون اللاجئين مغزى يتجاوز مجرد إخبار الحقيقة للسلطات. بل انطوى المشروع في الوقت نفسه أيضاً على ترجمة الأقوال إلى أفعال متجسدة بمطلب: لا تكتفِ بتوجيه النقد بل قدِّم الحلول. فعند باربارة، كان بناء القدرات المحلية للتصدي للتحديات العالمية جزءاً لا يتجزأ من المرحلة القادمة. وكثيراً ما جسَّدت بنفسها مفهوم ‘المُواطِنَة العالمية’ إذ لم يكن مغزاها ولا هُويَّتها مقيدتين بمكان ولاتها، ولم تكن قط متجاهلة للمخاطر التي تظهر عندما لا يكون من الناس إلا القليل ممن يتحولون إلى فكرة ‘المواطن العالمي’. وبالفعل، يمكن لنا أن نقرأ كتاب فرض المساعدات على أنَّه عمل يستكشف التحديات التي تواجه القطاع الإنساني.
وسابعاً، وأخيراً، يقودني كل ما ذكرت إلى تبين حقيقة هي أنَّ المرء إذا أراد بناء الفضاءات، فلا يمكنه فعل ذلك لوحده. ولا أدل على ذلك من الفضاءات التي أنشأتها وأشغلت كثيراً منا فجعلناها فضاءاتنا أيضاً، وذلك دليل على أهمية التعاون الذي يترك إرثاً دائماً خلال الناس.
مشروع قانون اللاجئين: ترجمة مبادئ باربارا إلى أفعال
عشرون عاماً مضت مذ أسست باربارا مشروع قانون اللاجئين، ومنذ ذلك الحين، حرص المشروع على إعمال هذه المبادئ وتفصيلها وتطويرها. فهل يحتاج اللاجئون إلى مساعدة وهل يرغبون بالحصول عليها؟ لا شك في أنَّ الإجابة بنعم، وينطبق الأمر حتى على أوغندا التي يُنظَر إليها كثيراً بأنّها نموذج يحتذى به للدول المضيفة للاجئين. وهل يحتاج اللاجئون إلى العون القانوني؟ لا شك في ذلك. فحتى بعد مرور عشرين عاماً، ما زال المشروع المنظمة الوحيدة التي تقدم التمثيل القانوني للاجئين في المحاكم في بلد تعج فيه آلاف من منظمات المجتمع المدني. الأمر الواضح الآن أنَّ نوع العون القانوني الذي تصورته باربارا في بداية الأمر والذي أتحناه مبدئياً للاجئين الحضريين في كامپالا لم يكن سوى عنصراً واحداً فقط في الاستجابة لحاجات اللاجئين المعقَّدة. وفي الواقع، في الوقت الذي انضممت به إلى مشروع قانون اللاجئين في عام 2006، كان المحامون الذين مثَّلوا السواد الأعظم من كوادر المشروع في ذلك الوقت قد أدركوا أنَّ الدراسة والتدريب القانونيين الذين تلقوه في السابق لم يمنحاهم القدرة الكافية لفهم التجارب التي مر بها الموكلون، ولذلك عُيِّن أول مستشار نفسي–اجتماعي للمشروع. وفور تعيين المستشارين، زاد إدراك أنَّ اللاجئين الذين كانت لديهم حاجات كبيرة أساسية نتيجة فقدان مصدر الدخل المباشر قد حملوا معهم آثاراً من العنف الجنسي المرتبط بالنِّزاع والتعذيب ولم يجدوا سبيلاً للعلاج المباشر منها دعك من تأخر أمد الاستجابة. وفي حين كان الوصول إلى الخدمات العدلية للقضايا الدارجة من المسائل الإشكالية، لم يكن هناك أصلاً أي طريقة للوصول إلى العدالة الانتقالية الضرورية للتصدي للأذى الذي لحق بهم في الماضي.
وهذا التاريخ هو الذي تمخض عنه عملية بناء البرامج الموضوعية الحالية في مشروع قانون اللاجئين. فبرنامجنا الخاص بالوصول للعدالة يعالج الحاجات القانونية المباشرة ويساعد اللاجئين البالغين (منذ عام 2007) في تعلم اللغة الإنجليزية، وهي اللغة الرسمية لأوغندا، لكي يتمكنوا بأنفسهم من ‘التعبير عن حقوقهم’. وكذلك، يعمل برنامجنا الخاص بالصحة العقلية والنفسية–الاجتماعية مع الأفراد والأزواج والأسر والعائلات ممن لهم علاقة مباشرة أو غير مباشرة بوضع الموكل أو خبراته أو من المتأثرين بها. وعندنا برنامج موضوعي ثالث هو الجندر والحياة الجنسية ويعكس الدور المحوري لتعرض الناس للعنف الجنسي في قراراتهم بالهروب كما يقر بأنَّ هناك أعداد أكبر من الرجال المتأثرين تأثراً مباشراً بمثل هذا العنف أكثر مما تصوره لنا الممارسات السائدة. وضمن ذلك البرنامج، يساعد نموذج ‘افحص ثم أحل ثم ادعم ثم وثِّق’ في تمكين الحصول على الرعاية الصحية الجندرية في السياقات الإنسانية. وكل علمنا الذي نقدمه إنما يعززه موقعنا في البلاد إذ نحن المنظمة الوحيدة فيها التي يمثل اللاجئون ثلث كوادرها من الموظفين.
وأخيراً، أيكفي مجرد قول الحقيقة للسلطات أم لا بد من قائل يعرف كيف يقولها؟ وبما أنَّ المهجَّرين قسراً هم أصحاب مصلحة معنيين في خبرتهم ومستقبلهم، تأتي الإجابة على الشطر الثاني من السؤال بنعم دون الحاجة لتفكير أو تحفظ. إلا أنَّ منظومات تكميم الأفواه والتَّعجيز التي تمس كثيراً من جوانب خبرات المهجَّرين قسراً عن ‘ديارهم’ ليس من السهل التغلب عليها. ومن هذا المنطلق تظهر الحاجة إلى الاهتمام بالموضوعات المتعلقة بكيفية استخدام وسائل الإعلام لإحداث التغيير الاجتماعي. وكما أنَّ تأسيس قسم الموارد في مركز دراسات اللاجئين للأدبيات الرمادية كسر القالب الأكاديمي، فقد ظهرت عبر السنوات العشر الماضية القدرة على المشاركة من خلال وسائل الإعلام المسموعة والمرئية لتكسر القوالب المُنمِّطة لطبيعة التواصل الفعال ليصبح تحديد الأشخاص من ذوي القدرة على التواصل باستخدام تلك الوسائل محور السياسات المحددة لما إذا كانت الحلول تُفرَض فرضاً أم لا. وقد أمضى مشروع قانون اللاجئين السنوات الخمس الماضية في تمكين اللاجئين ومضيفيهم في تطوير مهاراتهم في المناصرة عن طريق مقاطع الفيديو ما وسَّع من نطاق تغطية الأشخاص الذين لهم أصوات مسموعة.
وكما تُبيّن هذه العجالة، لا حدود للمسارات التي تأخذك بها المشاركة المؤسسة على المبادئ مع الهجرة القسرية والمهجَّرين قسراً. لقد زرعت باربارا بذرة عندما شاركت في تأسيس مشروع قانون اللاجئين مع البروفيسور جو أولوكا–أونياغو في عام 1999، لتنبت نباتاً حسناً وتصبح شجرة تظلل أغصانها وفروعها فضاءات جديدة وقدرات جديدة وسبلاً جديدة للتفكير حول التحديات القديمة للهجرة القسرية. ولا مبالغة إطلاقاً في التأكيد على البعد الكبير في المساعدة الذي يقدمه كتاب فرض المساعدات في توفير البذور لإثراء تلك العمليات.
كرِس دولَن dir@refugeelawproject.org @drchrisdolan
مُدِيرُ مشروع قانون اللاجئين، وبروفيسورٌ زائرٌ في معهد إنكور ومعهد العدالة الانتقالية في جامعة أولستر، وباحثٌ سابقٌ في مركز دراسات اللاجئين بين عامي 1996 و1997.