ما زالت صعوبة فصل العوامل البيئية عن دوافع الهجرة الأخرى[i] قائمة ولا يمكن إنكار أهميتها بوصفها محركًا للتَّهجير. وقد صار مفهوم "الهجرة لأسباب بيئية" في الوقت الحاضر سمة مشتركة في دراسات الهجرة وانتشرت مجموعة من المشاريع البحثية وورش العمل والمؤتمرات التي تتناول هذا الموضوع انتشارًا واسعًا في السنوات الأخيرة.
يؤيد بعض الجيولوجيين استخدام مصطلح "أنثروبوسين" للإشارة إلى حقبة جيولوجية جديدة تعرف باسم "عصر الإنسان" أصبحنا فيها قوَّة رئيسية للتغيير على سطح الكرة الأرضية. وهذا تعريف سياسي مخيف. وهو إشارة أيضاً للعلوم الاجتماعية بأنَّه لا يمكن تناول العالم – ويقصد به التنظيم الاجتماعي والسياسي على الكرة الأرضية- بمعزل عن الكرة الأرضية نفسها. ويجب التعامل مع العالم والكرة الأرضية بوصفهما منظومة عالمية واحدة ولهذا لم يعد علم الجغرافية السياسية يهتم بالسيطرة على الأراضي أو بالأراضي والبحار بل أصبح معنيًا في المقام الأول بالكرة الأرضية ككل. وهكذا، تحول علم الجغرافية السياسية إلى علم سياسة الكرة الأرضية.
ولكن يمكن رؤية ذلك من منظور مختلف. فعلينا مراعاة عدم تسييس المواضيع التي قد يتضمنها هذا العلم. وحتى إن حلَّ الإنسان محل عوامل التغيير الطبيعية وصار أداة التغيير الرئيسية على هذا الكوكب فالضحايا الفعليون لهذه التغيرات هم السواد الأعظم من البشر وليس من تسببوا فيها.
الهجرة كسلعة
مع رواج مفهوم "الهجرة لأسباب بيئية"، تغيرت النظرة إلى الهجرة كقرار الملاذ الأخير الذي يتخذه الناس بعد نفاد جميع خيارات التكيف المتاحة لهم في مواطنهم الأصلية. وأصر مع غيري من كثير من الباحثين على أنَّ النظر للمهاجرين على هذا النحو لا يعكس الواقع وأنَّ المهاجرين طالما استخدموا الهجرة كمورد للتعامل مع التغيرات البيئية. ونصر على أنَّه لا يجب رؤية المهاجرين كضحايا مسلوبي الإرادة يتكبدون ثمن التغير المناخي ولكنَّهم أشخاص واسعي الحيلة في محاولات تكيفهم. ونزعم أنَّ الهجرة قد تكون استراتيجية تكيف قوية يستخدمها المهاجرون إما لتنويع مصادر دخلهم أو للتخفيف من وطأة الضغوط البيئية في مواطنهم الأصلية أو لإرسال حوالات نقدية أو ببساطة لحماية أنفسهم وعائلاتهم من الأذى. وسرعان ما تبنت كثير من المؤسسات والمنظمات هذه الرؤية. حتى إنَّ تلك الرؤية قد شقت طريقها للمفاوضات الدولية بشأن التغير المناخي. وفي 2010، تناول إطار كانكون للتكيف "إجراءات تعزيز التفاهم والتنسيق والتعاون المرتبطة برحلات التَّهجير والهجرة المستحثة مناخيًا والانتقال المخطط له (…)".[ii]
ويُمثّل ذلك تغييرًا جذريًا بأنه لم تعد الهجرة في سياق تغير المناخ كارثة يجب تجنبها بأي ثمن بل أصبحت استراتيجية يجب تشجيعها وتسهيلها. ولم تعد تحركات الناس نوعًا من سياسة الهجرة ولكنّها سياسة بيئية، أي استراتيجية تكيف.
والسؤال الذي يطرح نفسه: ماذا عن أولئك الذين أجبروا على الفرار نتيجة الاضطرابات البيئية وكانوا يريدون البقاء في مواطنهم الأصلية ولكن لم يكن لديهم خيار آخر؟ فقد نظر لعمليات التهجير تلك كنوع من الأضرار الجانبية التي يمكن معالجتها بإتباع آلية "الخسائر والأضرار" التي وضعتها المفاوضات بشأن المناخ.
صارت الهجرة المرتبطة بتغير المناخ إجراءً يمكننا إتاحته وتسهيله وإدارته. وذلك ما نضغط لتحقيقه بوصفنا مجتمع الباحثين.
لماذا خذلنا المهاجرين
بعد التفكير مليًا، اضطررت لإدراك أننا أغفلنا شيئًا في عملية "نزع رداء الضحية" عن المهاجرين. فقد استخدمنا التغيرات البيئية لتجريد الهجرة من طابع التسييس وفي سعينا لإعداد بحث ذي صلة بالسياسة سمحنا للسياسات فيه بأن تطغى على السياسة. وفي إطار سعينا للتأكيد على دور المهاجرين بوصفهم فاعلين، أغفلنا مسؤوليتنا تجاههم لأننا البشر أصبحنا العوامل الرئيسية للتغيير على سطح الكرة الأرضية. وجاءت نتيجة هذا التغيير أن جعلنا مواطن أعداد متزايدة من الناس على سطح الكرة الأرضية مكانًا غير صالح للسكن على نحو متزايد.
الصعوبة الرئيسية في العمل الجماعي للتصدي لتغير المناخ أنَّ الدول الصناعية التي عليها تولي معظم الجهود الساعية لخفض انبعاثات الغازات الدفيئة هي تلك الدول الأقل تأثرًا نسبيًا بآثار الاحترار العالمي. وهذا يعني ضعف حافز الدول الصناعية للتصرف في هذا الصدد وبهذا أحبطنا دورنا بسبب مصلحتنا الذاتية.
وتغير المناخ كامن في التفاوتات بين الأغنياء والفقراء والهجرة هي الصيغة التي تجسدها هذه التفاوتات. وتفترض النظريات القديمة بشأن الهجرة أنَّ الهجرة قد تكون وسيلة لتسوية هذه التفاوتات إلا أنَّها عرَضًا وليست علاجًا.
إخراج الهجرة من تحت عباءة السياسة
في الصحافة والمناقشات العامة، كان يطلق غالباً على من هُجّروا جراء تغير المناخ "لاجئون بسبب تغير المناخ". إلا أنَّ الباحثين القانونيين والمنظمات الدولية نزعوا للتخلي عن هذا المصطلح بزعم غياب الأساس القانوني له. وقد اتفق معظم الباحثين على أنَّه من المنطقي عدم استخدام المصطلح واستخدام مصطلحات تحليلية أكثر بدلًا منه، مثل: "مهاجرون متأثرون بالمناخ" أو "الانتقال في سياق تغير المناخ"، الخ. وقد كنت أحد أولئك الباحثين، إلا أنَّني كنت مخطئًا.
فبامتناعنا عن استخدام مصطلح "لاجئ بسبب تغير المناخ"، جردنا أيضاً واقع هؤلاء المهاجرين من طابعه السياسي. فالعنصر المحوري الذي يقوم عليه مفهوم "لاجئ" هو الاضطهاد أي لكي يصبح الشخص لاجئ عليه أن يكون فارًا من الاضطهاد أو خائفًا منه. وهجر استخدام مصطلح "لاجئ بسبب تغير المناخ" يهجُر بطريقة أو بأخرى أيضاً فكرة أنَّ تغير المناخ شكل من أشكال الاضطهاد ضد أكثر الناس استضعافًا وأنَّ الهجرة المستحثة مناخيًا مسألة سياسية بالدرجة الأولى أكثر من كونها قضية بيئية.[iii] ولهذا السبب وخلافًا لما ظننت (وكتبت) في الماضي وبالرغم من الصعوبات القانونية، اعتقد أن هذا مسوغ قوي جد لإعادة استخدام المصطلح لأنه يُعرّف هذه الهجرات على أنها جاءت في المقام الأول نتيجة الاضطهاد الذي ألحقناه بمن هم أكثر استضعافاً.
وفي أبريل/نيسان 2013، انهار مصنع رانا بلازا للملابس الجاهزة في بنغلاديش ما أسفر عن مقتل أكثر من ألف عامل. وفي هذه الآونة، استوقفني رد الفعل الدولي تجاه هذه الكارثة فقد تولدت احتجاجات واسعة النطاق ضد ظروف العمل في هذه المصانع وحمّل كثير من الناس شركات الملابس مسؤولية هذه الكارثة. وتوقف بعضهم عن شراء الملابس من شركات التجزئة في الشوارع الرئيسية ودعوا إلى مقاطعتها أو طالبوا بتحسين ظروف عمل عمال مصانع الملابس في بنغلاديش. وكأن الناس فجأة أدركوا أنَّ شرائهم للملابس يؤثر على من يعيشون في الجانب الآخر من كوكب الأرض.
لكنّ بنغلاديش أيضاً دولة معرضة بالدرجة الأولى للآثار المناخية حيث أصبحت حركات التَّهجير سمة شائعة فعليًا هناك. إلا أنَّ العلاقة التي ربطت بين فعل البعض ومعاناة آخرين عند وقوع مأساة مصنع رانا بلازا لا نراها قائمة في حالة تغير المناخ. وهذا مبرر لوجود سبب وجيه واحد على الأقل لاستخدام مصطلح "لاجئون بسبب تغير المناخ".
فرانسوا جيمين F.Gemenne@ulg.ac.be كبير الباحثين المعاونين في الصندوق الوطني للبحث العلمي في جامعة لييج (مركز الحد من الكوارث وإدارة الطوارئ) ومعهد الدراسات السياسية، باريس.
www.cedem.ulg.ac.be / www.politiquesdelaterre.fr
[i] انظر أوليفيا دون وفرانسوا جيمني "تعريف الهجرة البيئية"، العدد 31 (ص 10) www.fmreview.org/ar/pdf/NHQ31/NHQ31.pdf
[ii] المادة 14 (و)
[iii] كونيسبي، إم و سيمز أي. (2013) لاجئون لأسباب بيئية. قضية تستلزم الاهتمام. لندن, مؤسسة الاقتصادات الجديدة.
(Environmental Refugees. The case for Recognition.)