أعمل منذ عام 2012 في مركز دراسات اللاجئين في جامعة أكسفورد في جمع البيانات حول الحياة الاقتصادية للاجئين والمجتمعات المضيفة في بلدان ضمَّت كينيا وأوغندا وإثيوبيا. وبنيت هذه المقالة أساساً على انطباعاتنا من هذا البحث ومن سِنِي تفاعلي مع مختلف مجموعات اللاجئين في المخيمات والمناطق الحضرية.
المجموعات التي أُفرِط البحث فيها
من الواضح أنَّ بعض فئات اللاجئين تخضع مراراً وتكراراً ‘للبحث’ على أيدي الأكاديميين ومنظمات المساعدات والطلاب ولدرجة ما الصحفيين. إلاَّ أنَّ غياب المنافع الملموسة من مشاركة اللاجئين في تلك الدراسات تجعلهم بعد أن خضعوا لأعداد مفرطة من البحوث يفقدون الثقة فيها بل يقررون في بعض الحالات الإحجام عن المشاركة في دراسات جديدة.
وفي عملي، لاحظت تزايد التعبير عن ارتفاع درجة الضعف العام للبحوث لبعض المجموعات خاصَّةً في مخيم كاكوما للاجئين في كينيا. وبين عامي 2016 و2017، أجريت بحثاً واسع النطاق في ذلك المخيم. وكالعادة، نظَّمتُ اجتماعات مع أفراد من الكيانات الممثلة للاجئين في المخيم لأعرفهم بنفسي وببحثي ولطلب تعاونهم ومشاركتهم. وفي أحد الاجتماعات، شرحت للمشاركين نطاق الدراسة وأوضحت لهم أنَّ البحث لا يشتمل على منح تعويض مالي للمشاركين في البحث، فتساءل بعضهم عن الفائدة التي سيجنوها من بحثنا إذا لم يكن هناك تعويض مالي لهم. فشرحت لهم أنَّ هذا المشروع البحثي يهدف إلى توليد فهم أفضل لأصحاب العلاقة المعنيين حول اللاجئين في مخيم كاكوما ومن هنا يسهم ذلك الفهم في إثراء السياسات وتحسينها عند التعامل مع اللاجئين في المخيم. عندها، وقف أحد كبار السن الصوماليُّون وأشار بإصبعه إليَّ معلِّقاً:
”أعيش في مخيم اللاجئين هذا منذ عام 2008 وقابلت كثيراً من الباحثين مثلك. كلهم قالوا الشيء نفسه الذي تقوله اليومَ لكنَّ ذلك لم يغير شيئاً حتى الآن. في كل مرة نتعاون مع الباحثين لكنَّنا لم نجد البتَّة شيئاً من ذلك يُحسِّنُ حياتنا. فلا أستطيع أن أثق بما تقول. “
وواجهت استجابات مماثلة خلال العمل الميداني في أديس أبابا في أواخر عام 2018. فخلال إحدى المقابلات ونقاشات مجموعات التَّركيز مع لاجئين شباب أريتيريين، كان من الواضح شيوع جو من الملل والشك الذي أثَّر بالتأكيد في صراحة ردود المشاركين ومشاركتهم.
وبينما يعيش اللاجئون في مخيم كاكوما وأديس أباب في ظروف صعبة (المقارنة هنا بين مخيمات اللجوء المطوَّل والعيش في العاصمة الحضرية) ظهرت مشاعر مشترك فيها بالملل من البحث وانعدام الثقة بالباحثين. ولا يقل توثيقاً عن ذلك وجود سقف مرتفع من توقعات اللاجئين المشاركين في الأبحاث إذ يتفرضون أنَّ مشاركتهم سوف تنعكس على تحسين أوضاعهم. وفي نقاشات مجموعات التَّركيز، عبَّر اللاجئون عن جملة من الآمال تضمنت زيادة المساعدات الإنسانية وإزالة اللوائح التنظيمية المؤثرة في حقوقهم الاجتماعية–الاقتصادية وتحسين وصولهم إلى إعادة التوطين في بلد ثالث. وإن لم تتحقق تلك التوقعات في أرض الواقع أو تدار، فقد يتبع ذلك ظهور الإحباط وخيبة الأمل وفقدان الثقة مع مرور الوقت.
وتلك نتيجة مؤسفة تأتي بسبب محدودية قدرات البحوث الأكاديمية في إثراء الإجراءات العملية في السياسات أو تأتي على الأقل بسبب عدم احتمالية ترجمة البحوث إلى تغيرات مباشرة في السياسات المرتبطة بالبيئات المحيطة باللاجئين. وبما أنَّ هذه المجموعات من اللاجئين تستقبل على الدوام أفواجاً من الباحثين الجدد واحداً تلو الآخر مثلي، فذلك يزيد من إحباطهم ويقود بذلك إلى إحجامهم أو رفضهم للمشاركة في البحوث.
المجموعات التي لم يُبحَث فيها بما يكفي
على الجانب الآخر، مرَّ عليَّ عدة مجموعات من اللاجئين ممن ‘لم تُجرَ عليهم أبحاث كافية’ ويلقى حضورهم اهتماماً كبيراً دون أن ينعكس على إيصال اصواتهم إلى المشهد العالمي. ومن تلك المجموعات لاجئو الأقليات في أديس أبابا وهي مجموعة من القوميات التي لا تمثل سوى شذراً صغيراً من إجمالي سكان اللاجئين المُسجَّلين. وفي مستهل عملنا الميداني في أديس أبابا في شهر أغسطس/آب 2018، بدعم من المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، نظَّمنا اجتماعات تعريفية مع ممثلين عن مجتمعات اللاجئين من مختلف القوميات لنصف لهم الهدف من الدراسة وطلب مشاركتهم. ونظراً لضيق الوقت ومحدودية الموارد المالية المتاحة لمشروعنا، ركَّزنا على القوميات التي مثَّلت السواد الأعظم من اللاجئين في هذا السياق وهم على التحديد الإريتيريون والصوماليون. وعندما شرحت ‘الفئة المستهدفة’ الرئيسية من قوميات اللاجئين، طلب أحد اللاجئين البورنديين شمل قوميته في دراستنا. وقال لنا إنَّ مجموعات الأقليات من بلدان مثل بلدان البحيرات العظمى كانوا قد أُقصُوا تماماً من تلك الدراسات. وقال لي بتشديد قطعي: “نريد أن نكون جزءاً من دراستكم. أريدك أن تسمع عن التحديات التي تواجهنا.”
ووجدنا مشاعر خيبة الأمل الناتجة عن الإقصاء من البحوث في مجموعات أخرى من اللاجئين من ذوي الإعاقات وكبار السن اللاجئين في العاصمة الأوغندية كامپالا. وكانت كلتا المجموعتين قد أسستا جمعيتان سُجِّلتا رسمياً لدى السلطات الحكومية المحلية. وفي مقابلات منفصلة، ذكر أعضاء تنفيذيون في كلتا الجمعيتين أنَّ سبب تأسيس الجمعيتين جاء نتيجة غياب الانتباه من المنظمات الداعمة للاجئين.
”في كامپالا، هناك منظمات مثل المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين ومنظمة إنترإيد وغيرها من المنظمات غير الحكومية، لكنَّها لا تقدم أيَّ برامج دعم مخصصة لذوي الإعاقة…نشعر أنَّنا مهمَّشون. لذلك، قررنا أن نجتمع ويساعد بعضنا بعضاً.“
كلتا المنظمتين تروجان لنشاطات رفع الوعي وتوفير الدعم للأعضاء من خلال تقديم خدمات الاستشارات وتدريب المهارات وتشكيل مجموعات التوفير إلاَّ أنَّ مستوى الدعم غالباً ما لا يكفي لتغطية التحديات التي يواجهها الاعضاء.
وتبين حالة اللاجئين البورونديين في أديس أبابا أنَّ حجم مجموعة معينة من اللاجئين هو في أغلب الأحيان المعيار الذي يقرر مدى اهتمام الباحثين وصانعي السياسات. فبدءاً من عام 2018، وصل عدد اللاجئين البورنديين المُسجَّلين في أديس أبابا إلى 57 فرداً مقارنة بثماني عشرةَ ألفِ لاجئٍ أريتيري. وفي مواجهة الموارد المحدودة وضيق الوقت، دأب معظم الباحثين على التركيز على مجموعات اللاجئين الذين يمثلون الأعداد الكبرى من اللاجئين.
إضافةً إلى ذلك، يُنظَرُ إلى بعض المجموعات على أنَّها أقل ارتباطاً بسياق السياسات الحالية، ولا سيَّما في منظومة اللاجئين الدولية. ومثال ذلك أنَّ حجم الأبحاث على المُهجَّرين قسراً شهد زيادة كبيرة، لكنَّ الدراسات المُنجَزَة للتصدي لقضايا اللاجئين كبار السن واللاجئين ذو الإعاقات ما زال محدودة العدد. ويصعب معرفة ما إذا كان غياب برامج المساعدات المحددة التي تقدمها هيئات المساعدات لمثل تلك المجموعات نتيجة ضعف البحوث التي أجريت على تلك الفئات أو ربما أنَّ ضعف البحوث جاء نتيجة لغياب تلك البرامج. إلاَّ أنَّ تلك المجموعات من اللاجئين التي لم تحظ بالقدر الكافي من الدراسات، حسبما أشير إليه آنفاً، قد تكون بالفعل من الفئات المستضعفة التي تستحق تلقي اهتمام عاجل من الباحثين ومنظمات المساعدات.
التوصيات
بخصوص المجموعات التي لم تخضع لما يكفي من الدراسات، على الباحثين أن يُوسِّعوا من نطاق دراساتهم الاستكشافية لتشتمل على ما وراء نقاط التركيز للسياسات الحالية. وقد تكون لدى تلك المجموعات غير المبحوث بها تحديات أو مواطن استضعاف خاصة أو معقدة لم تُدرَس من قبل وقد يؤدي ضعف البحوث في ذلك المجال إلى ضعف القدرة على إنتاج انتباه كاف إحصائياً. وعند التصدي لمثل هذه المسائل، سيكون من المفيد إجراء البحوث النَّوعيَّة على هذه المجموعات بل ستكون خطوة أولى في توضيح وجهات نظر تلك المجموعات التي لم تُسمَع من قبل. ولا شك في أنَّ إجراء البحوث بحد ذاته ليس ضماناً بإحداث أي تغيير مباشر في حياة المجموعات التي لم تُبحَث جيداً، وبالمثل قد يؤدي الاستمرار بالبحوث التي لا تستطيع إثبات الأثر إلى الوقوع في المزالق ذاتها التي كشفت عنها تجربة المجموعات ‘المُفرَط في البحث فيها’ وقد يظهر ذلك على سبيل المثال في الملل من البحوث وخيبة الأمل فيها. ومع ذلك، ما لم تُتَّخَذ الخطوة الأولى، ستبقى التحديات ماثلة دون علاج. ولذلك، ينبغي للباحثين عند التعامل مع المجموعات غير المبحوث فيها كفايةً أن يركزوا على ضرورة إجراء الأبحاث التي يمكنها أن تثري السياسات للتصدي للقضايا التي لم تحظ بالاهتمام.
وفي غضون ذلك، عند الحديث عن المجموعات التي أُفرِط البحث فيها، لا غنى عن تنسيق الجهود بين الباحثين ومنظمات المساعدات ومؤسسات الاستشارات والطلاب بل حتى الصحفيين، لما لذلك التنسيق من أهمية قصوى في منع ازدواجية البحوث المعمولة مع المجموعة الواحدة. وعليه، ينبغي لجهود التنسيق أن تضم وسائل الإعلام والصحفيين العاملين من اللاجئين. ورغم الاختلافات التي قد تكون قائمة في مدونات سلوك تلك الجهات ورغم اختلاف أغراضها في البحث، فلا بد من الانتباه إلى منظور ‘العينة المدروسة’ التي لا تستطيع أن ترى فرقاً في تكرار البحوث لمجرد تغير الجهة التي تنفذها من وسائل إعلان أو أكاديميين أو مؤسسات إنسانية.
ولخفض تلك المشكلة، ربما لا حل آخر متاح سوى التشارك في المعلومات بين الباحثين والهيئات الداعمة للاجئين، مهما بلغ الاختلاف في إجراءات العمل بين الأكاديميين والفاعلين الإنسانيين، ذلك أنَّ الأكاديميين في الغالب يكونون في وضع يسمح لهم بجمع معلومات تجريبية ثرية قد تكون ذات أهمية كبيرة للمؤسسات الإنسانية. ومثال ذلك أنَّنا في عام 2013 قدَّمنا جميع قواعد بياناتنا بالكامل في أوغندا إلى المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين مشترطين عليها أن تستخدم البيانات لهدف محدد وهو خدمة أغراض تطوير البرامج. ويمكن لتلك المقاربة أن تنجح على المستوى المحلي عندما يتبادل الباحثون ومؤسسات المساعدات المصالح والاهتمامات الواضحة والملموسة، فبينما يتيح الباحثون بياناتهم ويتشاركون بها، بمقدور الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الإنسانية أن تقدم الدعم للباحثين وتعطيهم البيانات المتاحة لديها. ولتشجيع ذلك، على الوسط الأكاديمي أن يدرك القيمة الحاصلة من التشارك بالبيانات التي تمثل ‘أثراً’ ومساهمة في صناعة السياسات.
إضافةً إلى ذلك، ينبغي بالنسبة للمجموعات المفرط في البحث فيها أن يعيدوا النظر في الممارسات الأساسية لأخلاقيات البحوث والمضمونات التي تكتنف عملهم. ومع أنَّ معظم الباحثين قد يجرون دراساتهم بهدف تحسين ظروف المُهجَّرين قسراً، من الضروري أن ينتهجوا منهج الانفتاح والصدق بشأن احتمالات مشروعات البحث وحدوده من ناحية إحداث أي تغييرات في السياسات، هذا إن لم نقل تغييرات مباشرة فيها، بما ينعكس على حياة الناس. ويحتم علينا أن نعيد النظر في كيفية توعية مجتمع اللاجئين المدروسين في البحث بشأن هذه الحقيقة البديهية البسيطة
ثم إنَّه لا بد من النظر ملياً بمسألة تبادل المنفعة ومنح مكافأة عادلة للمشاركين. وحتى لو كان الباحثون غير متأكدين من أنَّ مخرجات البحث ستكون مدخلات يستخدمها صانعو السياسات، فإنَّ توفير التعويض المادي للمشاركين سيكون له أثر مباشر أكثر في توفير المنافع المتبادلة للاجئين. وإضافة إلى التكاليف الحقيقية التي تترتب على المشاركين نتيجة مشاركتهم في البحث، مثل أجور المواصلات للوصول إلى موقع البحث وبدل الوقت الذي يقضونه، فلا بد من منح تعويض ما لضمان قدر ما من ذلك الحس بتبادل المنفعة. ومع أنَّ تقديم المكافآت المادية أو الهدايا للمشاركين مسألة جدلية في دراسات الهجرة القسرية، هناك مزايا لا يمكن أن ننكرها من ذلك نظراً إلى حالة الملل الشائعة من البحوث وكراهية بعض مجموعات اللاجئين للحضور في بحث يضيع وقتهم.
وفي نهاية المطاف، نقول إنَّ هذه القضايا الأخلاقية في سياق المجموعات التي لم يُبحَث فيها جيداً وتلك التي أفرط الباحثون في البحث فيها إن أُهمِلَت فربما تؤدي إلى تقويض مساءلة مجتمع البحث ومصداقيته في عيون اللاجئين إلى درجة كبيرة.
ناوهيكو أوماتا naohiko.omata@qeh.ox.ac.uk
موظَّفُ بحوثٍ رئيسيٌّ في مركز دراسات اللاجئين في قسم التنمية الدولية بجامعة أكسفورد www.rsc.ox.ac.uk