طالما كان في انقضاءِ عقدٍ من الزمن، وطلوعِ عقدٍ جديد، فرصةٌ جيّدة لنقف قليلاً ونراجع عقولنا، في تقديرِ ما عَمُقَ من الاتّجاهات التي تَسُوقُ نشرات الأخبار ودوراتِها التي لا تنفكُّ تقصر. فإن نظرنا فيما مضى من العشر سنين الأخيرة، فإنّ من أبرز ما يلوح لنا من سماتها، هو عَجْزُ الحكومات الوطنية المتزايِدُ، عن معالجة أشدّ المسائل الخلافيّة اقتضاءً للعناية العاجلة في عصرنا هذا. فتحدياتٌ في تغيُّر المُنَاخ، وتحدّياتٌ في تقنين وسائطِ التواصل الاجتماعيّ والتِّقانات المستحدثة وتقعيدِها. والظاهر أنّ ما في المستوى الوطنيّ من حلولَ، ما كانت قطّ أبعد منها اليومَ عن أن تكون الغلبة لها في التحدّيات التي تقع علينا. وليس يتّضحُ هذا العجْزُ في شيءٍ مثلَ اتّضاحهِ في مسألة الهجرة القسرية، فإخفاق الحكومات الوطنيّة حاصلٌ في كلِّ مرحلةٍ من مراحل معالجةِ العوامل التي تدفع الناس إلى الفرار، وإعانتِهم وهم في طريقهم إلى الملاذ، وتهيئةِ أماكنَ آمنةٍ لهم ينتهون إليها ويجدون فيها تَرْحاباً وإكراماً. على أنني أرى، ونحن نتطلّعُ إلى عقدٍ جديد ونُعِدُّ له عُدَّتهُ، أنَّ للأملِ موضعاً، نجده في تزايدٍ حاصل في قدرة المدن وتأثيرها، فبهذا التزايد تستطيع المدُنُ أن تجعلَ من عالَمنا عالماً أعدلَ وأعمَّ حُبّاً لخير الإنسان.
فالمدُنُ مُتصدّرةٌ الأمكنةَ التي تستوعِبُ وتُدْمِجُ فيها الناسَ المقسورين على الفِرار عن ديارهم. ومع أنّ هذا الأمرَ مُفْتقِرٌ إلى إحصاءاتٍ يوثق بدقّتها، وأنّ هذا الافتقارَ يزيد الطينَ بَلّاً، فمن المُقَرِّ بصحّتهِ عموماً أنّ السواد الأعظم من لاجئي العالم هم اليومَ في المناطق الحضرية، وأنّ دَوْرَ المدن يتّسع في إيواءِ مَن هُجّرَ في داخل بلده. وهذا يُبيِّنُ أنّ معدّلات النمو السكانيّ في الحضر في العالم بأسره آخذةٌ في طريق الزيادة الكثيرة على غير العادة، حتى إنّ من المتوقع أن يصل عدد ساكني الحضر في عام 2050 إلى ستّة مليارات وثلاثة أعشار المليار (6.3). وفي هذا المقامِ أقول إنّ مدينتنا إبْرِستُل بالمملكة المتحدة هي إحدى المدن المُجيرَة –ولا فَخْرَ– تتبع مؤسّسةَ المدينة المُجيرَة الخيريّة (City of Sanctuary)، وإنّ إدمَاجَ كلِّ قادمٍ جديد أصلٌ من أصول رِسْمِ السياسة عندنا. إذ نرى اللاجئينَ مجلبةً للخير إلى مدينتنا، ونسعى إلى دَعمهم، ولا تقف غاية سعينا عند صلاح أمرهم، ولكنْ تصل إلى أن يستطيعوا الإسهامَ في إرغاد عَيْش الإبْرِستُلِيِّين جميعاً. ولقد شكّلَ طريقةَ تفكيرنا هذه الواقِعُ الذي عليه سكّان عالمنا. فَلِأهلِ إبرِسْتُلَ –مَن قَدُمَ منهم ومَن حدث– أفرَادُ أسرٍ في مدن العالَمِ، شرقه وغربه، أي أننا معنيّون بالأوضاع التي عليها هذه المدن وأُمَمُهَا.
ونحن نعلم يقيناً أنْ ليست مدينتنا بمنقطعة النّظير في سعيها إلى هذا المنهج. فهذه عمّان وكامبالا وساوباولو وجاكرتا، مدناً وقادةَ مدنٍ، تراها تَجِدُ طرقاً إلى جعل إدماج اللاجئين فيها حقّاً. وهي على ما تبذله من جهدٍ مُسْتحقّةٌ الثناءَ، وجديرةٌ أن يُنعَمَ النظر في طُرُقِها، حتّى نعلم منها ما ينفع، ونسعى إلى أنْ نكرِّر طِبْقاً الحسنَ من أعمالها وسُننِهَا.
على أننا فيما أعتقد إذا قَصَرنا في العقد المقبل جَرَيانَ الابتكار والتشارك على المدن فقط، فسوف تفوتنا فرصة عظيمة. وإلى كلِّ ما ذكرت من عملٍ، نحتاج إلى أن نرفع شأن المدن ونزيد تأثيرها، في الآليّات العالميّة المُسلَّطةِ على حريّة تنقُّل الناس، والمُمكّنةِ إيّاها.
المدُنُ شَرِيكةٌ بالسَّوَاء
وأمّا الخبَرُ السارُّ فأنّ بَذْلَنا الجهدَ في ذلك قد بدأ. ففي المفاوضات التي دارت حول الاتّفاقَين العالميَّين في الهجرة وفي اللاجئين، كان من حُسْن حظّي أن عملت مع عددٍ من المدن على أن نحاول جميعاً التأثير في هذين الاتّفاقَين الحاسمَين. فتحصّل من ذلك إعلان مُرّاكش الصادر عن رؤساء البلديّات تحت عنوان ’في عمل المدن يداً بيدٍ لخَيْر المهاجرين واللاجئين‘ ،[i] الذي أُعلِنَ في المؤتمر الحكوميّ الدوليّ لاعتماد الاتّفاق العالميّ بشأن الهجرة، وفي اجتماع الجمعيّة العامة للأمم المتحدة الذي اعتُمِدَ فيه الاتّفاق العالميّ بشأن اللاجئين. ويورد هذا الإعلان ما تلتزم بهِ المدن، ويدعوها إلى أن يكون لها شأنٌ جادٌّ في تنفيذ الاتّفاقَين وتقويمهما.
ويتابع اليومَ مجلسُ رؤسَاءِ البلديّات المعنيُّ بالهجرة تلك الجهودَ ويزيدها، وهذا المجلس مبادرةٌ جديدة عُمِدَ إليها لدَعْم المدن، حتّى يتّسع تأثيرها في المستوى العالميّ. وإني مغتبطٌ بكوني عضواً من أعضاء لجنة القيادة في المجلس، مع رؤسَاءِ بلديّاتٍ من شرق العالم وغربه، وإنّا عازمون معاً على أن نُحدِثَ تقدُّماً في الطريق إلى توسيع دور المدن.[ii] ولقد عُيِّنَ أخيراً مجلسُ رؤساء البلديّات المعنيُّ بالهجرة، في اللجنة التّوجيهية لصندوق الهجرة الاستئماني المتعدد الشركاء الذي يتبع الأمم المتحدة، وهذا التعيين دليلٌ على أنّ هذه الجهود قد بدأت تؤتي أُكُلَها. ولكنْ لا شكّ أن ما ينبغي فعله فوق ذلك كثيرٌ، وما ينبغي تعبيده من العقبات عديدٌ، هذا إذا أردنا أن نرى الحوكمةَ العالميّة في حلقةٍ تكراريّة جديدة، تُجْعَلُ فيها المدن وشبكات المدن شَرِيكةً للحكومات الوطنيّة على السَّوَاء.
ولذلك أرى أنّ هذا العدد من نشرة الهجرة القسرية جاءَ لميقات الحاجة إليهِ. فهو يكشف اتّساع مجال السِّياقات الحَضَريّة، ويعرض الطرق التي تسعى بها المدن في كل طرفٍ من العالم إلى تأدية ما عليها لإدماج القادمين الجدد فيها. ويلقي العدد الضوءَ على ما في هذه السِّياقات من تعقيد، كاشفاً ما يُرَافِقُ العملَ في المدينة من فُرَصٍ وتحدّيات. ولكنْ أكثَرُ من كلِّ ذلك أهميّةً، أنّه يُمَتِّنُ شأنَ المدنِ فيُنزِّلُها منزلةَ أصحاب المصلحة المعنيّينَ، فلا يُستغْنَى عنها في حوكمة التنقُّل البشريّ. وإذ قد دخلنا في هذا العقد الجديد، المُمْتَلئِ بالإمكانيّات والتحدّيات، فلكلِّ أحدٍ منّا دورٌ في ضمان أنْ تُحقِّقَ المدن ما يُظنُّ بها من خيرٍ، وأنْ تُعِينَ على جعل العالَمِ لمَنْ قُسِرَ على تَرْكِ داره أكثرَ أماناً وإنصافاً وإحساناً.
مارفِن رِيْس، رئيس بلديّة إبرِستُل
ولمزيدٍ من المعلومات يرجى الاتصال من طريق mayor@bristol.gov.uk
[i] www.mayorsmigrationcouncil.org/pdf/marrakech_mayors_declaration-2019_02_19.pdf
[ii] ويأتي أعضاء لجنة القيادة الآخرون من مُنتِريَال ولوس آنجِلِس وساوباولو وزيورِخ وميلان وفريتاون وكامبالا وعمّان وأثينا.