أُجرِيَ حديثاً استعراضٌ للسُّنَنِ الحسنة التي تتّبِعُها هيئات المعونة الإنسانيّة (أي المنظمات غير الحكوميّة المحليّة والدوليّة، وهيئات الأمم المتحدة، وأعضاء الحركة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر) في حالات النِّزاع، والعنف، والتَّهجير، والكوارث الطبيعيّة، ومنها ما استفحل من جرّاءِ تغيُّر المُنَاخ.[1] وأثبتت نشرة السُّنَنِ الحسنة هذه التي عُمِدَ إلى إعدادها تحت مظلّة معهد التنمية الخارجيّة (ODI) وشبكة التعلم لأغراض المساءلة والأداء في ميدان العمل الإنساني (ALNAP)، أثبتت ثلاثةَ مبادئَ رئيسة للسُّنَنِ الحسنة الجديرة أنْ تُتّبعَ في الاستجابة الإنسانية الحَضَريّة.
الأخْذُ بالنّظرة التي مَدَاها بعيدٌ
أول مَبْدإٍ للدخول في المناطق الحَضَريّة هو ’الأخذ بالنظرة التي مداها بعيدٌ‘. وهذا يقتضي الانتباهَ للتأثير البعيد الأمد في كلِّ استجابةٍ إنسانيّة يُستَجابُ بها في مدينةٍ ما. فكثيرٌ من القرارات المُتّخَذةِ سريعاً والإجراءات القصيرة الأمد –كاختيار موقعٍ لمخيّمٍ ’مؤقّت‘ فيصير هذا المؤقّت في آخر المطاف دائماً– ممكنٌ أن يكون لها أثرٌ ثابت. فينبغي أنْ تنظر الاستجابة الإنسانيّة، كلما أمكن ذلك، إلى المعونة على أنّها استثمارٌ، لا تُنفَدُ فيه ميزانيّاتُ المعونةِ القليلَةُ في إجراءاتٍ قصيرة الأمد لم تُخصَّص إلاّ لقضاءِ الحاجات التي لا تحتمِلُ التّأخيرَ.
ومثَالُ ذلك: المأوى. إذ يُعَالِجُ عددٌ من منظمات الإعانة، في الأردن ولبنان –كالمجلس النرويجي للاجئين– حاجات اللاجئين السوريّن إلى المأوى، فيعالجونها بالعمل مع أصحاب العقارات على إصلاح عقاراتهم وتحسينها بشَرْطِ أن يُسكِنُوا اللاجئينَ فيها. وفي ذلك وجْهُ فائدةٍ من أنْ يُسْتثمَر مالُ المعونة في تحسين البِنْية التحتيّة (ومن ثَمّ الإسهَامُ في تَحْسينِ مدينةٍ، وإن كان نطاق التحسين ليس بالعريض)، وأنْ يُتَشَاركَ مع السكّان المُضيِّفينَ تشاركاً طيّباً. وأمّا معايِبُ ذلك، فمنها الإبهَامُ في طول مُدّةِ الدعم (وهي في بعض المشاريع سنتان) وفي ما يحدث بعد ذلك.
ولقد ذاع صيت مقاربةٍ مُتّخذَةٍ في وضع برامج الإيواء، منظورها بعيد الأمد، ونصيبُها من التأييد غالبٌ في السنين الأخيرة، وهي ’مقاربة المستوطنات‘، وتُعرَفُ أيضاً بالمقاربة المُخصّصةِ لكلِّ منطقةٍ على حِدَتِها. وتُصوَّبُ هذه المقاربة إلى الأحياء انطلاقاً إلى المشاركة فيها، وهي أيضاً مُوجّهةٌ في أكثرها إلى دَعْمِ الجهات الفاعلة المحليّة (من مُهجَّرينَ وسكّان مُضيّفين) لتشارك في انتعاش البيئة المُحيطَةِ أو تحديثها أو تحسينها، على حسَبِ الأَزْمةِ المُتناوَلة. وعلى ذلك، فذِيُوعُ الصّيتِ المُتزايِدُ لهذه المقاربات المُخصّصةِ لكلِّ منطقةٍ على حِدَتِها، آتٍ من المشاركة الشديدة التي بينها وبين الجهات الفاعلة المحليّة، وممّا يُرَى فيها من تحوّلٍ عن التوجُّه القِطاعيِّ إلى توجُّهٍ استجاباتُهُ مُنسَّقةٌ، تشترك فيها قِطَاعاتٌ عِدّة.
غير أنّ تنفيذَ المقاربات المُخصّصةِ لكلِّ منطقةٍ على حِدَتِها أمرٌ ليس باليسير. مثال ذلك أنّ مبادرةً في جمهورية إفريقيا الوسطى أعانت نحواً من 20 ألفَ إنسانٍ عادوا من مناطق النِّزاع على إعادة استقرارهم في بَانْغي بين عامي 2016 و2017؛ فأشركت في ذلك جماعةً عريضة من أصحاب المصلحة المعنيين العاملين في أربعة أحياء، وأقامت غير ذلك من الأنشطة، من بينها بنَاءُ القدرات في السلطة المحليّة، وإصدَارُ تقديراتٍ متعددة القطاعات في المستوطنات، ومفاوضَةُ أصحاب المصلحة المعنيين ومناقشتهم، مفاوضةً ومناقشةً شاملتَين. وقد ذكرت نشرة السُّنَنِ الحسنة ما وقع على المبادرَةِ من تحدّياتٍ في التنسيق (فأخّر ذلك تنفيذَ المشروع)، قلَّلَ القدرات المحليّة، قلَّلَ الموارد (فحال ذلك دون تكرار المشروع في الأحياء الأخرى). وتُشِيرُ إلى مثل هذه التحدّيات في التنفيذ أمثلةٌ أخرى للمقاربات المُخصّصةِ لكلِّ منطقةٍ على حِدَتِها. وهذا ممّا يُظهِرُ طبيعَةَ المدينةِ المعقّدةَ، والمصاعب التي تُلازِمُ الإقبالَ الجادّ المُفيدَ على مواضعَ كهذه.
الخَوْضُ في التَّعقيد
بِنْيةُ المعونة التقليديّةُ، التي نشأت وتطوّرت عن العمل في المناطق الريفيّة غالباً، لا تَصْلُحُ لِما في الحَضَر من تعقيد. وقد نُقِدَتِ المقاربة القِطَاعيّة؛ أي التي يُتوجّه فيها إلى قِطَاعاتٍ معيّنة محدّدة، نقداً شديداً من حيث فعّاليّتها في استجابة المناطق الحضريّة، حيث قد يُحتاجُ إلى استجابةٍ كُليّةٍ متعددَةِ القطاعات، مع روابط أمتن بين القطاعات، وتنسيقٍ أكثر في المدينة.[2] على أنّ نشرة السُّنَنِ الحسنة أشارت إلى مقاربتَين نافعتَين في الاستجابات الحضريّة: مقاربةٍ مِحوَرُها النّاسُ ومقاربة النظُمُ وِجْهتُها.
فأمّا المقاربة التي محورها النّاس فمصوَّبةٌ إلى جوانبَ، كاستعمال ’الذخائر‘ (أي المهارة والقدرة والصداقة وغير ذلك) التي يبنيها الناس شيئاً فشيئاً ويستعملونها، ويفقدونها أحياناً حينَ تنزل بهم أزْمَة. وهذا يزيد الحاجة إلى أنْ يَرْكُزَ العمل الإنسانيّ همّه في الناس أولاً، وهو أمرٌ يُخشَى أن يضيعَ في غَمَرات العمل الحَضَري.
وأمّا المقاربَةُ التي وِجْهتُها النظُمُ فتُعِينُ على تَبْيين الترابط في طبيعة عناصر الحياة في المدينة، كالأسواق والاقتصادات والبنية التحتيّة. فاتّخاذ منظور النُّظُم في التدخّلات الحَضَريّة أمرٌ بالغُ الأهميّة. ومثال ذلك، أنّ ما يُحتَاجُ إلى النظر فيهِ، في أمر المياه والصرف الصحيّ وتدابير حِفظ الصحّة في المناطق الحضريّة العامّة، كثيرٌ ومعقّدة. فتُعِينُ المقاربَةُ التي وِجْهتُها النظُمُ على التخطيطِ لحلِّ بعض هذا التعقيد، وعلى تَحْديدُ المَواضعِ التي يحسنُ بذل الجهد فيها، وتَحْديدِ مَبَالغِ الغايات. ولقد يختلف ذلك باختلاف الأَزْمة. إذ جاء في نشرة السُّنَنِ الحسنة: “أنّ في خلال حالة الطوارئ الشديدة، يجوز أنْ تحلّ المنظّمات الإنسانيّة محلّ مزوّد الخدمة في تهيئةِ الصّهاريج أو القِرَب وابتداء نقل الماء بالشاحنات. ويشتمل ما يجب النظر فيه، في الأحوال التي تطول فيها الأزْمَة، على حَفْزِ السلطات المحليّة إلى أنْ تتعهَّدَ رواتبَ موظفي المنظّمات الإنسانيّة بالتمويل، وإلى أن تُموّلَ الإجراءات وأعمال الصّيانة، ثم على تَأْهِيبِ الحكومة المركزيّة والجهات الفاعلة في الميدان الإنمائي المحتمل اشتراكها (حين تسمح الحال بعودتها)، وذلك للالتزام التزاماً نَشِطاً بإعادة الخدمات، وإعانة المَرْفِقِ المعنى به على السير في طريق الاستقرار الماليّ.”
ولربما تكون أدوات إدارة المشروع المناسِبَةُ للمخيّمات ولإيصال المعونة إلى المناطق النائية أقل صُلُوحاً للمناطق الحضريّة بكثير. فاستعرضت نشرة السُّنَنِ الحسنة عدداً من الأدوات والمقاربات التي تستعملها الهيئات عند بَدْءِ أعمالها، وذلك لفَهْمِ ما يُحتَاجُ إليهِ فهماً أفضل. وأحد هذه الأدوات تحليل سياق الأحوال، لتحسين فَهْمِ ديناميّاتِ مدينةٍ ما (في سياق أحوالها قبل أن تنزل أزْمَةٌ بها). ولعلّ من أشهر الأساليب في تحليل سياق الأحوال هو عُدَّةُ التخطيط لسوق الطوارئ وتحليلها (Emergency Market Mapping and Analysis)، التي لها وَقْعٌ خاصٌّ في المناطق الحضريّة حيث الأسواق الناجحة.[3]
وبين المقاربات مقاربةٌ أخرى، فيها تقديراتٌ واستهداف، وهي مُوجَّهةٌ إلى تعيين أكثرِ النّاسِ مواطنَ ضعفٍ. ولقد يكون هذا التّعيينُ معقّداً، لا سيّما في المدن؛ فربّما كان الناس مختبئينَ أو منثورينَ هنا وهناك، أو لا يريدون أن يُكشَفَ مكانهم. ولهذه الأسباب، إلى حدٍّ ما، إضافةً إلى أنهُ واضحٌ أنْ ليس من السُّنَنِ الحسنة أن تُتَجاهَلَ المجتمعات المحليّة المُضيّفة، تدعو لجنة الصليب الأحمر الدولية مُنَاصِرةً إلى إعانةٍ ’تشمل الحيَّ المُعَانَ كُلّهُ‘ في حالات الطوارئ الحضريّة.[4] وبتدَارُكِ ما تقدّم ذكره من أوجه القصور في المقاربة الأحاديّة القِطاع، وَجَدَتْ مُرَاجعةٌ منهجيّة لمقاربات التقديرات الحضريّة أنّ أفضل التقديرات أداءً للوظيفة هي التقديرات المتعدّدة القِطاعات، فقالت: “ليست حاجات السكّان من مأوىً ومياهٍ وصرفٍ صحيٍّ وتدابير لحِفظ الصحّة ورعايةٍ صحيّة وأمنٍ غذائيٍّ وأوجهِ معاشٍ، بمنفصلٍ بعضها عن بعض. إنما تتفاعل الحاجات فتكوِّن مواطن الضعف، فلا بدّ من أن تُقضَى بمقاربةٍ متعدّدة القِطاعات تُرشِدُ الاستهداف في سبيله.”[5]
وثالثُ المقاربات هي التشخيص؛ أي التحديد التعاونيّ للنازحين داخلياً أو للجماعات (أي تَحْديدُ طباعهم وخصالهم وتجاربهم وثقافتهم وبيئتهم السابقة) من خلال جَمْعِ المعطيات والتحليل لكي تُتاحَ لهم الإعانَةُ والحماية.[6]
التعاون
ثالثُ مبدإٍ من مبادئ السُّنَنِ الحسنة الجديرة أن تُتّبَعَ في الاستجابة الإنسانيّة الحضريّة، على ما جاء في نشرة السُّنَنِ الحسنة، موصولٌ بالتعاون الجادّ المفيد، مع الجهات الفاعلة المحليّة، وبين المنظمات الإنسانيّة. فلنأخذ أمرَ الجهات الفاعلة المحليّة أولاً ونقول بتعبيرٍ واضح: إنّ المنظّمات الإنسانيّة الخارجيّة التي تعمل معزولةً عن غيرها صائرةٌ إلى الإخفاق في الغالب، ولقد يكون من ذلك ضرر. وفي مٌقدّمةِ الجهات الفاعلة المحليّة، سلطات المدينة، التي يُبَالغُ في كثرة تجاهلها بالجملة، في الأعمال الإنسانيّة. ووجدت دراسةٌ جرت في عام 2016 على عدد من المدن التي تعاني أزمةً، أنّ سلطات المدن، التي كانت في الأكثر مغلوبةً في أمرها لا تعرف كيف تفعل، تَتَجاهَلُهَا الهيئات الدوليّة التي أخفقت في فَهْمِ الديناميّات المحليّة وفي العمل مع أصحاب المصلحة المعنيّين المحليّين.[7] ووجدت الدراسة أيضاً نقصاً في آليّات التنسيق بين أصحاب المصلحة المعنيّين المتعدّدين في المدينة، فأدّى ذلك إلى “إنشاءِ تباينٍ بينَ الجهات الفاعلة الدولية والمحليّة“.
فإن أُريدَ للعمل الإنسانيّ في الحَضَر أن يكون ناجعاً، فلا بدّ من القيام بهِ بتعاون وثيقٍ مع السلطات. هذا يعني، على سبيل المثال، الالتزام ببُنَى وأنظمَةِ التّخطيطِ المحليّ في المدينة، وإن لم تؤدّي السلطات مهمّاتها، يُنصَحُ للهيئات الالتزام بالسياسات القائمة، وذلك لتقليل خَطَرِ أن تنشأ بُنَىً موازيةٌ للبنى المحليّة. ومن الجهات الفاعلة الأخرى العصابات، وبِيَدِهَا نموذجٌ متينٌ من إدارة الأمور في الأحياء التي تسيطر عليها (الفقيرة غالباً). وبَيّنَ بحثٌ أجرتْهُ شبكة التعلُّم لأغراض المساءلة والأداء في ميدان العمل الإنساني (ALNAP) أنّ كلَّ عملٍ تقوم به الجهات الفاعلة في ميدان العمل الإنسانيّ، في حيٍّ من مدينةٍ تُسَيطرُ عليهِ عصابةٌ “يَخْضعُ لمناقشة العصابة ولإذْنِها، عَلِمَ بذلك أحدٌ أو لم يعلم“. وذكرت نشرة السُّنَنِ الحسنة أنّ هيئاتٍ كلجنة الصليب الأحمر الدوليّة “تَمْتحِنُ بعيداً عن أعين الناس” مقارباتٍ للتعامل مع العصابات.
وبعدُ، فالحاجة إلى التعاون بين الجهات الفاعلة في ميدان العمل الإنسانيّ ليست بالأمر الجديد، لكنّ إخفاق التعاون في استجابة الحَضَر –حيث القطاعات وثيقَةُ الارتباطِ بالطبيعة المُكتظّةِ المُتدَاخِلِ بعضها في بعضٍ التي عليها الحياة في المدينة– يُفضِي إلى بَذْلِ الجهد في غير طائل، وفَوَاتِ الفرص.
دافيد سَندِرسُن david.sanderson@unsw.edu.au
نائلٌ كرسيَّ أستاذيّةِ جودِث نِلسُن في هندسة العِمارة، بجامعة نيو ساوث ويلز، في سِدني www.be.unsw.edu.au
[1] Sanderson D (2019) Good practice review in urban humanitarian response, ODI/ALNAP
(نشرة السُّنَنِ الحسنة في الاستجابة الإنسانيّة الحضريّة)
https://goodpracticereview.org/12
[2] IRC (2015) Humanitarian Action in a New Urban World, World Humanitarian
Summit Regional Consultation, Europe and Others
(العمل لخير الإنسان في عالمٍ حضريٍّ جديد)
www.preparecenter.org/sites/default/files/irc_urban_position_paper_whs_budapest_print.pdf
[4] ICRC (2018) Displaced in Cities: Experiencing and Responding to Urban Internal Displacement Outside Camps
(المهجَّرونَ في المدن: تناوُل التَّهجير الداخليّ الحَضَري خارجَ المخيّمات بالتجربة والاستجابة)
[5] Patel R, King J, Phelps L and Sanderson D (2017) What practices are used to identify and prioritize vulnerable populations affected by urban humanitarian emergencies? Systematic Review, Humanitarian Evidence Programme, Oxfam
(ما السُّنَنُ المُتّبعةُ لتعيين وتحديد أولويّة الفئات السكّانية المستضعفة المتضرّرة من حالات الطوارئ الإنسانيّة في الحَضَر؟)
[6] JIPS (2014) Guidance for Profiling Urban Displacement Situations: Challenges and Solutions (إرشاداتٌ لتشخيص حالات التَّهجير الحضريّ: تحدّيات وحلول)
www.jips.org/jips-publication/jips-guidance-profiling-urban-displacement-2014
[7] IMPACT and UCLG (2016) Consultations on Humanitarian Responses in Urban Areas: Perspectives from Cities in Crisis
(مشاوراتٌ في الاستجابات الإنسانيّة في المناطق الحضريّة: منظوراتٌ من مُدُنٍ داخلةٍ في أزْمَة)