للعراق تاريخ طويل ومؤلم في مجال الهجرة القسرية، ففي العقد المنصرم وحده، كان العراق مشهداً لما لا يقل عن أربع موجات مختلفة من التهجير والعودة. وأول موجة حدثت بعد مدة قصيرة من سقوط حزب البعث من السلطة حيث تبع ذلك عودة ما يقدر بنصف مليون عراقي ما بين مارس/آذار 2003 وديسمبر/كانون الأول 2005. وفي حين أنَّ حركة العودة هذه كانت من حيث المبدأ ظاهرة إيجابية كبيرة "لمزايا تغيير نظام الحكم" فقد جاءت أيضاً بجملة من التحديات التي ما زال العراق يعاني منها إلى يومنا هذا. أما الموجة الثانية من التحركات السكانية بعد نظام صدام حسين فقد شكل غالبيتها كلاً من الأشخاص الذين كانوا يخشون التعرض للأذى على خلفية ارتباطاتهم الفعلية أو المتصوَّرة بالنظام السابق، والأشخاص الذين أُجبروا على الهرب بضغوط العائدين والأشخاص المسلحين (في بعض الحالات) الذين كانوا يدعمون هؤلاء العائدين.
لكنَّ أزمة التَّهجير الكبرى وقعت بين شهر فبراير/شباط 2006 وأواخر عام 2007 نتيجة العنف الطائفي الذي خرج عن السيطرة مسبباً نزوح 1.6 مليون عراقي داخل العراق وتهجير عدد مقارب لذلك إلى خارج البلاد خاصة إلى البلدان المجاورة. ومع أنَّ هذه الموجة الثالثة انحسرت مع انخفاض تهديد اندلاع حرب أهلية شاملة في العراق فهناك تقارير تشير إلى أنَّ الأقليات الصغيرة في العراق ما زال لديها شعور بأنه لا مناص من مغادرتها بلد يتضاءل إحساس الطمأنينة فيها يوماً بعد يوم. وعلى ضوء النِّزاع في سوريا، يجد اللاجئون العراقيون أنفسهم مجبرين على العودة إلى العراق حيث ليس لديهم سوى قليل من الممتلكات (إن كان لهم ذلك أصلاً) وبذلك يصبحون فعلياً مهجَّرين في بلدهم.
لقد تسببت هذه التحركات السكانية واسعة النطاق وما زالت تتسبب في نشوء ضغوط كبيرة على مؤسسات الدولة العراقية المسؤولة عن توفير الخدمات الرئيسية كالصحة والتعليم والماء والإصحاح والكهرباء. كما أنَّها أثارت جملة من القضايا الخاصة في وقت لم تكن فيها المؤسسات القائمة ولا أطر السياسات القانونية مجهزة بما يكفي للتعامل معها. ومن هذه القضايا على سبيل المثال انتشار الفساد في المباني الإدارية والأراضي علماً أنَّ قدراً كبيراً من ذلك الفساد يرتكبه الأشخاص الذين لا يجدون مكاناً آخر يذهبون إليه. ومن القضايا الأخرى ظهور عدد كبير من نزاعات الأراضي والعقارات المرتبطة بالتَّهجير والعودة، وضرورة إدماج السكان الجدد في الخطط والسياسات الإنمائية المحلية والوطنية لرفع وتوسعة القدرة المحدودة للعراق على توفير الإسكان. لقد جاءت هذه المطالب كلها في وقت حرج في تاريخ العراق وتحديداً بعد عقود من الإهمال وسوء الإدارة والعقوبات والنِّزاعات التي جعلت مؤسسات الدولة التي كان يفترض أن تقدم المثل والقدوة في الجودة والكفاءة في الشرق الأوسط مليئة بأوجه القصور والعجز الهيكلي. وهذا الانحطاط بدأ في ثمانينيات القرن العشرين كنتيجة مباشرة للحرب الإيرانية العراقية وأصبحت أكثر وضوحاً في التسعينيات بعد غزو العراق للكويت وما تبع ذلك من فرض للعقوبات الدولية واستمرار صدام حسين بتحويل أموال الدولة عن مسارات إنفاقها المطلوبة.
وفي الفترة الأولى بعد غزو القوات متعددة الجنسيات بقيادة أمريكا للعراق عالم 2003، ساء الوضع أكثر مع انتشار موجات السلب والنهب غير المسيطر عليها والتي أتت على كثير من البنى التحتية المادية للإدارة العامة التي كانت مضمحلة أصلاً. وبهرب كوادر حزب البعث، نشأ فراغ في قيادة كثير من المؤسسات وزاد الأمر سوءاً بهجرة كثير من المهنيين خلال العامين 2005 و2007. أما التدخلات الكاسحة لسلطة الائتلاف المؤقت التي غالباً ما كانت غير مدروسة فقد كانت على حساب تقويض سلطة الدولة العراقية الاحتكارية لاستخدام العنف وساهمت أيضاً في تكوين سياق يضم تحديات جمَّة حتى أمام الحكم الاعتيادي ناهيك عن التعامل مع تداعيات الموجات المتعددة والمستمرة للهجرة والعودة.
مؤسسات الدولة الجديدة
إزاء ما سلف ذكره بشأن الهشاشة السائدة للدولة، قررت سلطة الائتلاف المؤقت إقامة مؤسستين جديدتين للتعامل مع التهجير الجماعي وتبعاته. وأُقرت المؤسستان كلتاهما ثم شهدتا تطوراً من قبل الحكومات المتعاقبة. المؤسسة الأولى هي وزارة الهجرة والمهجَّرين وتتمثل مهمتها الرئيسية في التعامل مع جميع الشؤون المتعلقة باللاجئين العراقيين والنَّازحين وبناء السياسات المناسبة وتنفيذها لمساعدة الأشخاص المتأثرين.
أما المؤسسة الثانية فهي هيئة دعاوى الملكية التي أنيط بها مهمة تسوية مطالب المهجَّرين العراقيين الذين صودرت عقاراتهم أو حُجز عليها أثناء حكم حزب البعث. ثم تطورت كلا المؤسستين ليصبح لهما وجوداً ملحوظاً عبر البلاد وهما الآن جزءاً مؤسساً من المشهد المؤسسي في العراق. وبالنسبة لوزارة الهجرة والمهجَّرين، فتتضمن أدوارها الرئيسية التسجيل الوطني للنَّازحين وتوفير المساعدات والمنح المالية للنَّازحين والعائلات العائدة. وفي الآونة الأخيرة غطت المساعدات اللاجئين العراقيين الذين أجبروا على العودة إلى بلادهم جرَّاء العنف في سوريا. وإلى هذا التاريخ، تمكنت هيئة دعاوى الأملاك من تسوية ما يزيد على نصف الدعاوى التي استلمتها والتي بلغ عددها 160000 رغم وجود اختلاف كبير جداً في معدلات تسوية النِّزاعات تلك من منطقة إلى أخرى على المستوى الوطني.
لكنَّ المؤسستين منذ تأسيسهما لم يكونا بمنأى عن الانتقادات الكبيرة داخل العراق وخارجها، وعادة ما كانت تدور حول أوجه القصور في الكفاءة والفعالية والحساسية والقدرة على الاستجابة لحاجات المهجَّرين والعائدين على حد سواء. ومن الواضح، بعد فوات الأوان، أنَّ بعض شكاوى المستفيدون وصانعي القرارات على الأقل كانت مرتبطة بحداثة هاتين المؤسستين.
أما الإخفاقات المبدئية الفعلية والمتصورة فقد كانت إلى حد كبير ناتجة عن الوقت والجهد الذي كان على المؤسستين بذله لكي تصبحا عاملتين بالكامل. لكنَّ نهاية المطاف بأي مؤسسة تسعى إلى ترسيخ أقدامها في خضّم الأزمات وانعدام الاستقرار السياسي أن تصرف الموارد على القضايا الإدارية الداخلي كتأمين مساحات للمكاتب وتعيين الكوادر وبناء قواعد العمل المعيارية وإجراءاته وتحديد الطريقة المثلى للوفاء بالمهمة التي تأسست تلك المؤسسات لأجلها. لكنِّ الناظر إلى المؤسسات في الخارج غالباً ما لا يرى أياً من تلك الجهود وسرعان ما يؤدي ذلك إلى عدم فهمه لما يحدث ثم شعوره بالإحباط نتيجة غياب أي تقدم بالنسبة للمستفيدين والسياسيين على حد سواء. ونظراً لأنَّ الهيئة تواجه توقعات غير واقعية، فقد عانت على سبيل المثال من أزمة حرجة حول شرعيتها بعد بضع سنوات قليلة من تأسيسها، ما أدى في نهاية المطاف إلى تعديل قانونيهما. ومع أنّ التعديل كان بسيطاً فقد تسبب في خسارة المؤسسة لمزيد من الوقت والجهد اللازمين في تكييف الممارسات الداخلية بحيث تتواءم مع الإطار القانوني الجديد.
وهناك عنصر إضافي تسبب في إعاقة كبيرة لكلا المؤسستين في السنوات الأولى من تاريخهما وهو ردة الفعل من غيرهما من المؤسسات والسلطات الحكومية الأقدم التي كان على وزارة الهجرة والمهجرين (وعلى الأخص منها هيئة دعاوى الأملاك) الاعتماد عليها في عملها. ونظراً للمخاوف التي اعترت المؤسسات الأخرى حول الموارد الوطنية والدولية وحول مقدار الاهتمام الذي سوف يُبذل للمؤسستين الناشئتين، فقد أصبحت المؤسسات أكثر اقتناعاً أنَّه من الأفضل صرف تلك الموارد على تعزيز المؤسسات القائمة لأداء العمل ذلك، وكانت ردة فعلهم في أفضل الأحيان منحصرة على عدم الرغبة في التعاون بينما كانت في أسوء الأحيان انتهاجاً لسلوك معيق صريح. ومع غياب الفهم حول ما ينبغي لوزارة الهجرة والمهجرين وهيئة دعاوى الاملاك أن تحققه وغياب التفويض بشأن القواعد الخاصة والبروتوكولات أو ضباط الارتباط للتعاون بين المؤسسات القديمة والقائمة، زاد تعقيد اندماج كل من وزارة الهجرة والمهجَّرين وهيئة دعاوى الأملاك في أجهزة الدولة العراقية الاعتيادية. واخيراً، هناك حقيقة أنَّ صانعي القرار قد قللوا من شأن الدرجة التي يمكن بها لمؤسسات الدولة القائمة سابقاً أن تتعامل مع التهجير وتبعاته، ومن هنا فقد أخفق صانعوا القرار، على الأقل في المرحلة المبدئية في رفد تلك المؤسستين بالموارد الإضافية لتحقيق تلك الغاية وهذا كله ساعد في زيادة عدم رغبة صانعي القرار في التفاعل مع موضوع التَّهجير ومن ثمّ مع وزارة الهجرة والمهجرين وهيئة دعاوى الأملاك.
وبطبيعة الحال، لا يمكن أن نحدد بالضبط الدرجة التي كان من الممكن تحقيقها في الاستجابة العراقية للتهجير والعودة فيما لو لم تختر سلطة الائتلاف المؤقتة والحومات العراقية التي تلتها إنشاء تلك المؤسستين الجديدتين. لكنَّ تجربة وزارة الهجرة والمهجَّرين وهيئة دعاوى الأملاك تعد من التجارب المفيدة التي يمكن تطبيقها في دول أخرى أيضاً لأنها قد توفر لصانعي القرارات دروساً قيِّمة حول المزايا والمساوئ التي تأتي عند التصدي لهجرة قسرية واسعة النطاق وما يتبعها من خلال مؤسسات جديدة بدلاً من المؤسسات القائمة. وهي تذكّر بقضية أنَّ محاولة تجاوز الهشاشة وقضايا الحكم في مؤسسات الدولة القائمة من خلال تأسيس مؤسسات جديدة تتضمن دون شك تكاليف مادية وجوانب سلبية أخرى. وبقدر الإمكان لا بد من الموازنة بين كل من المزايا والتكاليف المتأتية من الاستثمار في المؤسسات الحديدة قبل تنفيذها ولا بد أيضاَ من إدماجها في صناعة القرارات لتحدي الطريق الأمثل للتقدم نحو الأمام.
هناك أيضاً قضية معقدة معروفة وهي الاستدامة ومدى احتمالية قدرة المؤسسة الجديدة المنشأة لمعالجة التهجير على البقاء إلى أن تنهي عملها إنهاءً فعالاً تجاه الأشخاص الذين تأثروا بالتَّهجير. في العراق، ما زال هذا السؤال ينتظر الإجابة.
بيتر فان دير أوفيرايرت PVANDERAUWERAERT@iom.int رئيس قسم الأراضي والممتلكات والتعويضات في المنظمة الدولية للهجرة. www.iom.int