- November 2024
دراسة لكيفية تمويل البرازيل لاستجابتها للنزوح من فنزويلا بهدف استخلاص نتائج تحليلية أساسية تتعلق بفعالية هذه الآليات. تثير الدراسة أيضًا أسئلة مهمة حول سياسات الهجرة والمعونة وحماية حقوق الإنسان.
شهدت أمريكا اللاتينية تحولات جيوسياسية واقتصادية كبيرة على مدى العقد الماضي، وبرزت الأزمة في فنزويلا باعتبارها عاملًا حاسمًا يزعزع الاستقرار وتترتب عنه آثار بعيدة المدى. فواجهت فنزويلا منذ عام 2017 تراجعًا اقتصاديًا حادًا اتسم بفرط التضخم واضطرابات سياسية ونقص السلع الأساسية، مما أفضى إلى أزمة إنسانية. وتسببت هذه الأزمة بإجهاد النسيج الاجتماعي لفنزويلا وأدت إلى إحدى أهم تدفقات الهجرة في تاريخ أمريكا اللاتينية، حيث بدأ الملايين باللجوء إلى مختلف أنحاء المنطقة ولا سيما في البرازيل.
وأصبحت البرازيل استجابة لذلك مضيفًا أساسيًا للنازحين الفنزويليين، مما تسبب بتحديات وفرص للبلاد إذ تُعد البرازيل موطنًا لأكثر من 501,000 فنزويلي (اعتبارًا من أغسطس/آب 2023 وفق منظمة إيكابس (ACAPS))، وهذا يجعل فنزويلا بلد المنشأ الرئيسي للمهاجرين في البرازيل. وتعترف البرازيل بأغلبية الفنزويليين النازحين بصفتهم لاجئين ولديها أيضًا إجراءات معمول بها تمكّن الفنزويليين النازحين من الحصول على الإقامة الدائمة.[1]
استلزم تدفق اللاجئين الفنزويليين استجابة قوية ومنسقة للنزوح تدعمها شبكة معقدة من الآليات المالية. وليست هذه الآليات مجرد أدوات لوجستية أو اقتصادية، ولكنها ترتبط ارتباطًا وثيقًا بقضايا التعاون الدولي والاستقرار الإقليمي وحماية حقوق الإنسان. يمكن لتحليل هذه الاستراتيجيات المالية بقصد فهم آثارها، والكشف عن أوجه القصور فيها والبحث عن التحسينات الممكنة، أن يضمن ألا تلبي الاستجابة الاحتياجات الفورية فحسب وإنما أن تعزز أيضًا التكامل والاستقرار على المدى الطويل.
استجابة البرازيل المالية لأزمة النزوح الفنزويلية
كانت استجابة البرازيل المالية لأزمة النزوح الفنزويلية شاملة واستراتيجية وشملت طبقات متعددة من التمويل والتعاون، بحيث خصصت الحكومة البرازيلية موارد مالية كبيرة لدعم مبادرات مثل عملية الترحيب (Operation Welcome) التي توفر الخدمات الأساسية، بما في ذلك الوثائق والمأوى الفوري وبرامج إعادة التوطين للمهاجرين الفنزويليين. وحصل هذا الجهد الوطني إلى دعم كبير من المساعدات الدولية التي قدمتها منظمات مثل المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئينـ ومن مساهمات مختلف الحكومات الأجنبية، بما في ذلك الولايات المتحدة وكندا والاتحاد الأوروبي، مما حسّن قدرة الاستجابة واستدامتها.
بالإضافة إلى ذلك، عززت الشراكات مع المنظمات غير الحكومية والكيانات الخاصة من إثراء هذه الجهود وساهمت في توسيع نطاق وفعالية المبادرات. هذا وسهّل هذا التعاون مجموعة من الخدمات، بدءًا من المساعدة في التوظيف ووصولًا إلى برامج الإدماج الثقافي التي تلبي الاحتياجات الفورية وأهداف الإدماج طويلة الأجل للمهاجرين. على سبيل المثال، أدت المنظمات غير الحكومية مثل مؤسسة إيه إس في آي (ASVI Foundation) وإنستيتوتو +58 (Instituto +58) دورًا حاسمًا في توفير دروس اللغة والتدريب المهني والمساعدة القانونية، مما ساعد الفنزويليين على التغلب على تعقيدات الاندماج في بلد جديد. كما ساهمت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية والمنظمة الدولية للهجرة والبعثات الدبلوماسية الدولية في البلاد بعدة موارد شملت ما يقرب من 15 مليون دولار في تمويل التنمية في البلاد.
كان لآليات التمويل المبتكرة، ولا سيما الشراكات بين القطاعين العام والخاص، دور أساسي في تكييف وتوسيع الاستجابة للنزوح، وقد مكنّت هذه الشراكات من نشر الموارد بصورة أسرع وأكثر مرونة في تلبية الاحتياجات الديناميكية للسكان الفنزويليين في البرازيل.
بالتالي، عطلت هذه الاستراتيجيات المالية الحديثة بشكل فعال النماذج التقليدية للاستجابة الإنسانية التي تقودها الحكومة وحدها، وقد أدخلت نهجًا على قدر أكبر من اللامركزية يسمح بتقديم خدمات مخصصة تفيد الفنزويليين النازحين بشكل مباشر. وأدى هذا التحول إلى استخدام أكثر كفاءة للموارد وتأثير أكبر على رفاه الفنزويليين وإدماجهم في المجتمع البرازيلي. ومن خلال جهود التمويل متعددة الأوجه هذه تُظهر البرازيل نهجًا استباقيًا وإنسانيًا لإدارة إحدى أهم أزمات النزوح في المنطقة.
استراتيجية الاستيعاب الداخلي: إعادة توطين الفنزويليين داخل البرازيل
كانت استجابة البرازيل لأزمة الهجرة الفنزويلية متعددة الأوجه، وتمثلت إحدى المبادرات الرئيسية في استراتيجية الاستيعاب الداخلي. وهدف هذا البرنامج الذي تم إطلاقه لإدارة تدفق اللاجئين إلى إعادة توزيع الفنزويليين النازحين من الولاية الحدودية المكتظة إلى أجزاء أخرى من البرازيل. وسهلت الاستراتيجية الوصول إلى فرص أفضل والاندماج في سوق العمل الرسمي، مما خفف بشكل كبير من العبء الأولي على المناطق الحدودية. بالإضافة إلى ذلك، ومن خلال توفير الدعم اللوجستي مثل النقل والوثائق والمساعدة الإسكانية الأولية، عملت الاستراتيجية على توزيع التأثير الديموغرافي والاقتصادي على مختلف أنحاء البرازيل، وعززت أيضًا اندماج الفنزويليين على المدى الطويل، مما سمح لهم بالمساهمة في التنوع الاقتصادي في البرازيل وإعادة بناء حياتهم في ظل ظروف أكثر استقرارًا.
كما اضطلعت عملية إعادة التوطين الاستراتيجية هذه بدورٍ أساسي في الحد من الاكتظاظ في ولاية رورايما والمناطق المحيطة بها، وساهمت أيضًا في تحسين الاندماج الاجتماعي والاقتصادي للفنزويليين في جميع أنحاء البرازيل. ويعكس نجاح برنامج الاستيعاب الداخلي فعاليته في مساعدة اللاجئين على تأسيس حياة جديدة في المناطق التي تتمتع بفرص عمل إضافية وظروف معيشية أفضل، كما يتضح من العدد الكبير من الفنزويليين الذين شاركوا فيه. فلا يدعم هذا النهج اللاجئين فحسب بل يوزع أيضًا فوائد وتحديات الهجرة بشكل أكثر توازنًا بين الأراضي الشاسعة في البرازيل.
ومن خلال دمج الشركات الخاصة في برنامج الاستيعاب الداخلي، نجحت الحكومة البرازيلية في الاستفادة من صناديق المسؤولية الاجتماعية للشركات لتوفير التدريب المهني المستهدف وفرص العمل للفنزويليين الذين تم نقلهم. على سبيل المثال، وظّفت أدامي إس إيه (Adami S/A)، وهي شركة تغليف وخشب في سانتا كاتارينا، 36 لاجئًا فنزويليًا تمت إعادة توطينهم من رورايما، مما وفر لهم فرص العمل وأيضًا إمكانية الاستفادة من الإسكان والدعم الاجتماعي والتدريب الفني من خلال مشروع Acolhidos por Meio do Trabalho (الترحيب من خلال العمل). ولا يؤدي هذا النهج المستهدف إلى تسريع اندماج اللاجئين فحسب بل يدعم أيضًا استقرارهم الاقتصادي وإدماجهم الاجتماعي على المدى الطويل.
تقديم الدعم القانوني للفنزويليين في البرازيل
تشمل إحدى المبادرات البارزة، التي نتجت عن الاستجابة لأزمة النزوح الفنزويلية، برنامج العدالة بلا حدود (Justicia sin Fronteras) الذي تديره محكمة العدل في ولاية رورايما بالشراكة مع القاضي الفنزويلي أوزوالدو خوسيه بونس بيريز (Oswaldo José Ponce Pérez) الذي يعيش الآن في البلاد. يُقدم هذا البرنامج خدمات التسوية المدنية للمهاجرين الفنزويليين المرتبطة مباشرة بقضايا مثل الاعتراف بالأبوة والاعتراف النقابي المستقر ودعم الطفل وحضانة القاصرين. بالإضافة إلى ذلك، يعالج البرنامج طلبات مثل تسجيل الأطفال المولودين في البرازيل وتصحيحات الوثائق والتحرر (العملية التي بموجبها يصبح الشخص دون سن 18 عامًا حرًا بموجب القانون من وصاية والديه أو الأوصياء) ومسائل القضاء المدني الأخرى.
وأتت هذه المبادرة كاستجابة تعاونية لقضايا الهجرة المتزايدة في ولاية رورايما، وساعد في إنشائها اتفاق تعاون قضائي مع المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، بحيث تسمح هذه الشراكة بعقد الإجراءات باللغة الإسبانية وتلبية الاحتياجات اللغوية للاجئين الفنزويليين. يؤدي البرنامج دورًا أساسيًا في استجابة البرازيل للنزوح من خلال تخفيف الضغط المالي على الموارد العامة، ويحل القضايا المدنية الرئيسية الضرورية لاندماج الفنزويليين في المجتمع. ويُمكّن هذا الدعم الأفراد النازحين من الوصول بسهولة أكبر إلى فرص العمل والتعليم والخدمات الاجتماعية مما يقلل من اعتمادهم على المساعدات الطارئة وغيرها من الموارد التي تُمولها الدولة. وبالتالي لا يلبي البرنامج الاحتياجات القانونية العاجلة فحسب، بل يساعد أيضًا في ضمان اتباع نهج أكثر استدامة وفعالية من حيث التكلفة لإدارة أزمة النزوح في البرازيل.
التبعات والتعلم
تكشف دراسة استراتيجيات التمويل التي تستجيب لأزمة النزوح الفنزويلية في البرازيل عن نهج معقد ولكنه مبتكر يجمع بين العمل الحكومي والتعاون الدولي ومشاركة القطاع الخاص. ولم يدعم هذا المزيج الاحتياجات الإنسانية الفورية فحسب، بل سهّل أيضًا اندماج المهاجرين الفنزويليين على المدى الطويل في المجتمع البرازيلي. لكن الاعتماد على مصادر التمويل المتنوعة والشراكات يطرح أيضًا بعض التحديات، ومنها الحاجة إلى التزام مستدام من جميع أصحاب المصلحة وضرورة التكيف باستمرار مع الاحتياجات المتغيرة للاجئين.
وتترتب عن هذه النتائج آثارٌ عميقة في كل من السياسة والممارسة، إذ إنها تُشير إلى أن اتباع نهج شامل يجمع بين مختلف أصحاب المصلحة يمكن أن يعزز فعالية تمويل الاستجابة للنزوح، لكن تدعو الحاجة إلى مزيد من البحث لتحسين هذه الآليات وضمان إمكانية توسيعها واستدامتها.
مع استمرار تطور قضايا النزوح العالمية، ثمة حاجة ملحة لإيجاد حلول تمويل أكثر شمولًا وابتكارًا بقيادة مجتمعية. ومن الأهمية بمكان أن تتعلم البلدان في جميع أنحاء العالم من تجارب البرازيل وأن تستكشف نماذج تعاونية مماثلة لا تعالج الأزمات الفورية فحسب وإنما تدعم أيضًا رفاه السكان النازحين على المدى الطويل. ويجب أن تهدف هذه الجهود إلى تعزيز القدرة على الصمود وتعزيز الإدماج الاجتماعي وضمان إتاحة الفرصة لجميع الأفراد للمساهمة بشكل إيجابي في مجتمعاتهم الجديدة.
كلاوديو أنتونيو كلاوس جونيور (Cláudio Antônio Klaus Júnior)
طالب ماجستير عالمي محترف في القانون (Global Professional Master of Law) في جامعة تورنتو في كندا وأستاذ في جامعة ألتو فالي دو ريو دو بيكسي (Universidade Alto Vale do Rio do Peixe)، البرازيل
claudio.klaus@mail.utoronto.ca
linkedin.com/in/claudioklaus
[1] انظر مركز سياسات الهجرة (Migration Policy Centre) (2022) “مهاجرون أم لاجئون؟ لنتعامل مع كليهما”. تتحدى استجابة البرازيل للنزوح الفنزويلي التعريفات القانونية’ (‘Migrants or refugees? Let’s do both. Brazil’s response to Venezuelan displacement challenges legal definitions’ ) bit.ly/mpc-migrants-or-refugees-lets-do-both
تنزيل الصفحة