عُرفت الأرجنتين بالهجرة منذ وقت طويل. وبصورة نسبية، شجع ارتفاع الرواتب المحلية والرخاء الاقتصادي العام والتعليم العام القويم وإطار العمل القانوني المتحرر على الهجرة الأوروبية خاصة بين عامي 1870 و1914، لكنها انخفضت انخفاضاً ملحوظاً بين عامي 1919 و1939 وعامي 1945 و1960. ووقت إجراء التعداد الوطني لعام 1914، كان ثلث السكان قد ولدوا في أوروبا، لكن على الرغم من بعض التوترات، كانت تجربة الاندماج تجربة ناجحة إلى حد كبير.
ومع توقف الهجرة الأوروبية توقفاً تاماً تقريباً في عام 1960، أصبح للمهاجرين الإقليميين أهمية متزايدة. وفي تسعينيات القرن الماضي، واجهت الأرجنتين العديد من تدفقات المهاجرين الإقليميين، ممن أغرتهم فرص العمل وسعر صرف الدولار إلى البيزو. وبصورة متناقضة، أصبح إطار العمل القانوني الوطني[1] وسياسات الهجرة المصاحبة تفرض قيوداً متزايدة. وحتى مع ندرة الترحيلات، ساهمت استحالة تنظيم وضع إقامة المهاجرين في جعل آلاف من مواطني باراغواي وبوليفيا وبيرو يعيشون في مأزق قانوني، وتم الإبلاغ عن العديد من الانتهاكات[2]. ومن ناحية أخرى، أظهرت الكثير من الدراسات التي أُجريت في عام 2000 أن المهاجرين الإقليميين كانوا يقدمون مساهمات نافعة للمجتمع الأرجنتيني. فلم يساهموا في إنعاش الفئات السكانية المحلية الشائخة فحسب وجلبهم للتنوع الثقافي في الوقت نفسه بل كان لحضورهم أهمية كبيرة في القطاعات الاقتصادية كالإنشاءات والعمل المنزلي وصناعة النسيج.
وبنهاية العقد انقسمت الأرجنتين، كما كان متوقعاً، إلى مجتمع من طبقتين، إحداهما طبقة دنيا تزداد اتساعاً التي لم تكن تتمتع بكثير من الحقوق إن كانت تتمتع بها أصلاً، سواء في العمل أم التعليم أو الحصول على الخدمات الصحية. والأكثر من ذلك أن التشريعات في ذلك الوقت شجعت على استنكار المهاجرين غير النظاميين بل إن بعض النقابات العمالية الوطنية القوية كانت تحيد عن مسارها لتشير بوضوح إلى المهاجرين الإقليميين على أنهم "يسرقون الوظائف". وأصبح هؤلاء المهاجرون كبش فداء سهل للوضع الاقتصادي المتزايد في التعقيد.
وبلغت أزمة الأرجنتين ذروتها في التراجع الاقتصادي الوطني عام 2002 الذي شهد انخفاضاً في قيمة العملة الوطنية بنسبة 300% وكان لذلك آثار اجتماعية مدمرة. وارتفعت معدلات البطالة إلى 20% والبطالة الجزئية إلى 17% وعاش 42% من السكان تحت خط الفقر وبلغت نسبة من عانوا من الفقر المدقع 27%. ورغم عدم وجود دليل يمكن الاستناد به لإلقاء اللوم على المهاجرين الإقليميين فقد حمّل هؤلاء مسؤولية ارتفاع معدلات الجريمة والبطالة.
وبعد سلسلة من الاعتداءات المبنية على كره الأجانب ضد المهاجرين الإقليميين، تم اتخاذ الخطوة الأولى في الاتجاه الصحيح وذلك في عام 2002، بإبرام الاتفاقية الإقليمية لمواطني الدول الأعضاء بسوق الجنوب (ميركوسور، أي الأرجنتين والبرازيل وأوروغواي، وباراغواي) والدول المرتبطة بها (بوليفيا وشيلي)، وقد سمحت الاتفاقية لمواطني أي من الدول الست الإقامة ضمن الحدود الجغرافية فيما بينها، ومنحهم الحق في الحصول على فرص الأنشطة الاقتصادية على قدم المساواة مع المواطنين. وفي عام 2004، قررت الأرجنتين من جانب واحد تعليق ترحيل المهاجرين من ذوي الوضع غير النظامي وممن كانوا مواطنين للدول المحاذية لها. لكن نقطة التحول الحقيقية حدثت عند سن قانون الهجرة الجديد في أوائل ذلك العام، وهو القانون رقم 25.871/04 الذي:
- اعترف بالحق الإنساني في الهجرة واتبع بشكل رئيسي المبادئ الأساسية التي أرستها معاهدة 1990 بخصوص العماال المهاجرين[3]
- يسَّر من تنظيم شؤون الهجرة
- نص على معاملة الأجانب سواءً كالمواطنين بموجب القانون
- ضمن حق لم شمل العائلة
- ضمن حصول الأجانب على الخدمات الصحية والتعليمية والاجتماعية، دون النظر إلى وضع هجرتهم.
وعلاوة على ذلك، تم إطلاق برنامج موسع لتنظيم وضع المهاجرين الذي أُطلق عليه اسم "الوطن الكبير" والذي منح الإقامة لحوالي 13000 مهاجر من المواطنين غير المنتمين للميركوسور، وذلك في أولى مراحله (في 2005)، كما سهل تنظيم أوضاع 650000 مهاجر آخر من ميركوسور[4] ما بين عامي 2006 و2010.
وعلى العكس من قانون الهجرة الجديد الذي ينص على إطار عمل السياسة العامة، استهدف برنامج الوطن الكبير بالأساس العمال المهاجرين القادمين من دول الميركوسور (الأعضاء الكاملين والأعضاء المشاركين) المقيمين بشكل غير نظامي في الأرجنتين قبل يونيو/حزيران 2006 والذين مثلوا نسبة 90% من المهاجرين في الدولة في ذلك الوقت. وبرنامج الوطن الكبير:
- ضمن حقهم في البقاء في الأرجنتين ومغادرتها ودخولها مرة أخرى
- ضمن حقهم في الدراسة والحصول على تصاريح العمل
- قدم الخطوة الأولى للحصول على الإقامة الدائمة.
وتضمنت الأدوات الأخرى المرتبطة بقانون الهجرة الوطني الجديد وبرنامج تنظيم أوضاع الهجرة ما يلي: المعهد الوطني لمناهضة التمييز وكراهية الأجانب والتمييز العنصري، واللجنة الثلاثية حول المساواة في النوع الاجتماعي وفي العمل وقانون التعليم الوطني (رقم 26.206) الذي يكفل للمهاجرين غير الحاملين للوثائق الثبوتية الالتحاق بالمدارس الابتدائية والثانوية والجامعة.
ومنذ عام 2004، انخفضت معدلات البطالة إلى 7.3% وكذلك البطالة الجزئية فقد انخفضت إلى مستويات مشابهة. كما انخفض الفقر من 54% إلى 23.4% والفقر المدقع من 27.7% إلى 8.2%. وبقي عدد الأجانب المدانين بارتكابهم جرائم جنائية على حدود 28% تقريباً يشكل 70% منها جرائم الإتجار بالمخدرات والجرائم التي تشتمل بصورة رئيسية على الأجانب العابرين وليس المقيمين. ويوافق 59% من الأرجنتين اليوم على أنه يجب أن يتمتع المهاجرون بنفس حقوق الإنسان التي يتمتع بها المواطنون، سواء أكان ذلك في الخدمات الصحية أم التعليمية أو النفاذ إلى العدالة[5].
إعادة توطين اللاجئين في الأرجنتين
وفقاً لهذا السياق التاريخي بدأت الأرجنتين في عام 2003 عملية التوقيع على جميع معاهدات حقوق الإنسان الدولية وتنفيذها. وكان القصد من وراء ذلك أن يكون جزءاً من النقلة الكبرى في السياسة الداخلية والخارجية للأرجنتين التي قررت بعد ذلك بناء نظام خاص للاجئين وإنشاء المؤسسات المعنية ضمن منهج جديد قائم على حقوق الإنسان الذي تعامل بالفعل مع وضع المهاجرين. ولكي لا تنسى الآلاف من مواطنيها الذي فروا من البلاد في سبعينيات القرن العشرين والكرم الذي أبداه المجتمع الدولي تجاه لاجئيها، سنت الأرجنتيين تشريعاً لرفع مستوى معايير الحماية الخاصة بها، وانضمت عام 2005 إلى باقي دول أمريكا اللاتينية الأخرى في سعيها المشترك لإعادة توطين اللاجئين.
وفي 9 يونيو/حزيران 2009، وقعت الأرجنتين مذكرة تفاهم مع المفوضية العليا للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين التي حددت المعايير الخاصة للاجئين المنتظر إعادة توطينهم في الأرجنتين:
- ضحايا العنف أو التعذيب المحتاجين للحماية الجسدية والقانونية
- النساء في خطر
- الأشخاص الذين لا يتمتعون بإمكانات الاندماج المحلي في دول اللجوء الأول
- يفضل أن يكونوا من الأشخاص ذوي الخلفيات الحضرية
- أصحاب المهارات الوظيفية
- الأسر أو النساء ذوات الأطفال ممن لديهم احتمالية وطيدة للاندماج.
ومنذ البداية، استهدف "برنامج التضامن لإعادة التوطين" في الأرجنتين المساهمة في خطة العمل المكسيكية[6]، مع ضمان الأمن الجسدي وحصول اللاجئين المعاد توطينهم على الخدمات الصحية والتعليم مجاناً. كما يعكس البرنامج أيضاً العدد المتنامي للاجئين الإقليميين المحتاجين للحماية بصورة عاجلة والاعتراف بالتوطين كحل مستدام لهم.
وقد تأسس مجلس اللاجئين الوطني (CONARE[7]) بقيادة وزارة الداخلية مع إشراك وزارات الخارجية والعدل والتنمية الاجتماعية. ومن أجل إنجاح اندماج الاجئين المعاد توطينهم، تم تخصيص روساريو وميندوزا ومدينة بوينس آيرس كمقاطعات ومدن "للتضامن". وانضمت مقاطعة سان لويس إلى المجموعة عام 2009. وما بين عامي 2005 و2011، أعيد بنجاح توطين حوالي 230 لاجئاً في الأرجنتين أغلبهم لاجئون كولومبيون من الإكوادور وبنما.
وسيتضمن تقييم برنامج إعادة التوطين العديد من الإنجازات، أكثرها أهمية أن جميع الأطفال المعاد توطينهم سيلتحقون بالمدارس الابتدائية أو الثانوية، إلى جانب ضمان حصول الجميع على الخدمات الصحية. وقد كان الاندماج الاجتماعي إيجابياً لدرجة كبيرة، ولم يقرر البقاء حتى الآن إلا شخصان فقط. وفي مجال التوظيف، تم التصديق على أوراق الاعتماد الأكاديمي لبعض اللاجئين، في حين تلقى البعض الآخر التدريب الجديد وصاروا الآن مندمجين ومعتمدين على أنفسهم بشكل كامل.
لكن تبقى التحديات التي قد يكون الإسكان أهمها. وعلى الرغم من تقديم الوكالة المنفذة جمعية مساعدة اليهود المهاجرين ([8]HIAS) بدائل السكن للاجئين المعاد توطينهم، فمنذ بدء البرنامج وهم لا يزال ينقصهم الحصول على برامج الإسكان الوطني. وتأتي التحديات الأخرى من حقيقة أن الأوضاع الشخصية التي وفرتها المفوضية العليا للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في دولة اللجوء الأول لا تتماشى دائماً مع المعايير التي وضعتها السلطات الأرجنتينية، علاوة على أن بعض المرشحين لإعادة التوطين قد تم رفضهم بالفعل من قِبل بعثات الاختيار، لكن لم تُقدم أي معلومات أو أسباب. وحتى الآن، بقي البرنامج بوضع تنفيذي منخفض للغاية الذي يجعل من الصعب إشراك القطاع الخاص. ولا يزال التمويل في المراحل الأولى من إعادة التوطين تحدياً.
الخلاصة
منذ عام 2002، تبنت الأرجنتين سياسة الهجرة المفتوحة القائمة على الحقوق حتى أصبحت الأرجنيتن دولة المقصد الرئيسية للمهاجرين من أمريكا الجنوبية. ومن بينهم، يعيش 54020 كولومبي الآن في الأرجنتين. وتؤكد المعلومات الواردة من سلطات الهجرة الأرجنتينية أن عدداً كبيراً منهم لديهم احتياجات خاصة للحماية، إلا أنهم يفضلون دخول البلاد كمقيمين نظاميين بدلاً من كونهم لاجئين. ووفقاً للسلطات القنصلية الكولومبية، يتمتع الكولومبيون بدرجة كبيرة من القبول الاجتماعي والاندماج، كما تجذبهم أيضاً عوامل جذب أخرى كالمجتمع الميسور نسبياً والمنفتح والمتكافئ وارتفاع مؤشر التنمية الإنسانية وانخفاض معدلات البطالة وكذلك انخفاذ معدلات الانتحار في أمريكا اللاتينية.
وإلى جانب سياسة الدخول المنفتحة، تعد الأرجنتين دولة ناشئة لإعادة التوطين التي تسعى إلى إعادة توطين اللاجئين الإقليميين من ذوي احتياجات الحماية الخاصة. ويأتي طلب الأرجنتين في أن يستوفي المرشحون لإعادة التوطين بعض المعايير لضمان أكبر قدر ممكن من التوطين المحلي. وفي هذا الخصوص، تكون السلطات المحلية أكثر واقعية وليست انتقائية أو عشوائية.
وكما أوضحت المفوضية العليا تكراراً، يعد التنقل أداة محتملة للحماية[9]. ومن هذا المنظور، فإن إعادة التوطين هي أداة لمساعدة الأشخاص ذوي احتياجات الحماية، وقد برهنت سياسة الهجرة المفتوحة المستندة إلى حقوق الإنسان والوقائع الإقليمية على أنها أداة أخرى وناجحة بشكل كبير. وبدلاً من اختيار سياسة الهجرة التقييدية القائمة على تأمين الحدود والمخاوف العرقية يرافقها برنامج إعادة التوطين السخي والأكثر عددية فقد اختارت الأرجنتين تبني استراتجية مختلفة هي سياسة الهجرة المفتوحة والقائمة على حقوق الإنسان، مع المحافظة على أداة إعادة التوطين لعدد الحالات الأقل للأشخاص ذوي احتياجات الحماية الخاصة.
يعمل باولو كافاليري Paulo.cavaleri@ties.itu.int حالياً مستشاراً للشؤون الإنسانية في المهمة الدائمة للأرجنتين في جنيف. كما يحمل درجة القانون (بوينس آيرس) والدكتوراه في التاريخ (باريس I – السوربون).
[1] خاضعان للقانون الوطني 22.439 لعام 1981
[2] لمزيد من التفاصيل، انظر المقابلة مع مارتين آرياس دوفال، المدير القومي الحالي للهجرة، Revista Densidades، العدد 6، بوينس آيرس، مايو 2011 على http://www.mediafire.com/?fr2nfx5x755fuan
[3] المعاهدة الدولية حول حماية حقوق جميع العمال المهاجرين وأفراد عوائلهم.
[4] يتضمن هذا الرقم تسوية وضع المهاجرين من ميركوسور من قبل برنامج الوطن الكبير و"معايير جنسية ميركوسور". ويمكن الحصول على مزيد من الإحصائيات مع التصنيف بالجنسية والجنس على www.migraciones.gov.ar/accesible/?estadisticas
[5] المصدر: مسح Infobarómetro، مايو 2010
[6] www.acnur.org/t3/fileadmin/scripts/doc.php?file=biblioteca/pdf/3453 انظر أيضاً
www.fmreview.org/FMRpdfs/FMR24/FMR2438.pdf
[اللغة الإسبانية]
[7] www.migraciones.gov.ar/conare/index.html
[8] جمعية مساعدة اليهود المهاجرين www.hias.org
[9] انظر مقال كاتي لونغ وجيف كريسب "الهجرة والتنقل والحلول: منظور متطور"، العدد 35 من نشرة الهجرة القسرية www.fmreview.org/disability/FMR35/56-57.pdf