لا تنشأ الغالبية العظمى من النزاعات المسلحة الحالية بين جيوش الدول المتصارعة، لكنها تقوم بين القوات الحكومية للدولة وواحدة أو أكثر من الجماعات المسلحة من غير الدول. وفي حين تقع ويلات الحرب دائماً على المدنيين، يدل هذا النوع من النزاع ضمنياً على عدد من التحديات الإضافية.
لا تنشأ الغالبية العظمى من النزاعات المسلحة الحالية بين جيوش الدول المتصارعة، لكنها تقوم بين القوات الحكومية للدولة وواحدة أو أكثر من الجماعات المسلحة من غير الدول. وفي حين تقع ويلات الحرب دائماً على المدنيين، يدل هذا النوع من النزاع ضمنياً على عدد من التحديات الإضافية.
وفي يومنا هذا، ينتج التهجير القسري والمطوّل في الغالب عن عوامل تتجاوز مجرد النزاعات المسلحة والعنف. فَخَلْفَ أعداد الملايين الواضحة ممن يجدون أنفسهم مُلقون على ناصية الطرقات أو في ظروف معيشية محفوفة بالمخاطر، بعيداً عن ديارهم وغالباً في دولة أجنبية، هناك قصص حول الخسارة الفادحة والمعاناة والكفاح في العيش. ويطال تأثير التهجير بعدة صور لا تُعدّ ولا تُحصى، سواء أكانوا ضحايا للهجمات المباشرة (كالتعرض للعنف الجنسي كأسلوب للحرب أو التهجير القسري) أم ضحايا غير مباشرين من خلال تزايد في الظواهر الناشئة عن النزاعات كانتشار الأمراض والجوع وسوء التغذية. أمَّا الألغام الأرضية والذخائر العنقودية وغيرها من مخلفات الحرب المتفجرة فتمثّل أيضاً دوراً مهماً في تلك القصص، حيث إنَّها تدفع الأفراد إلى الفرار والتلكؤ في طريق العودة، ما يقود إلى إطالة أمد التهجير الذي تعرضوا له.. فتلك إذن بعض التبعات الإنسانية غير المرغوب بها والتي يكون للجماعات المسلحة من غير الدول، فضلاً عن الدول، يدٌ فيها.
القانون الدولي والمساءلة
بمقدورنا اليوم مشاهدة كثير من الأمثلة حول أطراف النزاع التي تُنفّذ عملياتها العسكرية دون مراعاة القواعد الأساسية للقانون الإنساني الدولي. وقد يكون غياب احترام تلك القواعد ناتج عن القرارات السياسية المدروسة، وقد تكون أيضاً نتيجة الافتقار للمعرفة بالقواعد أو فهمها بل حتى انعدام القدرة على تطبيقها. ويتضح ذلك في مواقف الجماعات المسلحة من غير الدول وتصرفات الدول أيضاً.
والتحدي الآخر الذي نواجهه فهو أنَّ عدد من هذه النزاعات لا يمكن تصنيفها ضمن الفئات التقليدية للنزاعات المسلحة الدولية أو غير الدولية. وتتعقد الأمور أكثر مع عدم وجود فاصل دقيق في أغلب الأحيان بين حالات النزاعات المسلحة غير الدولية وحالات أخرى تجمع بين العنف السياسي والإجرامي معاً، حيث يساهم الفاعلون المسلحون التي يغلب على بواعثهم الطابع الإجرامي في انعدام الاستقرار وفي الاعتداء على السكان.
فكيف يتعين علينا مواجهة هذه التحديات؟ أولاً، لا بد من رفع مستوى مدارك الأطراف واحترامهم للقواعد الدولية واجبة التطبيق. ورغم أنَّ الاتفاقيات تُعقد أساساً بين الدول فقط، فإنَّ مبدأ المسؤولية الجنائية الفردية ينطبق في حالات هذه المعايير الأساسية الراسخة في القانون الإنساني الدولي، والتي تُعد ملزمة أيضاً للجماعات المسلحة من غير الدول. وكذلك، يمكن للجماعات المسلحة من غير الدول أن تكون ملتزمة ومسؤولة أمام الدول عن المعايير الأساسية المتكرّسة في قانون حقوق الإنسان وقانون اللاجئين. ومن هنا يتبين الدور الكبير والحاسم للتفويضات الخاصة بكل من اللجنة الدولية للصليب الأحمر والمفوضية العليا للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين وغيرها من الجهات الأممية الأخرى بصفتها راعية لهذا النظام.
وتخضع الحكومات للالتزامات الاتفاقية الواضحة التي تفرض عليها ااتخاذ الخطوات المناسبة لضمان حماية المدنيين وفقاً للقانون الإنساني الدولي، أو للتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان ومعاقبة مرتكبيها ورد الاعتبار للضحايا، في حالة عدم تمكن تلك الدول من منع الانتهاكات.
ولا بد أيضاً من إنفاذ مبدأ إخضاع المسؤولين عن انتهاكات المعايير الدولية للمساءلة من خلال الدعم الفعّال للأنظمة القانونية الوطنية وإعادة بنائها من خلال قرارات مجلس الأمن في الأمم المتحدة وغيره من الكيانات المعنيّة، وكذلك من خلال المحكمة الجنائية الدولية وغيرها من المحاكم الخاصة.
ولقد رأينا أنَّ الجماعات المسلحة من غير الدول قد تقتنع من خلال الحوار وحملات التوعية بضرورة العمل وفقاً للمعايير الدولية. ومن أحد الأمثلة على ذلك معاهدة الحد من استخدام وتخزين وإنتاج ونقل الألغام المضادة للأفراد عام 1997. ومن خلال الاستخدام الشامل لأسلوب الحوار من قِبل منظمة نداء جنيف، وقعّت عدد من الجماعات المسلحة من غير الدول صكوك الالتزام التي تلزمهم بنصوص المعاهدة المذكورة. كما قدّمت النرويج المساعدة في المشروع الريادي لمنظمة نداء جنيف، حيث يستهدف هذا المشروع الجماعات المسلحة من غير الدول بالإضافة إلى حماية النساء والفتيات في النزاع المسلح. وفي اجتماع انعقد في كانون الأول/ديسمبر 2010، اجتمع أعضاء ثمان جماعات مسلحة آسيوية لمناقشة العنف الجنسي المرتبط بالنزاعات والتزمت تلك الجماعات بالعمل نحو الامتثال للمعايير الدولية حول هذه القضية.
قضية للحوار
استمرت النرويج خلال العقدين الماضيين في إتباع سياسة الإشراك. وكان الهدف الغالب مساعدة أطراف النزاع المسلح على إيجاد الحلول السلمية للنزاعات المسلحة أو على الأقل المساعدة في تقليل مستوى العنف والاتجاه نحو الحلول السياسية.
وفي جميع الحالات التي مثَّلت فيها النرويج دوراً، ضمّت الأطراف المشاركة في الحوار ما لا يقل عن جماعة مسلحة واحدة ودولة واحدة. وأُشركت الجماعات المسلحة من غير الدول من خلال الحوار حول الامتثال للمعايير الدولية خطوة بخطوة، حسب عناصر التغيير ومرحلة النزاع. وحيثما تشارك الأطراف في الحوار بعضها مع بعض (غالباً بتسهيل من أطراف ثالثة)، تمثّل الاتفاقيات الجزئية، المرتبطة في بعض الأحيان بوقف إطلاق النار الدائم أو المؤقت، معايير هامة في بناء الثقة ناهيك عن تخفيف وطأة المعاناة على المدنيين.
ومنذ عام 2001، مارست النرويج دوراً داعماً بصفتها وسيط في عملية السلام بين حكومة الفلبين والجبهة الوطنية الديمقراطية في الفلبين. وتوصل الطرفان إلى اتفاق باحترام حقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي، واتفقا على إيجاد آلية لمراقبة تنفيذ تلك الاتفاقية. والآن، يسعى الطرفان، مع استئناف المفاوضات الرسمية في شباط/فبراير 2011، إلى تلقي الشكاوى من خلال الآلية القائمة المذكورة والتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي التي يرتكبها أي من الطرفين والإبلاغ عن تلك الانتهاكات.
وقد تنوعت النتائج الظاهرة لسياستنا، إلاَّ أن قياس الدور الفردي للنرويج في أي نزاع قد لا يكون ذو أهمية كبيرة. ولذلك، تتجه مساهمتنا إلى أن تكون جزءاً في إطار الجهود الأخرى التي يبذلها الآخرون، وأن تكون عنصراً أساسياً من بين عناصر النجاح أو الفشل بين الأطراف أنفسها.
أمَّا أداتنا الرئيسية فهي الاتصال بالآخر، أي الحوار، القائم على الثقة. والسؤال الذي يطرح نفيه هنا هو: هل سيقود هذا المنهج الذي يمنح الجماعة المسلحة الفرصة للمشاركة في الحوار، بالضرورة، إلى إضفاء الشرعية على استخدام هذه الجماعة للعنف من أجل تلبية مطالبها؟ وهل ستستغل الأطراف الحوار لكسب الوقت أثناء نزاعاتها المسلحة؟ وفي حين أنَّ هذه الأسئلة مشروعة وفي محلّها، فقد اختارت النرويج المساعدة في تسهيل الحوار من منطلق أنَّ الحوار أفضل السبل لتوضّح لأطراف النزاع ما هو مطلوب منها للوصول إلى الحل السياسي.
لكنَّ السؤال الآخر الذي يجب طرحه هو: مع من ستُجرون الناقش حول النزاع وإمكانية إنهائه إذا لم يتضمن الحوار أطراف النزاع بمن فيهم الجماعات المسلحة من غير الدول؟ لقد كان موقف النرويج التحاور مع الجميع، بمن فيهم المنظمات المختلفة كحركة حماس في الأراضي الفلسطينية وحزب الله في لبنان.
وفي مثل هذه الحوارات، يمكن لأطراف النزاع أن تكتشف أنّ تحقيق مصالحها مرهون بالالتزام بقانون النزاع المسلح والمعايير القانونية الأخرى، بل قد تتشجع على ذلك الالتزام . وقد يعد سعي أطراف النزاع للحصول على الصفة الشرعية دافعاً قوياً وراء ذلك. وعندما يكون الحصول على الشرعية السياسية هدفاً للجماعات المسلحة، فإنها تعزز، نسبياً، فرص المشاركة البناءة لتقليل العنف والارتقاء بالسلام. وبالطبع، لا بد لتحقيق ذلك من إيجاد التوازن بين سعي الجماعات المسلحة من غير الدول وراء الشرعية السياسية وعزف الدول المعنية عن نقل هذه الشرعية الضمنية، وكل ذلك يتحقق من خلال الحوار. وفي أفضل الاحوال، يجب أن يعمل المرء على إزالة الطابع المسيّس للقضايا الخاصة بالمعايير الدولية الأساسية، وتجنّب إعاقة الدول للحوار حول قضايا حقوق الإنسان تحت ذريعة الرغبة في الحد من الحوار مع الجماعات المسلحة من غير الدول.
وبالفعل، يعد فهم دوافع أطراف النزاع، خاصة الجماعات المسلحة من غير الدول، حجّة هامة تنصبّ في مصلحة الحوار، لكنّها في الوقت نفسه لا تخلو من التعقيدات لسوء الحظ. فالفاعلون من غير الدول ليسوا في العادة منظمات متآلفة. وبالفعل فإنَّ التشرذم والعلاقة القائمة بين الجماعات والشبكات الإجرامية، والعلاقة بين عناصر هياكل الدولة والدول الأخرى الراعية واجهات للحقيقة المعقدة للجماعات المسلحة من غير الدول في يومنا هذا. وفي بعض الأحيان، يكون هذا التشرذم نتيجة للنجاح العسكري للدولة ضد إحدى الجماعات المسلحة، ما يُولِّد موقفاً أقل تشجيعاً على المشاركة بالحوار الفعّال. وتصعّب هذه التعقيدات قياس مصالح الدول أو التعرّف على بواعثها الرئيسية.
نزع السلاح الإنساني
نعني بعبارة "سياسة الإشراك" الاستخدام الكامل لجهاز سياستنا الخارجية وتمويل المساعدات والتشبيك والرغبة في خوض المخاطر السياسية من أجل إحراز التغيير على المستوى الدولي، وهو التغيير الذي يتماشى مع القيم العالمية كحماية المبادئ الإنسانية وتعزيز حقوق الإنسان ونزع السلاح وفضّ النزاعات. وفي هذا السياق، تبذل النرويج جهودها التنموية والإنسانية لتكون جزءاً من سياسة الإشراك تلك.
ودعوني أوضّح ذلك بمثال ذي صلة بموضوع الجماعات المسلحة من غير الدول والتهجير القسري وهو يتعلق بمعاهدة حظر الألغام المضادة للأفراد عام 1997. ففي حين صُنعت الأهداف الأرضية أساساً لُتستخدم في الحروب بين الدول، فإنّها أصحبت سواء أكانت مُنتجة صناعياً أم يدوياً، سمة مشتركة للنزاعات المسلحة "غير المنتظمة" بين واحدة أو أكثر من الجماعات المسلحة من غير الدول من جهة والدولة من جهة أخرى. وبصرف النظر عمَّن يستخدم هذه الأسلحة، لن تكون العواقب الإنسانية لاستخدامها أمراً مقبولاً. ولهذا، كانت النرويج ضمن أكثر المدافعين عن الحظر الشامل المتمثل في معاهدة 1997. وللسبب نفسه، وتحت المصطلح العام "نزع السلاح الإنساني"، تشارك النرويج بقوة في جهودها المبذولة في نطاق واسع من المجالات (مباشرة أو من خلال تقديم الدعم السياسي والمادي للآخرين) لضمان تفعيل المعاهدة بغرض التخلُّص من حقول الألغام، ومساعدة الضحايا، وتدمير الأسلحة، وعدم إنتاجها مرة أخرى.
ولن تكون معاهدة حظر الألغام ممكنة دون الجهود الجريئة من جانب المنظمات الإنسانية كاللجنة الدولية للصليب الأحمر وعدد من المنظمات غير الحكومية، والإشراك الحقيقي للناجين من الألغام الأرضية. وقد تعاونت النرويج وبعض الدول المعنية الأخرى تعاوناً وثيقاً مع تلك الجهات التي أثبتت فعاليتها للعملية في وضع المفاوضات لقلب الحقيقة الصارخة للتأثير الحقيقي للألغام الأرضية. ومؤخراً استخدمت النرويج هذا النموذج للتعاون بين الدول والمجتمع المدني في العملية الناجحة التي تُوّجت بمعاهدة الذخائر العنقودية عام 2008.
كما أقامت معاهدة حظر الألغام، وفيما بعد المعاهدة حول الذخائر العنقودية، سابقةً مُلزِمة في القانون الدولي وصنع السياسات للتعامل مع قضايا نزع السلاح وفقاً للمعايير الإنسانية. وكان لذلك، ولا يزال، تداعيات واسعة لسياسات أمن الدول. وفي الوقت نفسه، ساهم تسخير الحوار الإنساني عبر هذه المعاهدات في إطلاق الحوار العالمي حول حماية المدنيين، والذي فيه الفاعلون من غير الدول، بما فيها الجماعات المسلحة. وحتى مع دخولنا عصر العولمة، حيث توجد العديد من الثغرات الحوكمية، خاصة الناتجة عن تصرفات الجماعات المسلحة من غير الدول، وعجز الدول عن تأكيد مكانتها، فلا يزال إحراز التقدم ممكناً من خلال المزج بين القانون الدولي والحوار.
إسبن بارث إيدي نائب وزير الخارجية النرويجي. ولمزيد من المعلومات، الرجاء المراسلة على عنوان البريد الإلكتروني الآتي: post@mfa.no