مساهمات المنظمات القائمة على العقيدة العاملة مع النازحين

تستمد المنظمات القائمة على العقيدة من موروثاتها الدينية دوافعًا قوية ومدخلًا لتاريخ طويل من التفكير في القضايا الاجتماعية والسياسية. وهذا ما يجعلها مثالية لملء الثغرات القائمة في تنفيذ مبادئ حقوق الإنسان.

في بداية عام 2014، زرت مافيسيلا - امرأة زيمبابوية تعيش في كوخ صغير في ضواحي مدينة صغيرة في جنوب إفريقيا[i].  وقد جاءت إلى جنوب إفريقيا أثناء الهجرة العظيمة من زيمبابوي في 2008 ومُنحت تصريح اللجوء بموجب نظكام الإعفاء العام المُفعل آنذاك وتجدد هذا التصريح دوريًا دون الفصل في قضيتها منذ ذلك الحين. وقد التقت المنظمة اليسوعية لخدمات المُهجَّرين بمافيسيلا لأول مرة في مستشفى محلية. وكانت بالكاد على قيد الحياة ووزنها 25 كجم وتعاني من فيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز والسل المقاوم للأدوية. ومنذ ذلك التوقيت، ساعدتها المنظمة بمجموعة متنوعة من التدخلات ما مكنها من استعادة صحتها تدريجيًا والتواصل مع المجتمع المحلي (سواء في جنوب إفريقيا أم مع المهاجرين) والبدء في إيجاد عمل.

تسلط استجابة المنظمة اليسوعية لخدمات المُهجَّرين لقضية مافيسيلا الضوء على نوع المساهمات التي قد تقدمها المنظمات القائمة على العقيدة العاملة في مجال التهجير القسري وكذلك التحديات والمخاطر التي قد تواجهها تلك المنظمات. وعلى غرار كثير من أبناء وطن مافيسيلا الذين يعيشون في جنوب إفريقيا، لا تعد مافيسيلا غالبًا "لاجئة حسب تعريف الاتفاقية" وهذا يجعلها تقع خارج إطار الاهتمامات الرئيسية لمفوضية الأمم المتحدة السامية للاجئين. ومثل معظم المهاجرين الباقين على قيد الحياة، شعرت مافيسيلا بأنها مجبرة على الانتقال إلى جنوب إفريقيا حيث تعيش حياة محفوفة بالمخاطر للغاية في فقر مدقع. وقد امتاز برنامج المنظمة اليسوعية لخدمات المُهجَّرين بالتحرر من الاهتمامات التعريفية وبوجود شبكة على أرض الواقع تمكن المنظمة من الاستجابة لبعض احتياجات مافيسيلا ما ترتب عليه زيادة التدخلات المتنوعة أثناء تعرفنا عليها وعلى ظروف قضيتها بمزيد من التفاصيل. وبمرور الوقت، صارت الأولوية لتمكينها من تكوين روابط مع المجتمع المحلي الذي يشتمل أساسًا على السلطات المدنية والكنائس التي تُكّون المنظمة اليسوعية لخدمات المُهجَّرين علاقات معها. وعمومًا، ستستغرق العملية برمتها في نهاية المطاف قرابة الستة أعوام وهو توقيت زمني مألوف لإنهاء مثل هذا العمل.

وأزعم أنَّ أي منظمة قائمة على العقيدة تؤسس على نحو طبيعي بهدف ملء الثغرة القائمة بين اهتمامات الحكومات الرئيسية ومسؤولياتها المنصبة على شعوبها والثغرة في نظام الحماية الدولي حديث العهد الذي يواجه صعوبات في تكوين روابط قوية مع المجتمعات المحلية. وهكذا، تواجه المنظمات القائمة على العقيدة تحديات ومخاطر عند محاولتها ملء مثل هذه الثغرات. ومن تلك التحديات والمخاطر إرهاق قواها وفقد التركيز من ناحية، وتحجيم حريتها وشجاعتها لمواجهة متطلبات المانحين والحاجة لتحقيق نتائج يمكن قياسها من ناحية أخرى. ويمكن للمنظمات القائمة على العقيدة أن تبرز أفضل ما لديها من تقاليد موروثة عندما تقبل بأن تتفاعل أراء هذه التقاليد مع تطور أفكار الإدارة المهنية وتنظيم المشاريع الاجتماعية والهجرة القسرية وأن تتحداها. ولكني واهم إلى حد ما بصعوبة تحقيق هذه المهمة وتعقدها.

لا اعتقد أن مساهمات الموروثات القائمة على العقيدة مع النازحين قسرًا مقصورة على المنظمات القائمة على العقيدة وحسب. وفي الواقع، عادة ما تشكل الشبكات التي تكونها المساجد والكنائس نقطة المرور الأولى للاجئ إلى المجتمع الجديد وهو ما يُعد في جوانب كثيرة أعظم مساهمة قد تقدمها الجماعات القائمة على العقيدة إلا أنَّ تلك المساهمة لا تحظى بالتقدير الكافي. وعلاوة على ذلك، قد تنطبق بالمثل الأفكار التي أتناولها هنا على المنظمات غير الدينية "العلمانية" العاملة في هذا القطاع، فالأخلاق ليست حكرًا على المنظمات القائمة على العقيدة. بل على العكس، فلجميع الأديان حكمة يمكن توظيفها على نحو خلّاق في حوار يتناول تحديد الاحتياجات والاتجاهات الحالية في التفكير البرمجي وذلك سعيًا لتحقيق عمل ذي أهداف محددة تحديدًا جيدًا وميسور الكلفة وبالغ الأثر.

مفهوم الحقوق

تُعرف مجموعة الأفكار التي تطبق من خلالها الكنيسة الكاثوليكية معتقداتها في القضايا الاجتماعية والسياسية بالتعليم الاجتماعي الكاثوليكي. ولذلك جوانب كثيرة يهمنا منها واحدًا فقط على وجه الخصوص وهو مفهوم الكرامة المتأصلة في الإنسان أيًا كانت الظروف التي يواجهها. فهذه الكرامة تهب الإنسان مكانة تجعله شخصًا يجب احترامه من جميع الوجوه. ولا يصعب علينا اكتشاف الروابط القوية بين هذا المفهوم والقيم التي ينادي بها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وغيره من صكوك حقوق الإنسان الأخرى الكثيرة. ويؤكد التعليم الاجتماعي الكاثوليكي على جانبين من جوانب طبيعة الكرامة الإنسانية وعلى فهمه للإنسان وهما ما أعتقد أنهما مفيدان على وجه الخصوص.

بادئ ذي بدء، لا يرى التعليم الاجتماعي الكاثوليكي الشخص على أنه فرد ذو حقوق وحسب ولكنه يراه أيضًا إنسانًا تربطه علاقات بالآخرين الذين يعتمد عليهم في كثير من الأحيان لتحقيق أنانيته. وهكذا يتفاعل الشخص مع الآخرين بطرق عدة: اقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا وسياسيًا ويحدد هويته ومعنى حياته الرئيسي نتاج هذه التفاعلات. وبالتالي يكتسب الشخص حق المساهمة الفاعلة في مجتمع من الناس. ولا يصعب علينا معرفة أن أكثر الآليات السياسية أهمية لبلوغ هذا الحق هو المجتمع السياسي الذي نسميه بالدولة. وعندما لا توفر الدولة على نحو كاف - لأي سبب من الأسباب - هذه البيئة التشاركية يكون للشخص حينها حق - أو بالأحرى عليه واجب - معالجة هذا الموقف عن طريق الهجرة إذا لزم الأمر.

ومثل هذا الأمر ينتزعنا بعيدًا عن طريقة تفكير "هات وخذ " التقليدي. وغالبًا ما يُنظر إلى فرار اللاجئين بوصفه الممارسة الفعالة لأحد الحقوق وثمة فرصة ضعيفة جدًا لرؤية الشخص النازح على أنه ضحية مغلوب على أمره. ويترتب على ذلك أيضًا أنَّ على الدول واجب الترحيب بالمُهجَّرين قسرًا واتخاذ خطوات إيجابية لإدماجهم على نحو فعَّال في المجتمع بطريقة أو بأخرى.

ثانيًا، تُزود المنظمات التي تتبع هذا التقليد بضوابط واسعة وأكثر مرونة عندما تواجه مشكلة في معرفة من الذين ينطبق عليهم التعريف ويستحقون أن يكونوا ضمن إطار اهتماماتها. وهذا الأمر بمثابة دليل على استجابة ممنهجة ومتسقة أخلاقيًا للاجئين والمهاجرين الناجين والمهاجرين أثناء الأزمات والنازحين داخليًا وبقية التجمعات الأخرى التي تقع تحت مصطلح "اللاجئين". وتمتد هذه المرونة الكبيرة لتشمل طبيعة البرامج التي تصممها هذه المنظمات ليتحول بذلك التركيز من على اللاجئين أنفسهم إلى التركيز على محاولة تمكين المجتمع المضيف من مساعدة هؤلاء اللاجئين على البدء في المساهمة الفعَّالة في هذا المجتمع. وبهذه الطريقة تجد المنظمات القائمة على العقيدة نفسها على طريق تنفيذ مشاريع يُشارك فيها أفراد المجتمع المضيف واللاجئين معًا بدلاً عن مجرد استهداف اللاجئين وحسب وتسليط الضوء على مخاطر ردود الفعل العنيفة الناجمة عن كراهية الأجانب من قبل السكان المضيفين.

وتُمثل تلك الرؤية المجتمعية للإنسان ولحقوقه تحديًا أمام المنظمات القائمة على العقيدة ومسوغًا عقلانيًا مستمرًا لها يدفعها للاشتراك بفاعلية في هذا القطاع. ويتصل ذلك بالتفكك المنطقي في خطاب حقوق الإنسان والاستجابة السياسية المترتبة عليه من قبل الحكومات تجاه المُهجَّرين قسرًا الذين يحاولون عبور حدود أراضيها. وقد ظهر مفهوم الدولة العلمانية إلى حيَّز الوجود في أعقاب الحروب الدينية في أوروبا والاتفاق على السماح ببقاء الدين - في نطاق أكثر خصوصية - على أن يوفر الحكام العلمانيون الأمن الشخصي لمن يعيشون داخل حدود الدولة. وبتطور دور الدولة، تنمو مسؤوليات الحكومات تجاه تمييز حقوق مواطنيها عن غيرهم من المقيمين فيها. إلا أن وجود المُهجَّرين قسرًا الذين يسعون للحصول على مجموعة أكبر من حقوق الإنسان عالميًا لا يتماشى مع مثل هذه التسوية السياسية. ويشهد تاريخنا الحديث بأن حكوماتنا - على جميع جوانب الأطياف السياسية - تجد صعوبات في الاستجابة للمُهجَّرين قسرًا ذلك لأنك لن تجد لأي استجابة حقيقية ذات مبادئ نفع سياسي. ويحدث الاستثناء إذا ما تمكنت الحكومات من تحقيق القضية العامة الصعبة من خلال جعل منافع الهجرة الداخلية للسكان المحليين تفوق سلبيات تقبل وجود مجموعة من الغرباء داخل حدود وطنهم.

فمع وجود نظام الحماية الدولي الآخذ في النمو والتطور والخاضع لمصالح عدد من الدول (والتمويل) تُقام المنظمات القائمة على العقيدة - بحكم الحرية الواجبة والفهم الدولي للإنسان الذي تتناوله تقاليدهم - لملء هذه الثغرة. فتلك المنظمات قادرة على فعل أشياء ترغب الحكومات في فعلها ولكنها لا تريد بالضرورة أن يراها الناس تفعلها. وهذا لا يعفي الحكومات من مسؤولية وضع نظام لحقوق الإنسان العالمية. ولا يعني أيضًا أن دور المنظمات القائمة على العقيدة بسيط أو واضح. وهكذا، على المنظمات القائمة على العقيدة أن تمسك عصا الحفاظ على المساءلة من المنتصف بأن تحافظ على معايير الخدمة وإطار القوانين المحلية وأن تمارس في الوقت نفسه تلك الحرية التي تُظهرها آليات مساءلة موروثاتهم الدينية.

ويُحتمل ألا تكون أعظم مساهمات المجتمعات الدينية منظماتها ولكن الشبكات التي سبق ذكرها وما ينتج عنها من قدرة على السماح للناس بالاستمرار في التواصل وإيجاد الترحيب وحُسن الضيافة في بيئة مغايرة وربما عدائية. وقد أثبتت التجربة أيضًا أن تلك الطبيعة الشاملة لهذه الشبكات - إذا ما فُعّلت - هي ما تُحدث الفارق الحقيقي خلال الثماني وأربعين ساعة الأولى الحاسمة في حالات الطوارئ.

وبهذا تصبح المنظمات العابرة للقوميات قادرة على إدراك المساهمات المميزة للمنظمات القائمة على العقيدة وعلى تعلم كيفية العمل معها على نحو أفضل. ويعد القطاع بحاجة ماسة للتعاون على نطاق واسع والاستفادة من نقاط القوة الكامنة في الاختلافات بين جميع المجموعات المتنوعة التي تقدم خدماتها. وفي الوقت نفسه، تصبح المنظمات القائمة على العقيدة قادرة على التخلص من خوفها من العمل مع السلطات المدنية والعابرة للقوميات. وعملًا بذلك، ستظل المنظمات القائمة على العقيدة تؤدي دورًا حيويًا لملء الثغرات المنطقية التي أحدثتها سياسات حقوق الإنسان في حين تبقى هذه المنظمات مسؤولة على نحو كافٍ عن السلطات المدنية وعن التوجيهات التي تضعها موروثاتهم الدينية.

الأب ديفيد هولدكروفت (جمعية يسوع المسيح)  southernafrica.director@jrs.net المدير الإقليمي، منطقة الجنوب الإفريقي، المنظمة اليسوعية لخدمات المُهجَّرين. www.jrssaf.org أو www.jrs.net 



[i] ليس اسمها الحقيقي.

 

إخلاء مسؤولية

جميع الآراء الواردة في نشرة الهجرة القسرية لا تعكس بالضرورة آراء المحررين ولا آراء مركز دراسات اللاجئين أو جامعة أكسفورد.