النُّزوح الداخلي ما بعد عام ٢٠١٨: الطريق قُدَماً

مخيفة هي الأرقام التي تشير إليها الإحصاءات والتحديات المتعلقة بالنُّزوح الداخلي. لكنَّ كثيراً من الأشياء تعلمناها منذ إطلاق المبادئ التوجيهية حول النُّزوح الداخلي في عام 1998. وما نحتاج إليه اليوم هو بذل الجهود المنسقة والزخم المستدام للتأسيس على الوعي المتحقق ومواجهة التحديات الطارئة.

قبل عشرين عاماً، أُطلقت المبادئ التوجيهية حول النُّزوح الداخلي لتمثل نقطة فارقة في الاعتراف الدولي لضرورة منع النُّزوح الداخلي وتوفير الحماية والمساعدة للنَّازحين داخلياً. وأسست المبادئ التوجيهية الإطار العام التقنيني الذي أفاد الجهود الرامية إلى تطوير السياسات الإقليمية والوطنية حول النُّزوح الداخلي. فهذه المبادئ دون أي شك إنجاز مهم بحد ذاته.

لكنَّ انعدام الاستقرار السياسي واندلاع النزاعات وأعمال العنف، ومشاكل الطقس القاسية، والكوارث الطبيعية ما زالت تدفع بعض أعلى معدلات النُّزوح الداخلي في العالم أكثر من أي وقت مضى. ففي عام 2017 سجل 30.6 مليون نازح جديد بسبب النزاعات والكوارث الطبيعية، وفي نهاية ذلك العام قًدر أن هناك أربعين مليون شخصٍ يعيشون في وضع النُّزوح الداخلي نتيجة النزاع (يضاف إلى ذلك عدد غير معروف من الأشخاص الذين ما زالوا في وضع النُّزوح نتيجة الكوارث الطبيعية).[1]

وهذه أرقام صادمة ومهولة. ونظراً للتحديات التي تواجه البيانات فهي أيضاً على ما يبدو أقل بكثير من الأرقام الحقيقية، إذ يُقدَّر أنَّ قرابة 8.5 مليون نازح داخلي ممن تشير التقارير عام 2017 إلى أنَّهم عادوا إلى ديارهم أو أعيد توطينهم أو نقلهم عبر 23 بلداً لم يعثروا بالضرورة على الحلول الدائمة الحقيقية ذلك يعني أنَّهم ما زالوا يعيشون في وضع النُّزوح. فإذا ما أدرجنا في الحساب هذه الأعداد أيضاً فذلك يجعل من الأشخاص الذين يعيشون في حالة النُّزوح الداخلي يصل أعدادهم إلى 45.5 مليون شخص.

ما الذي يمكن فعله؟

مع استمرار النزاعات وتدهور الوضع المناخي، واشتداد الكوارث الطبيعية المفاجئة وبطيئة الحدوث، وارتفاع معدلات تطوير الحظر العالمي. ما من سبب يدعونا بالاعتقاد أن أرقام وأعداد النَّازحين سوف تبدأ بالتقهقر والتراجع في مرحلة ما. إلاَّ أن هناك عدداً من الخطوات التي يمكن اتخاذها من أجل نقل السياسات والإجراءات حول النُّزوح الداخلي والاستفادة من المقاربات المنفذة حالياً.

فأولاً وقبل أي شيء آخر يجب علينا أن نعترف أنه رغم ارتفاع الأعداد والمساهمة التي قدمتها المبادئ التوجيهية عبر السنوات العشرين الماضية ما زال النُّزوح الداخلي في طي الإهمال في السنوات الماضية، ولا بد من إعادة اعتبار هذا الموضوع على أجندة صنع السياسات الدولية. وبهذا الصدد ظهرت نداءات تحت شعار عدم ترك أي مخلف والبحث عن الحلول النُّزوح الداخلي بما في ذلك ما اقترح في القمة الإنسانية العالمية لعام 2016. ويبدو أن تلك التطورات إنما هي إعادة مشاركة واعدة للموضوع واعتراف بالحاجة إلى الإجراءات الموحدة. إلاَّ أنه بينما يستمر الفاعلون المكرسون لجهودهم لهذا الموضوع في العمل دون كلل أو ملل للعثور على الحلول على المستويين الوطني والإقليمي ما زلنا نلاحظ غياباً كبيراُ للإرادة الدولية الجماعية الضرورية للتصدي لمشكلة النُّزوح الداخلي. فمنذ أواخر عام 2016 كان جل التركيز والاهتمام الدولي منصباً على العقدين العالميين حول اللاجئين وحول الهجرة، ولم يكن أي منهما يعالج معالجة حقيقية النُّزوح ضمن حدودها الوطنية.[2]

ولا شك بأن الذكرى ال 20 للمبادئ التوجيهية قد ولَّدَت زخماً جديداً حول هذا الموضوع في عام 2018، لكنَّ ما نحتاج إليه هو المشاركة المستدامة رفيعة المستوى إذا ما أريد ضمان عدم ضعف هذا الزخم وزواله في النهاية. وأهم ما في الأمر أن على أي عملياتِ رفيعة المستوى أو مفاوضات أن تؤمن المشاركة الجوهرية والمستمرة للدول الأكثر تأثراً بالنُّزوح الداخلي والتي لديها الخبرة في التعامل معها على أنها واقع معاش. فدون تلك المشاركة لن نصل إلى القبول السياسي والتنفيذ الملموس. كي تكون هذه المشاركة دامجة وشاملة بحق لا بد من السعي وراء منظورات النَّازحين داخلياً وتصوراتهم ولا بد من فهمها بدلاً من التعامل معها بعد فوات الأوان.

ويجب علينا أن نعزز فهماً بأن أزمات النُّزوح الداخلي غالباً ما تتضمن مساراتِ تنموية إشكاليةِ وينجم عنها عواقب وتبعات تتجاوز العواقب الإنسانية المباشرة. وللتصدي الكامل لمحركات النُّزوح وآثاره ولتوفير ذلك النوع من الإجراءات السياسية والعملية لمنع النُّزوح وخفضه لا بد لنا من الحصول على فهم أفضل وتطوير طرق الاستجابة إلى الآثار الاقتصادية والإنمائية بعيدة الأمد للنزوح على النَّازحين داخلياً ، وعلى المجتمعات التي يعيشون بها ، وعلى الدول على العموم، ولا بد من الاستجابة أيضاً إلى الروابط القائمة بين النُّزوح الداخلي والتَّهجير العابر للحدود ولا بد من الانتباه إلى خصوصيات النُّزوح الحضري وآثار التغير المناخي والقواسم المشتركة بين الكوارث بطيئة الحدوث والنزاع ودور المشروعات التنموية والعنف الجنائي في التسبب بالنُّزوح.

وسيتطلب ذلك من الدول والمنظمات الإنسانية وهيئات الصناعة وهيئات بناء السلام والجهات الفاعلة الإنمائية التفكير بإبداع حول الطريقة التي تجمع فيها البيانات وتحلل، لكي يتمكنوا من تعقب حاجات النَّازحين داخلياً ومواطن ضعفهم والوقوف على الطريقة التي تتطور بها تلك الحاجات ونقاط الاستضعاف مع مرور الوقت، ومعرفة الأمور التي تنجح وغيرها التي لا تنجح في التصدي للنزوح الداخلي في مختلف السياقات. وليس القصد أن نقول إن هناك حلولاً ثابتة تصلح لكل المشكلات الخاصة بأزمات النُّزوح الداخلي، بل إننا نقول إن هناك افتراضات مشتركة يمكن أن تقوم عليها عملية بناء السياسات.

أمَّا عندما تكون الحكومات هي نفسها سبب النُّزوح فوقتها يجب على المجتمع الدولي أن يحسن من عملية التنسيق في الاستجابات على مستوى العمليات، والعمل في الوقت نفسه على المستوى السياسي لدعم المبادرات المختلفة مثل بناء السلام وفض النزاعات والوصول إلى العدالة والمساءلة إزاء انتهاكات حقوق الإنسان. ومع ذلك يجب إعطاء الحكومات ما أمكن دور القيادة والريادة في هذا الموضوع بدعم من المجتمع الدولي والهيئات الإقليمية وبتنسيق وثيق مع السلطات المحلية. وفي سبيل ذلك سيكون عليهم إدماج مسألة النُّزوح الداخلي في الإنماء بعيد الأمد، والتخطيط للتكيف مع التغيرات المناخية والاستثمار في جهود خفض مخاطر الكوارث الطبيعية. وينبغي للاستجابات الإنسانية أن تستجيب لحاجات النَّازحين داخلياً دون إهمال المجتمعات التي يعيشون فيها. أما بخصوص اللاجئين العائدين خاصة في السياقات التي ينتشر فيها الانفلات الأمني فيجب دعمهم للتأكد من ألا يصبح العائد نازحاً في غياب الحلول الدائمة.

ولا شك أن هناك عوائق كثيرة يجب التغلب عليها. منها المخاوف المتعلقة بالسيادة والجمود المؤسسي وجاذبية استخدام مقاربات الأعمال بالطريقة المعتادة وانخفاض القدرات وغياب الموارد التي تواجهها البلدان التي تعاني من أزمات كبيرة مطولة وصعوبة القياس والفهم الكاملين للظواهر. لكِنَّ هذا التحدي لا يمكن أن يكون مستحيلاً بل هو تحد ينبغي لنا أن نحاول مواجهته.

ألكساندرا بيلاك alexandra.bilak@idmc.ch المديرة

أڨيغايل شاي avigail.shai@idmc.ch مستشارة سياسية

 مركز رصد النُّزوح الداخلي www.internal-displacement.org

حلقات النُّزوح

أجرى مركز رصد النُّزوح الداخلي بحثاً مؤخراً ضم فئة من اللاجئين العراقيين في الأردن وفي السويد (وسوف يستكمل هذا البحث قريبا ببحث آخر مع اللاجئين العائدين والنَّازحين الداخليين في العراق) ويؤكد هذا البحث على العلاقة بين النُّزوح الداخلي والتحركات العابرة للحدود. ومن أهم النتائج المبدئية التي توصل إليها البحث وجود ارتفاع كبير في أعداد اللاجئين الذين واجهوا من قبل حالة النُّزوح الداخلي نتيجة اضطرارهم للتحرك عدة مرات ما أدَّى إلى تدهور مواطن الضعف عندهم واستنزافهم للاستراتيجيات المحدودة التي كانوا يستخدمونها لمسايرة الظروف.

فقد هربت سارة[3] وعائلتها على سبيل المثال من بيتها في بغداد عندما حاولت إحدى الميليشيات المحلية تجنيد ابنها اليافع قسراً. فهربت العائلة إلى بابل وعاشوا هناك مختفيين لأشهر عدة قبل اكتشاف الميليشيات لأمرهم مرة. ونتيجة لتخوفات العائلة حول ابنها هربت إلى أربيل ولم تكن العائلة قادرة على البقاء في كردستان بسبب وجود متطلبات خاصة بالكفيل فاضطرت العائلة إلى عبور الحدود إلى تركيا ومن ثم وجدت طريقها إلى السويد.

وأكرم أيضاً من بغداد غادر بيته بعد أن هددته مجموعة مسلحة بالقتل إذا رفض أن يبيعها بيته. فهرب إلى بيت أخته في قراقوش. ثم بعد أن سيطر تنظيم الدولة الإسلامية على قراقوش عاد أكرم إلى بغداد للبحث عن ملاذ آمن له في مكانه السابق الذي كان يعمل به، وبعد عودته بقليل إلى المدينة تلقى أيضاً اتصالاً هاتفياً تهديداً من الجماعة المسلحة نفسها ففر بجلده إلى الأردن بحثاً عن السلامة والملاذ الآمن.

لكنَّ السلامة لا تكفي دائماً. لأنَّ اللاجئين إن لم يتمكنوا من إعالة أنفسهم في البلدان المضيفة فسوف يفضي الأمر بكثير منهم إلى العودة الدائمة إلى بلدانهم الأصلية التي قد ينتهي الأمر فيها أيضاُ بهم بأن يصبحوا نازحين داخلياً. وتتضاعف المخاطر على وجه الخصوص في حالة العودات السابقة لأوانها أو العودات غير الطوعية. وبينما عاد 560 ألف لاجئ ومهاجر غير موثق إلى أفغانستان من باكستان وإيران في عام 2017 عجز كثير من العائدين عن إعادة التوطين في مكانه الأصلي بل واجهوا كثيراً من التحديات في إعادة الاندماج في أماكن أخرى بسبب الانفلات الأمني وغياب الخدمات أو فرص سبل كسب الرزق.[4]وكما أنَّ النَّازحين داخلياً يصبحون لاجئين في غياب أي تقدم نحو الحلول الدائمة، يقع لاجئو اليوم تحت خطر التحول إلى نازحين داخلياً غداً.

كلووي سيدني chloe.sydney@idmc.ch شريكة بحث، مركز رصد النُّزوح الداخلي

[1] Internal Displacement Monitoring Centre (2018) Global Report on Internal Displacement

(التقرير العالمي حول النُّزوح الداخلي)

www.internal-displacement.org/global-report/grid2018

[2] لعل ذلك لا يدعو للدهشة نظراً لأنَّ النُّزوح الداخلي يَمَسُّ قضايا تتعلق بالسيادة. ولدرجة ما، تعكس أيضاً غياب تفويض قيادة واضح حول القضية ضمن منظومة الأمم المتحدة.

[3] جميع الأسماء الواردة في هذه المقالة مستعارة

[4] انظر الحاشية 1، ص. 36 وانظر أيضاً مقالة مجيدي وتايلر في هذا العدد.  

إخلاء مسؤولية

جميع الآراء الواردة في نشرة الهجرة القسرية لا تعكس بالضرورة آراء المحررين ولا آراء مركز دراسات اللاجئين أو جامعة أكسفورد.